يشكل كتاب "مدخل إلى الخطابة" لصاحبه أوليفيي روبول من الكتب المهمة جداً، إن لم نقل من المصادر والمراجع الأساسية جداً في حقل الخطابة والحجاج، فلا يمكن دراسة هذا الحقل الأخير ويستحيل دراسته دون العودة إلى هذا الكتاب، الذي نعلن منذ هذه اللحظة، أنه يشكل "إنجيل الخطابة"، وصدر هذا الكتاب لأول مرة في لغته الأصلية الفرنسية سنة 1991م، من طرف دار النشر الفرنسية الشهيرة: المطابع الجامعية لفرنسا Presses Université de France وتعرف إختصاراً ب "PUF"، وهو بالمناسبة يشكل أواخر ما كتبه روبل، أي قبل آخر كتاب له المعنون ب "قيم التربية" والذي سيصدر سنة 1992م، وما يهمنا حالياً هو كتاب "مدخل إلى الخطابة" الذي سننتظر حتى سنة 2017م لتصدر أول طبعة منه باللغة العربية لغة الضاد، وهذا يعني أننا انتظرنا ما يقارب 26 سنة، ليترجم إلى لغتنا العربية، وسهر على هذه الترجمة الأستاذ والمترجم الفذ : رضوان العصبة، وراجع الترجمة عن أصلها الفرنسي الفيلسوف التحليلي الحاذق: الدكتور: حسان الباهي، وجدير بالذكر، أن ترجمة الأستاذ رضوان العصبة لم تخن النص بتاتاً، والقارئ له أكيد لن يفرق بين أصله باللغة الفرنسية وترجمته للغة العربية، خاصة عندما اطلعنا على النسخة الفرنسية، واكتشفنا مدى دقة وفعالية الترجمة العربية، كما نشير أن المترجم أفرد مقدمة من الطراز الرفيع تخصه، ولا أنكر أنني لم أستطع التمييز بينها وبين مقدمة الكتاب حتى أنهيتها، ويمكن اعتبارها مدخلاً وقراءة جيدة للمتن الروبولي، بعدها مباشرة قدم روبول تقديما موجزا لكتابه، وبعد التقديم عرض تعريفه للخطابة ووظائفها الأربعة:

الوظيفة المقانعية (الحجاجية والخطبية) والتأويلية والكشفية والتربوية.

والكتاب يحتوي على تسعة فصول كالآتي:

الفصل الأول: أصول الخطابة في اليونان.

الفصل الثاني: أرسطو، الخطابة والجدل.

الفصل الثالث: النسق الخطابي.

الفصل الرابع: من القرن الأول إلى القرن العشرين.

الفصل الخامس: الحجاج.

الفصل السادس: التصويرات.

الفصل السابع: القراءة الخطابية للنصوص.

الفصل الثامن: كيف نحدد الحجج؟

الفصل التاسع: أمثلة عن القراءة الخطابية.

إن أعمال مارتن هايدجر صعبة بسبب حداثتها وتعقيدها. ويمكننا أن نشير في تلخيص أعماله إلى عدة ظواهر أساسية تحدث عنها، ولكننا لا محالة ندرك أولاً هذه الظواهر على نحو لم يقصده هايدجر. ولا يمكن أن يكون هناك بديل لمواجهة أعماله بشكل مباشر.

إن هايدجر (1889-1976) هو بلا شك الفيلسوف الأبرز في القرن العشرين، وهو بلا شك الفيلسوف الأبرز في التقليد القاري أو الأوروبي. ومن بين أولئك الذين درسوا معه أو تأثروا به بشكل كبير هناك العديد من أشهر المفكرين في السنوات الخمس والسبعين الماضية: حنا أرندت، جاك دريدا، ميشيل فوكو، هانز جوناس، هانز جورج غادامير، جاكوب كلاين، ألكسندر كوجيف، كارل لويث، هربرت ماركوز، جان بول سارتر، وليو شتراوس.

درس هايدجر أعمال الأساتذة الألمان البارزين خلال زياره الدراسي وفي سنوات التدريس المبكرة (تقريبا 1910-1925)، لكنه تأثر بشكل كبير بإدموند هوسرل، مؤسس المحاولة "الفينومينولوجية" لوصف ومناقشة الأمور تماما كما تقدم نفسها لنا، وتوضيح من نحن وما نتسبث به كمكسب عندما نسمح للأشياء بإظهار نفسها لنا للمراقبة أو الاستخدام.

كان هايدجر مهتما بشكل خاص بفهم معنى أو معقولية "الوجود"، لأن كل ما نتعامل معه بطريقة ما "موجود". أدى هذا الاهتمام إلى إصداره الأول والأهم، Sein und Zeit ( الوجود والزمان )، في عام 1927. اقترب من مسألة الوجود من خلال فحص كينونة "الوجود" البشري (أو Dasein ، حتى نستخدم لغة هايدجر)، لأنه يجب علينا دائما تحديد كينونتنا أو إمكانياتنا، وبالتالي يجب أن نفهم الوجود نفسه بطريقة ما. إلى جانب ذلك، في اختيار طريقنا، نعقل أيضا كيانات أخرى بمعناها.

تتساءل المقاربة الفلسفية لمعنى كلمة " المجازفة ": هل هذه الظاهرة تخص الإنسان من حيث المبدأ؟
يبدو أن هناك تشابهًا تاريخيًا مع سلوك سائقي الدراجات البخارية الشباب في سباق العربات في إلياذة هوميروس؛ لكن في هذا العالم اليوناني لم يكن هناك أي خطر لأن الآلهة كانت حاضرة. في ذلك الوقت، لم تكن كلمة "خطر" موجودة. تعود أصول كلمة "خطر" إلى اللغة البحرية للرومان وتعني في المقام الأول الشعاب الصخرية التي يجب تجنبها. ديكارت، مؤسس الذاتية، هو أول من تحدث عن المخاطرة بمعنى مشكلتنا: الشعور بالقوة من خلال المخاطرة. ومثل هذا الخطر ليس سوى ظاهرة في العصر الحديث. عندما يجتمع العلماء لمناقشة المخاطر التي قد يتعرض لها شباب اليوم، يمكننا أن نفترض أنهم سوف يحاولون بعد ذلك فهم، أو فهم أفضل، لمكونات هذه السلوكيات المحفوفة بالمخاطر وما ترتبط به. وعندما يجتمع العلماء من مختلف الفروع لمناقشة مثل هذا الموضوع، يكون لكل منهم منطلقه الخاص وطريقته الخاصة في الوصول إلى المعرفة بالموضوع المعني. ولكن، عندما يكون من بين هؤلاء المشاركين فيلسوف، وهو لا يرفض تمامًا الصورة غير التعسفية التي قدمها لنا ديكارت عن الفلسفة، وهي أن الفلسفة باعتبارها ميتافيزيقا ستكون أصل كل العلوم – وبالتالي فإن الميتافيزيقا ستكون أصل كل شيء. فروع العلم – ألا ينبغي لهذا الفيلسوف أن يأخذ بعين الاعتبار جذور مثل هذا المشكل الوجودي للخطر؟
لكي نبدأ في هذا الاتجاه، دعونا نطرح بعض الأسئلة ولنسترشد أولاً بعنوان الحالي من المبحث. إنه يتحدث إلينا عن الإنسان، أي عن الناس، أي الشباب أو المراهقين، وبشكل خاص، عن سلوكهم. ولا يتم ذكر ذلك على أنه أي سلوك، بل على أنه سلوك تحدده المخاطر. ولذلك فإن هؤلاء هم المراهقون الذين يكون سلوكهم مثيرًا للقلق إلى حد ما. وهذا القلق الذي يثيره المتأثرون بهذا السلوك المحفوف بالمخاطر هو الذي يمكن أن يحفز الرغبة في فهم مثل هذا السلوك بشكل جدي. بدافع من هذا الاهتمام المجازف، يمكننا، كخطوة أولى، أن نقود إلى تصنيف السلوك المعني على أنه محفوف بالمخاطر. وبهذه الطريقة نقوم بتأهيل بعض سلوكيات المراهقين والحكم عليها من أجل استيعابها وفهمها بشكل أفضل. ولكن ماذا نعرف عما يجب أن يجعل مثل هذا السلوك المثير للقلق مفهوماً؟ ماذا نعرف عن المخاطر؟ ألا ينبغي أن يكون لدينا معرفة جادة حتى نتمكن من توضيح الظاهرة لفهمها؟ هل نعرف ما هي المجازفة في حد ذاتها؟

تمهيد
سادت بين هيجل وشوبنهاور علاقة عداوة وبغضاء كان الخاسر الاكبر فيها شوبنهاور في عدم إمكانيته مجاراة خصمه اللدود هيجل، وقد عمد شوبنهور إلى استفزاز هيجل في الجامعة في محاولته تأليب الطلبة عليه في جعله توقيتات محاضراته هي في نفس مواقيت محاضرات هيجل، في مسعى تأكيد فرادته العبقرية الفلسفية وفشل  في مسعاه، وأصدر كتابه الشهير (العالم إرادة وتمثّل ) أراد التفلسف به، فلم يلق الكتاب أدنى إهتمام، لا يستحقه أصلا، إلا بعد مرور فترة طويلة من رد الاعتبار له. وفي هذه المقالة أستكمل مناقشة بعض آراء فيلسوف الارادة شوبنهور، بعد أن تناولته بمقالة سابقة نشرت لي بعنوان ( فلسفة شوبنهاور وبؤس الإرادة ).

هيجل والمطلق

عندما يقول هيجل الفن والجميل هو الوجود الحسّي في المطلق. نجد كم كان هيجل عميقا في أفكاره الفلسفية الثاقبة رغم نزعته المثالية، فهو يعتبر العقل  هو الروح المطلقة أو الفكرة المطلقة في إدراكها المتناهي محاولة الوصول لمرحلة أدراكها المطلق اللامتناهي، إذ يعتبر هيجل المطلق ليس مفهوما ميتافيزيقيا متواريا خلف محدودية إدراك العقل البشري أن يطاله. بل المطلق هو فكرة لا محدودة ولا متناهية في إدراكها موجودات الطبيعة بنفس آلية ممكنات إدراكها ما هو غير مادي ولا متعّين لا يدرك بالحدس الحسّي المباشر.

ولا فرق عند هيجل بين محدودية الإدراك الذاتي عن إدراك فكرة المطلق الذي لا يعتمده هيجل ولا يتعامل معه ميتافيزيقيا. ويبدو من فلسفة هيجل أنه لا يتنكر لوجهة النظر الفلسفية التي ترى الانسان وجودا وجوهرا ميتافيزيقيا لا يمكن نزعها ولا مصادرتها منه.

المطلق المدرك عقليا حسب الفهم الهيجلي هو الإمكانية غير المحدودة في إدراكها اللامتناهي في تفعيل الخيال بدلالة العقل في محاولة الوصول الى مابعد اللغة والتعالي على محدودية الادراك الحسي. وضرب هيجل مثلا على ذلك الفن والجمال بمقولته الفلسفية " أنّه الوجود الحسّي في المطلق" بمعنى الوجود الحسّي هو إدراك ذاتي ليس غايته إثبات وجود الذات الانطولوجي بالمغايرة المادية أو غير المادية الخيالية، بل هو إدراك مطلق الوجود ورغبة وصول إدراك (الانا) تخوم ما يعجز بلوغه العقل في محدوديته الإدراكية خارج بلوغ فكرة المطلق والوصول له بالعقل الخيالي لا بغيره الذي يعبر المتّعينات الكينونية التي تحّد من إنطلاقة الحس الإدراكي المحدود أنطولوجيا. فالمتصّور الخيالي للمطلق هو تحقق وجود العقل في إدراكه ألاشياء بالطبيعة وفي والكوني معا.

من المعلوم جيدا أن الوجود الحسّي لمدركات الوجود هو متناه محدود لا يتجاوز قدرة إستيعاب منظومة العقل الإدراكية للاشياء خارج أبعادها في محدودية الإدراك الحسّي لها.، وبهذه المحدودية للعقل حسّيا لا يمكنه بلوغ ما هو مطلق لا متناهي الوجود. من حيث الوجود الحسّي بحكم محدوديته الإدراكية فهو لا يأخذ منتهى مداه في فضاء اللانهائي المطلق. ولا يأخذ الوجود الحسّي منتهى إدراكه في تحققه الوجودي من غير التحليق خارج محدوديته التي تسلبه قدرة الوصول لفضاء إدراكي لامحدود.

توطئة

يمكننا البدء بإدانة هيجل في إختلاقه فكرة المطلق العقلي الواقعي الذي يحتوي كل شيء في الوجود. فهو قد اختلف مع اسبينوزا من منطلق أنه لا يؤمن بوحدة وجود تقود الى إيمان ديني بوجود خالق هو جوهرأزلي لكل موجود كما أراد اسبينوزا إثباته. وفي الحقيقة، أصبح مذهب وحدة الوجود تتوزّعه العديد من الإجتهادات التجاذبية بين الديني واللاديني، بين الروحي والنفسي، بين المتناهي واللامتناهي، بين الصوفية الدينية والفلسفة.

1-  المتناهي واللامتناهي

التفكير متناه في محدودية القدرة على معرفة وفهم أشياء من العالم وليس كل العالم. ويكون التفكير الخيالي خاملا حسب توصيف ديفيد هيوم كونه يستنفد نفسه قبل تمام إدراك مواضيعه المستمدة من عالم لامتناه. لا يتمكن التفكير الخيالي التموضع الكامل في إدراكه اللامتناهي. عن هذه الحقيقة يعبّر ديكارت ")ربما يوجد ما لانهاية له من الاشياء في العالم، وفي المباينة مع ذلك فليس عندي في الفاهمة أية فكرة عنه".(

ليس بعيدا ولا غريبا تكرار المقولة الفلسفية أن ما يعرفه الانسان ليس أكثر مما يدركه فعلا.في محاولة المتناهي المحدود معرفة اللامتناهي المطلق محاولة عقيمة لا معنى لها، فالتفكير الخيالي لا يستطيع فهم أشياء لا تكون لها معرفة صورية حتى بالتعريف البسيط لها بالذاكرة... يصف بول ريكور الإرادة بأنها ذات سعة ومجال بلا نهاية.

ألارادة لها سعة ومجال تفكيري بلا نهاية صحيحة، لكن فاعلية الإرادة التخييلية إنما تكون في المتحقق المنجز لما تقصده وتبتغيه..ويقصد باللامتناهي المطلق فلسفيا هو الخالق غير المدرك بصفاته ولا حتى بأدنى بعض ماهويته الإفتراضية الذاتية. هذا اللامتناهي الذي لا يمكن الإحاطة به. أما المتناهي فهو المدرك الذي يمكننا تحديده بالمقارنة مع متناهي آخر يشاركه المجانسة النوعية.،،وهو محال تعجيزي للعقل في مسالتين الاولى انه لا يمكننا ادراك لامتناهيين اثنيين يتشاركان المجانسة النوعية ويوجدان باستقلالية عن بعضهما. الثانية عدم استطاعتنا تحديد اللامتناهي لأننا نحتاج الى حده بشيء يجانسه النوع وهومحال. تعجيزي لمحدودية الادراك العقلي.أي يتعذر تحديد اللامتناهي بشيء يمتلك قدرة المداخلة الجدلية مع المتناهي. هنا أود تثبيت نقطتين لماذا نستطيع إدراك المتناهي ولا نستطيع إدراك اللامتناهي،؟

إدراك المتناهي هو إدراك لشيء متعّين محدد بخواص المادة التي تدركها عقولنا (الطول، العرض، الارتفاع ، الزمن). وهو ما لا ينطبق على اللامتناهي الذي لا يمتلك مثل هذه الصفات التي يدركها العقل. والسبب الثاني أن كل محدود هو سلب بتعبير اسبينوزا وهيجل، أي كل محدود يفقد العديد من الصفات الايجابية التي يمتلكها لحساب تعينّه المادي السلبي. فاللامتناهي لا يخضع لتجريد عقلي يدركه بتحديد صفات له لا يستطيعه اولا ولا مدركا من قبل العقل ايضا.

إن الحديث عن الكذب يعني في الأساس الإجابة على سؤالين: الأول يتعلق بحقيقته: ما هو الكذب؟ والثاني يقع على المستوى الأخلاقي: هل يجوز الكذب؟ قدم أوغسطين إجابات على هذين السؤالين في اثنين من أعماله المخصصة للكذب: "عن الكذب" (De mendacio) و"ضد الكذب" (Contra mendacium). وقد تناول قبله فلاسفة وكتاب العصور القديمة هذا الموضوع في مؤلفاتهم: أفلاطون والرواقيون في اليونان، وشيشرون وكينتيليان في روما. وتبعهم آباء الكنيسة أيضا، مثل إكليمنضس الإسكندري وأوريجانوس وهيلير أسقف بواتييه والقديس يوانوس كريسوستوموس (أو يوحنا الذهبي الفم)، كل ذلك قبل القديس أوغسطين. وقد تم تخصيص دراسات جزئية لواحد أو أكثر من هؤلاء المؤلفين أو لتيار فكري. ومع ذلك، يبدو أنه لا توجد دراسة ركزت على التطور الكرونولوجي لهذه التيمة لمعرفة ما إذا كانت هناك استمرارية أو ما إذا كان قد حدثت قطيعة في الطريقة التي تحدث بها هؤلاء المؤلفون المختلفون عن الكذب.

إن الغرض من هذا المقال هو إظهار أنه إذا كان لآباء الكنيسة قبل القديس أوغسطين نفس الخطاب تقريبًا حول الكذب مثل المؤلفين الدنيويين، فإن الأمر مختلف بالنسبة لأسقف هيبو. فبعد أن نبين وجهات نظر الكتاب اليونانيين والرومان في الكذب، ثم آراء آباء الكنيسة الذين سبقوا أوغسطين، سنعرض مذهب أسقف هيبو مع إبراز أوجه التشابه والاختلاف مع أسلافه.

1. الكذب من منظور المؤلفين القدماء

إن التعريف الذي قدمه ستوبايوس ونيجيديوس للكذب يعكس التصور الذي كان لدى المؤلفين القدماء عنه. وكلاهما يفرق بين "الكذب" و"قول الكذب". في كتابه "المتفرقات" (Eclogae II، 7)، كتب ستوبايوس يقول: “لا يتمثل الكذب في قول شيء خاطئ، بل في قول الخطإ كذبا وبهدف خداع شخص قريب”. نجيديوس، الذي يشير إليه أولو جيلي في "ليالي العلية" (Nuits attiques)، يكمل هذا التعريف: “بين قول الكذب والكذب، هناك فرق كبير: وهو من يكذب لا يخطئ، يريد أن يخدع؛ ومن يقول الكذب هو نفسه مخدوع". ويضيف نجيديوس ما يلي: “من يكذب يخدع بقدر ما يستطيع، أما من يقول الكذب فلا يخدع، على الأقل عن طواعية”. ويقول مرة أخرى في نفس الموضوع: “على الإنسان الصالح أن يحترس من الكذب، وعلى الإنسان الحذر أن يحترس من قول أكذوبة: الأول يكون إنسان والآخر يبقى دون ذلك”. الكذب، كما عرّفه هذان المؤلفان، يفترض شرطين: الرغبة المتعمدة في الكذب، ونية الخداع. حول هذين العنصرين بنى الكتّاب القدماء أفكارهم حول الأكاذيب.

1.1. أفلاطون والكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات

يميز أفلاطون في كتاب "الجمهورية" بين نوعين من الكذب: الكذب الحقيقي والكذب بالكلمات. الكذب الحقيقي هو الكذب المتعمد الذي يزرع الجهل والخطأ في نفوس المخدوعين: "الكذب العفيف أي جهل روح من وقع خداعه". هذا الكذب مكروه ليس فقط من قبل البشر، ولكن أيضا من قبل الآلهة. ويحدد أفلاطون أيضا أن أخطر كذبة هي تلك التي ترتكب ضد الآلهة: "إنها في الواقع أكبر من كذبة من يعبر عن نفسه بشكل مخادع بطريقة مناسبة، عندما يتحدث عن الكائنات العليا". إن مثل هذه الكذبة ليست سوى تجديف على الآلهة. كما يدين أفلاطون الشاعرين هوميروس وهسيود اللذين قدما تمثيلات غير أخلاقية وغير مقبولة عن الآلهة. منعهم (الشعراء) من تعليم حراس المدينة المستقبليين وأعطي الحكام الحق في فرض رقابة على أعمال الشعراء لأنها تقدم صورة منحرفة عن الطبيعة الإلهية. وفي نفس السياق، يجب التغاضي عن أعمال العنف والقسوة المنسوبة إلى الآلهة، خشية من أن تصبح مصدرا لتقليد الأطفال.

من ناحية أخرى، يستبعد أفلاطون إمكانية الاعتقاد بأن الآلهة يمكن أن تكذب: فالكائن الإلهي لا يمكن أن يكون لديه انحراف ولا إهمال للكذب، لأن فكرة الكذب بحد ذاتها تتعارض مع فكرة الألوهية: "الإلهي والشيطاني هما النفي المطلق للكذب". ومن ثم، فإن الله لا يحتاج إلى الكذب ليمثل، على طريقة الشعراء، الأشياء القديمة في خيالات عالمة، كما لو أنه لا يعرف كيف حدث كل شيء، ولا ليخدع أعداءه لأنه يخشاهم، ولا ليبطل آثار جنون أصدقائه، فليس كل من يوجد في حالة جنون يكون صديقاً لله. ولا يجوز أيضا الاعتقاد بأن الآلهة يمكنها تغيير شكلها.

الترجمة:
تمهيد
حافظ مارتن هيدجر وكرل ياسبرز من عام 1920 إلى عام 1963، على مراسلات وثيقة: أكثر من 150 رسالة، والتي توفر رؤية قيمة لشخصية الرجلين... وقد تم جمع هذه الأمور معًا في هذا العمل الذي نشرته دار غاليمار الباريسية. لذلك، بفضول كبير، نتعمق في قراءة هذه الرسائل: فهي تكشف عن اختلافات عميقة، فلسفية وسياسية، بين المفكرين، اللذين سينجرفان بعيدًا حتى القطيعة...

السياق

وكما يصرح كارل ياسبرز في سيرته الذاتية الفلسفية ، فإن كل شيء يبدأ بعيد ميلاد: عيد ميلاد هوسرل، في فريبورغ. حول الطاولة، بالإضافة إلى هوسرل، تم تقديم زوجته وعدد قليل من الأصدقاء، مارتن هايدجر، على أنهم الطفل الظاهري لكارل ياسبرز وزوجته. يتعاطف الرجلان مع قضية طالب تم رفض قبوله في مدرسة هوسرل بسبب مشاكل إدارية. هذا التضامن ضد النظام الأكاديمي القائم يجمع الرجلين معًا. يزوره كارل ياسبرز وتتقوى الصداقة بينهما وتبدأ المراسلات بينهما. كان كارل ياسبرز حينها يبلغ من العمر 37 عامًا. وهو يكبر هيدجر بست سنوات، وهو أستاذ علم النفس في كلية هايدلبرغ، ويعمل في مستشفى للأمراض النفسية في المدينة.  أما هيدجر فهو أستاذ الفلسفة في جامعة فريبورغ: لقد عاد لتوه إلى التدريس، بعد أن تم تعبئته لمدة عامين خلال حرب 1914-1918. إذا كان هيدجر يخاطبه في البداية باحترام، مثل أحد كبار السن، فإن كارل ياسبرز يريحه بروح الدعابة: ملاحظة أخرى: هل من الممكن أن لا تعطيني لقب "أستاذ"؟ منذ متى بدأنا علاقة فلسفية؟ أم أن ثقتك بي قليلة جدًا؟.

ولادة الصداقة

ثم يتبادل الرجلان وجهات النظر مثل أقرانهما، متحدين في نفس رفض الصعوبات الأكاديمية والجامعية. طلابهم هم أنفسهم أهداف لاتهاماتهم المتبادلة. وهكذا هيدجر: إن رأيي في الطلاب وحتى الطالبات اليوم قد فقد كل تفاؤل: فالأفضل أنفسهم إما هم المستنيرون (الصوفيون الذين استقروا بالفعل في اللاهوت البروتستانتي)  أو على العكس من ذلك، يقعون في الشره المرضي للقراءة والقراءة غير الصحية.  العلم الجامع، أي الذي لا خير فيه. ويشن هيدجر هجمات شرسة على بعضهم: هذا هو الفصل الدراسي الثاني الذي يقضيه كل منا هنا - لا أستطيع أن أقول إنني أعرفه، وهو أمر ليس بالأمر السهل بالنسبة له - ليس لأنه شخص معقد للغاية، ولكن لأنه غير مستقر تمامًا، ومهمل، ومتهور. ربما غير أصيل تماما. عندما وصل هذا الصيف، أصبح متحمسًا تمامًا لهوسرل، كل تافه كان وحيًا، كل صياغة جملة كلاسيكية، قرأ مخطوطات لهوسرل، نسخها ولم يترك جانبه أبدًا، حتى أنه خطط لعمل فلسفي حول اللغة. في بداية هذا الفصل الدراسي، لا بد أن شيئًا ما قد حدث بين الرجلين؛ لقد أصبح هوسرل الآن موضع رفض جذري، والانتقادات التي أعبر عنها تؤخذ بشكل طفولي من جانب واحد. ولا يوجد شيء مفهوم تقريبًا هناك. تحيط به دائرة معينة من الأشخاص العاديين، الذين يجتمعون دائمًا للدردشة، والذين يحاولون التمسك بي، دون أن ينجحوا. يعتقدون أنهم بتكرار الجمل من دروسي قد فازوا. لكنهم لا يلاحظون مدى إحكام سيطرتي عليهم. كما هو الحال في الفصل الدراسي الأخير مع هوسرل، فهو الآن يقسم على مقرري الدراسي الذي لم يفهمه. وقبل كل شيء، يتحدث الرجلان عن "كرة" التعيينات، على أمل الحصول على منصب معين، ويتأسفان عندما يتم منحها لمنافس أكثر سعادة، ويوجهان إليه بعض الانتقادات اللاذعة على طول الطريق. لا شيء سوى كلاسيكي للغاية في مهنة الجامعة.

انطلاقاً من عنوان هذا الكتاب المثير : "المعلم الجاهل خمسة دروس حول التحرر الذهني" لمؤلفه جاك رانسيير، ترجمة: عز الدين الخطابي، الصادر عن: "مؤسسة عبد المحسن القطان مركز القطان للبحث والتطوير التربوي رام الله-فلسطين"، عن دار الأهلية للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية، 2016، أما عن صفحات الكتاب التي تحتوي على المتن المترجم فهو 130 صفحة وفقط، تندرج تحتها حتى مقدمة الطبعة الثانية التي قام بها المركز للكتاب، مع مقدمة الترجمة العربية من إنجاز وسيم الكردي، إضافة إلى مقدمة ثانية عنوانها: <<الجهل في الثقافة العربية الإسلامية-النفري مثالاً>> وهي عبارة عن شِعْرِ مقتبس من (النفري، المواقف والمخاطبات)، والتي تحيل -من وجهة نظري- إلى أن هناك سبقاً عربيا أو تأصيلاً عربياً لمفهوم الجهل في الثقافة العربية الإسلامية نلمسه في متن النفري في كتابه وأشعاره "المواقف والمخاطبات"، رغم أنه بعد قراءة الكتاب يتبين للقارئ أن هناك فرقا كبيرا بين جهل النفري و المعلم الجاهل، عنوان الكتاب!
وبالعودة دائماً إلى عنوان الكتاب، الذي سرعان ما يثير إنتباه أي قارئ جيد، أو مهتم بحقل التربية والتعليم والتكوين، فعندما نقول المُعَلِّمِ هو العَارِفُ، والقَارِئُ، والمُثَقَّفُ، والعَالِمُ، ورَسُولُ المَعْرِفَةِ والعِلْمِ عملاً بقول الشاعر: "قُم للمُعَلِّمِ وَوَفِّهِ التَّبْجِيلاَ، كاد المُعَلِّمُ أن يكون رَسُولاً." أنذاك نكون جميعاً متفقين على أن المعلم المقدس في ضوء ثقافتنا العربية الإسلامية يستحق كل ذلك وأكثر، لكن عندما يتجرأُ جاك رانسيير ويعنون كتابه الشهير ب "المعلم الجاهل" فهذا يتطلب منا نحن كقراء ومهتمين التساؤل عن ماذا يقصد جاك رانسيير بالمعلم الجاهل؟ لأن في هذا القول مساسا بقُدْسِيَّةِ المُعَلِّمِ، حتى عندما نقرأ في خلفية الكتاب التي عن هذا الكتاب:
"في سنة 1818 ساهم جاكوطو في زرع بذور ثورة بيداغوجية في أوروبا العالِمَةُ. فهو لم يكتف بتعليم اللغة الفرنسية لطلبة من منطقة الفلاماند دون تقديم أي درس، بل شرع أيضاً في تعليم ما يجهله، مطلقا بذلك شعار "التحرر الذهني".
وقدم جاك رانسيير في هذا الكتاب تحليلاً عميقاً لأطروحات هذا البيداغوجي المتميز، وأنعش ذاكرتنا بفلسفة منسية، دافعة عن التكافؤ بين ذكاء البشر أينما وجدوا. وهو ما تلخصه هذه القولة لجوزيف جاكوطو: "إن التعليم مثل الحرية، فهو يؤخذ ولا يمنح."
أما عن محتويات الكتاب، فهو يضم خمسة فصول، لكل منها عنوان رئيسي يتميز به عن الفصل الأخر، وكل فصل يحتوي عناوين فرعية مهمة جداً، عبارة عن كلمات مفتاحية تساعد في فهم الأطروحة الماكرو للكتاب وخطوطه العريضة أو بمثابة بوصلة ومفاتيح لفهم الكتاب، أما عن العناوين الرئيسية للفصول الخمسة، فهي كالتالي:
الفصل الأول: مغامرة فكرية.
الفصل الثاني: درس الجاهِلِ.
الفصل الثالث: منطق المُتَسَاوِينَ.
الفصل الرابع: مجتمع الاحتقار.
الفصل الخامس: المُحَرِّرُ وَقِرْدُهُ.

ادموند هوسرل 1859- 1938 جيكوسلوفاكي المولد. درس الفلسفة على يد استاذه الفيلسوف السويسري فرانز برينتانو مخترع مصطلح الوعي القصدي بالفلسفة والذي اخذه عنه هوسرل وتم توظيف المصطلح بمعّية كل من سارتر وهيدجر وميرلوبونتي وفلاسفة الوجودية الذين استهواهم مصطلح الوعي القصدي في ادانتهم لكل من ديكارت وكانط. يعرّف هوسرل الوعي القصدي (انه خاصية كل شعور ان يكون شعورا بشيء). ولا اعتقد انه من غير البديهيات ان لا يكون لكل شعور موضوع يدركه.

الحقيقة التي اشرت لها في مقال سابق لي ان مصطلح الوعي القصدي ومصطلح الوعي الخالص كلاهما مصطلحان فلسفيان كاذبان ومزيفان سواء في ألاحتكام للمعرفة المجردة أوفي ألاحتكام للعلم التجريبي الطبيعي.. وذكرت سابقا واشير له هنا اذا كان ديكارت قال في الكوجيتو ان مجرد تفكير العقل كاف لاثبات الوجود الانطولوجي للانسان. والمأخذ الذي ادين به ديكارت من كل من هب ودب انه لم يذكر موضوع تفكير العقل بماذا ؟ (انا افكر اذن انا موجود).

 سبق لي وقلت إن ديكارت لم يكن مخطئا ولا ساذجا فلسفيا كون الحمولة النوعية لتفكير العقل هو ملازمة موضوع تفكيره له بمعنى ينعدم تفكير العقل حين لا يجد موضوعا يفكر به له معنى ودلالة معرفية.. ولا يمكن لتفكير عقلي ينبني عليه تحقق الوجود الذاتي للانسان ادراكيا بمعزل عن التفكير بما له معنى يدركه العقل وهو موضوع الوعي. حين تقول انا افكر وتسكت .فهذا يكون تحصيل حاصل انك تفكر بشيء اي بموضوع يهمك انت وحدك ولا يهم غيرك في ادراكه ومعرفته. الوعي بصورة عامة للمصطلح هو ان يكون إنفراديا يلازمه هدفه القصدي.

هنا كما سأوضحه لاحقا من الخطأ التفكير انه يوجد ثلاثة انواع من الوعي – يرجى مراجعة مقالتي السابقة حول هذا التمييز الذي ساوضحه هنا ايضا -  الوعي كمصطلح فلسفي عام، والوعي القصدي الذي يلازمه هدفه،وثالثا الوعي الخالص بمعنى الوعي المتسامي صوفيا فوق محدودية الادراك العقلي الواقعي. رأيي المثبت لا يوجد بالفلسفة سوى الوعي العام.

ديكارت كما هو معلوم عرّف العقل الفلسفي بمعنى خطاب التفكير او ما يسمى اللوغوس. وليس العقل البايولوجي الذي هو ما تحتويه الجمجمة من الدماغ والمخ والنخاع الشوكي وشبكة الاعصاب. العقل الفلسفي التجريدي الذي قصده ديكارت هو  جوهر خالد خلود النفس في تعبيره اللغوي عن المدركات والموضوعات والاشياء.  العقل جوهر خالد ماهيته التفكير المعرفي.

فاز "شات جي بي تي" بشعبية جارفة منذ اللحظة الأولى التي ظهر فيها للعلن بفضل قدراته الواسعة على توليد النصوص من بضعة أسئلة توجّه إليه، فضلًا عن سرعة الاستجابة التي تشعرك كأنك تتحدث مع شخص حقيقي يجلس في الطرف المقابل من المحادثة.
هذه المزايا دفعت بعض المستخدمين إلى الاعتقاد بأن "شات جي بي تي" هو نموذج ذكاء اصطناعي خارق لا يملك أي نقاط ضعف، ولكن هذا الأمر أبعد ما يكون عن الحقيقة، إذ إن قدرات النموذج قاصرة في العديد من الجوانب المتنوعة. وفي ما يلي 5 نقاط ضعف تعبر عن أوجه القصور في "شات جي بي تي".
1- الافتقار إلى الحس السليم
رغم أن "شات جي بي تي" يمتلك وصولًا واسعًا إلى تشكيلة كبيرة من المعلومات في مختلف القطاعات، فإن هذا لا يعني أن إجاباته دائمًا ما تكون صحيحة، ويعود السبب في ذلك إلى كونه معتمدًا على قواعد بيانات الإنترنت المفتوحة من أجل البحث عن الإجابات المناسبة وتقديمها، لذا يختلط الأمر في بعض الأحيان وتختلط المعلومات مع بعضها بعضا.
بالطبع حاولت "أوبن إيه آي" تخطّي هذا القصور في الإصدارات الحديثة من "شات جي بي تي"، إلا أنها تظهر بشكل عشوائي مع المستخدمين ولا يمكن توقع ظهورها، لذا لا ينصح بالاعتماد على "شات جي بي تي" أو أي نموذج ذكاء اصطناعي في المعلومات الدقيقة التي تتطلب خبراء مثل المعلومات الطبية أو السياسية الحديثة أو حتى أخذ النصح في المواقف الحياتية.
2- قيود على التعامل مع أكثر من أمر في وقت واحد
يستطيع "شات جي بي تي" استقبال عدد من المهام المختلفة خلال الرسالة الواحدة، إذ لا يوجد حاجز أمام هذا الأمر، ولكن النتيجة في العادة تكون مقتصرة على المهمة الأولى دون البقية، وكلما زاد تعقيد السؤال والمهام الخاصة به تكون النتيجة غير مرضية.
بالطبع، يمكن التغلب على هذا القيد بتفكيك المهام المعقدة إلى مهام أخرى صغيرة، وذلك بفضل قدرات "شات جي بي تي" على فهم تذكر الرسائل السابقة وإعادة استخدامها في الإجابة عن الأسئلة والتحديات الجديدة.

مقدمة
"سيكون القرن الحادي والعشرون روحانيًا أو لن يكون كذلك." يبدو أن الصيغة الشهيرة المنسوبة زورا إلى أندريه مالرو صحيحة: الأديان ليست مدفونة ومنسية في عالم يهيمن عليه التقدم، بل إنها تتكيف بل وتتكاثر. ولكن لماذا لا يكتفي الله برفض الموت، ويفعل هذا جيدًا؟ "لقد مات الله (توقيع: نيتشه)." إلى صيغة الفيلسوف الشهيرة، التي تكررت مرات عديدة على مدى قرن من الزمان، سعد شخص ماكر مجهول بإضافة هذا التصحيح: "لقد مات نيتشه (توقيع: الله)." ومنها الفعل: إن إعلان موت الله كان سابقًا لأوانه إلى حد كبير. لقد كان من المعتقد، لمدة قرن من الزمان، أن التاريخ يدين الدين. لقد اتفق علماء الاجتماع والمؤرخون والفلاسفة، من ماكس فيبر إلى مارسيل غوشيه ، على تشخيص "تحرر العالم من الوهم"، على الكسوف الذي لا رجعة فيه للحضور الإلهي في العالم المعاصر. منذ القرن التاسع عشر، كان يُعتقد أن العلم سيحل محل الخرافات بشكل لا يمكن علاجه، وأن التكنولوجيا ستحل محل السحر، وأن الطب سوف يطيح بالصلاة، وأن السياسة سوف تكون لها الأسبقية على المسيحية، وما إلى ذلك. يبدو أن كل شيء يدين الدين. وتميل الحقائق إلى تأكيد التشخيص: ففي معظم البلدان الغربية، كنا نشهد تراجعاً مستمراً في المشاركة الدينية وعلمنة الدول التدريجية. باختصار: الدين لا يستطيع مقاومة الحداثة. بل إن نظرية "العلمنة" شارك فيها معظم المتخصصين، وهو أمر نادر في العلوم الإنسانية. ومع ذلك، لمدة ثلاثين عامًا على الأقل، كان على علماء الاجتماع مواجهة الحقائق: لقد كانوا مخطئين. ويتجلى ذلك في الانبعاث العالمي لجميع أشكال التدين: صحوة الإسلام وصعود الإنجيلية البروتستانتية في جميع أنحاء العالم ، وإحياء المسيحية وانتشار الديانات الجديدة في أوروبا من الشرق. ، انبعاث الأديان في الصين ، وتكاثر الكنائس في أفريقيا، وظهور الشامانية الجديدة بين الأمريكيين الأصليين... في كل مكان، في آسيا، في أفريقيا، في أمريكا اللاتينية أو في الشمال، بقدر ما وتكثر في أوروبا الطوائف والحركات الدينية الجديدة. بينما تكافح الكنيسة الكاثوليكية للعثور على الدعوات الكهنوتية، على الأقل في أوروبا القديمة، يظهر المعلمون والوعاظ والقساوسة في كل مكان... رجال الأعمال في مجال الخلاص يحققون ثروات في جميع خطوط العرض.

لماذا عاد الله؟

يعترف بيتر ل. بيرغر بهذا بصراحة: "إن فكرة أننا نعيش في عالم علماني هي فكرة خاطئة. إن العالم اليوم متدين بشدة كما كان دائمًا." بالنسبة لهذه الشخصية العظيمة في علم اجتماع الأديان، فإن نظرية العلمنة - التي ساهم فيها إلى حد كبير من خلال أبحاثه السابقة - "خاطئة في الأساس". ولذلك بقي معالجة المشكلة من الأعلى إلى الأسفل. لقد شكلت صحوة الدين تحديا للفكر بشكل عام، ولعلم الاجتماع بشكل خاص. في كتابه "خلع السحر عن العالم"(1)، جمع بيرغر مجموعة من المتخصصين لدراسة التجديد الديني: من التأثير السياسي للإنجيلية البروتستانتية إلى ديناميكيات الإسلام، ومن الأهمية المتزايدة للدبلوماسية البابوية إلى يوحنا بولس الثاني ( انتخب عام 1978) لانتشار الأديان في الصين. وفي الخلفية هذا السؤال: لماذا عاد الله؟

هذا العمل الجماعي هو مجرد واحد من العديد من الأعمال التي تراكمت على مدى السنوات القليلة الماضية حول مكانة الدين في الولايات المتحدة، وحول انتشار الإسلام الراديكالي، وحول التقدم العالمي للطوائف. كل هذه الأدبيات، بمجرد وضعها في منظورها الصحيح، تقترح بعض الإجابات المحتملة على سؤال "عودة الله". إذا كانت الأديان تولد من جديد وتتجدد باستمرار، وإذا بدت وكأنها تمتزج بشكل جيد مع الحداثة، فذلك لأنها تستجيب للتوقعات الفردية والاحتياجات الجماعية التي لم يعرفها أي مجتمع حتى الآن. وهذه التطلعات ذات عدة مستويات: أيديولوجية سياسية، وأخلاقية، واجتماعية، وهوية، ومجتمعية، ووجودية، ومادية، وحتى علاجية. لاحظ بشكل عابر أن هذه التوقعات غالبًا ما تكون متشابكة مثل قطع اللغز، مما يجعل أي تصنيف خطيرًا.