اللغة
من غير المعقول والمقبول ان تكون اللغة رصفا لكلمات خالية من قصدية المعنى. فتعبير العقل باللغة لا ينتج ما لامعنى له. قصدية المعنى باللغة سابقة على شكلها الانتظامي صوت وشكل حروفي دال على معنى ضمن كلمات. والعقل واللغة تبطل فاعليتهما التفكيرية الادراكية عندما لا يكون هناك موضوعا لهما.

شكل الحرف اللغوي هو خاصية رمزية نحوية ما لم تكتمل بخاصية الصوت الذي هو المعنى. ومتى ما اكتسب شكل الحرف دلالة الصوت الخاص به نجده يتحرر من الرمزية ليصبح دلالة معنى تجريدي.

اشار جون سيرل فيلسوف العقل واللغة الامريكي الى تراتيبية علاقة ارتباط العقل باللغة بقوله هما يتوجهان الى الاشياء معا. العقل يتمثل الشيء ويقصده بالتزامن مع استحضار اللغة له. اي في التعبير عنه. ويعتبر جون سيرل هذا التزامن بين العقل واللغة تزامنا (آنيا).

في مداخلة مع هذه العبارة لجون سيرل أجد حقيقة اللغة غير الظاهراتية هي انها (لازمانية). ليس في إعتماد أن الآنية لحظة وقتية منحلة في تحقيب الزمن الارضي الى ماض وحاضر ومستقبل. (الآنية) حاضرا هي لحظة لا زمنية كما اشار ارسطو لذلك.

بل واذهب اكثر أن اللغة لازمانية لانها تعيش زمانا لا نهائيا ازليا غير محدود بحدود ادراكية ولا يقبل القسمة على نفسه او التجزيء. فالزمن واحد أينما وجد شيء في الكون يلازمه وليس ملازمة وقتية في الطبيعة الارضية وفي عالمنا الخارجي. عليه فأن الآنية لا تدرك بغير زمانية مغايرة لها حتى وإن كانت هي في حالة سيرورة من انحلال انتقالي من الحاضر كتحقيب وقتي الى سيرورة خارج الزمن النسبي الارضي.

تساؤلات تمهيدية

هل الانا (الذات) وهي ليست موضوعا ادراكيا من غير صاحبها ولا تمتلك ماهية خارج وصاية العقل المنفرد وليس الجمعي عليها في الدلالة المعرفية عن مختلف جوانب الحياة وحاجات الجسم. هل الذات حقيقتها الوعي الادراكي الاستبطاني الداخلي كموجود قائم بذاته في ملازمة الجسم لها؟ ام الذات من خلال وعيها لذاتها ووعيها موضوعات العالم الخارجي والعالم الداخلي هي ادراك استبطاني عقلي – نفسي مشترك؟ هل الانا موجود يدرك من غيره أم هو خاصية انفرادية لدلالة وجودها المغاير للذوات الاخرى ومع الاشياء في خاصيتها التفكيرية المجردة؟ أم الانا الذات موجود انطولوجي من خلال تعالقه بالشخصية الهوياتية للفرد تدخل في علاقة تجريد تواصلي مع الآخر ولا تكون موضوعا له على اعتبار الانا ماهيتها المتفردة هي مرجعية العقل المفكر لفرد؟ هل وعي الذات كتجريد إرادي سلوكي فاعل يرتبط بالاستشعارات والاحاسيس الجسمية والنفسية خارج وداخل الجسم في توليفة واحدة.؟ هل يمكننا فصل الذات عن الانا كما هو حال الافتراضية التي تذهب  فصل الفكر عن اللغة او فصل الشكل عن المضمون او فصل الصفات الخارجية عن الجوهر؟ هل يوجد عضو بايولوجي مثل جسم الانسان ينوب عن تمثيله الذات كما يذهب له فيلسوف الوجودية جبرييل مارسيل؟ هل من المتاح أن تنفصل الذات عن الجسم في علاقتها بعالمي الانسان الخارجي والداخلي الاستبطاني وحتى العالم الخيالي؟ الانا والانا الاعلى والهو تراتيبية فرويدية لتجليات الذات النفسية السلوكية حسب حاجة الشعور واللاشعور. من البديهي الانا التي هي الذات التي تعي وجودها بالمغايرة الموجودية مع غيرها من الاشياء والموضوعات كتفكير تجريدي تختص به الذات دون غيرها. يذكر دي بيران (اخطاء الميتافيزيقيين الذين يخلطون بين الانا التي هي الذات النسبية القائمة بالمعرفة وبين النفس التي هي موضوع مطلق للاعتقاد) 1. هذه واحدة من الخلط الذي وقع به جبرييل فيلسوف الوجودية كما سيتوضح معنا بهذه الورقة. فالذات والنفس كلاهما موضوعان مطلقان للاعتقاد.

ولدت حركة التنوير في أوروبا في القرن الثامن عشر. وقد حصلت على اسم التنوير في إنجلترا و الأنوار Aufklärung في ألمانيا. وأشهر ممثليها، بالإضافة إلى عمانويل كانط، ومونتسكيو، وفولتير، ودينيس ديدرو، وجان لورون دالمبر، وجان جاك روسو، وباروخ سبينوزا وجون لوك وتوماس هوبز وديفيد هيوم. تتميز هذه الفترة، التي نسميها "عصر التنوير"، بالرغبة في التقدم في جميع المجالات: السياسية: التشكيك في الملكية المطلقة بالحق الإلهي، الدينية: انتقاد الخرافات والتعصب، الثقافية: الاهتمام المتجدد بالمعارف والعلوم. التكنولوجيا والقضايا الاجتماعية: تراجع الطبقة الأرستقراطية، وصعود البرجوازية. ويمكن تلخيص "برنامج" التنوير على النحو التالي: محاربة الجهل من خلال نشر المعرفة على نطاق واسع؛ وزيادة الثروة من خلال تطوير الزراعة والصناعة والحرف والمهن والتقنيات والأدوات والوسائل والفنون؛ العقل بديل للخرافة. الطبيعة والانسان مكان اللاهوت. ضمان استقلالية الأخلاق فيما يتعلق بالدين؛ جعل فكرة الله مستقلة عن أي دين معين؛ رفض الاستسلام لما يسمى بمراسيم العناية الإلهية. فكيف أجاب كانط عن سؤال ما الأنوار؟ والى أي مدى ترجم الجواب الذي اقترحه روح عصر الأنوار؟

خلفت أعمال الفيلسوف النمساوي لودفيغ فيتغنشتاين أثرا جليا في الفكر الفلسفي و في مجالات أخرى مثل علم الاجتماع والأنثروبولوجيا و علم النفس، حتى أن إسهاماته الفكرية قد شكلت محطة تحويلية في الفلسفة الغربية و تمخضت عنها بالتالي الفلسفة المعاصرة كما نعرفها اليوم. لم يبق من المجالات ما لم يبلغه أثر أفكاره، و قد عمل في المنطق و الرياضيات و علم الأخلاق، حتى نال شهرة واسعة رغم أنه لم ينشر خلال حياته إلا كتابا واحدا. عقب وفاة فيتغنشتاين و بزوغ تيارات فكرية جديدة، و كذا تطور علم اللسانيات والعلوم الإدراكية، تطورت الفلسفة على نحو معاكس لأفكاره، حيث انصب التركيز على تجاوز الرؤية التحليلية الصارمة للغة بصفتها وسيلة لتصوير الواقع لصالح مقاربات تتبنى تعددية المعنى و السياق الاجتماعي و الثقافي للغة، و تعطي أهمية كبرى لاحتمالات التأويل و التفسير المختلفة.

إرث فتغنشتاين في الفكر المعاصر

من خلال كتابه الأول الرسالة المنطقية الفلسفية (Tractatus Logico-Philosophicus)، قدم فيتغنشتاين لنا "نظرية الصورة"، و هي نظرية تشير إلى أن للغة دورا وظيفيا ألا و هو تصوير الأشياء[1]. أثرت هذه النظرية بشكل كبير على حركة الوضعية المنطقية (Logical Positivism) – أو التجريبية المنطقية – التي شكلت جزءا مهما من الفلسفة إلى حدود ستينيات القرن العشرين، إذ يزعم فيتغنشتاين من خلالها أن الجملة تمثل الواقع لأنها تشاركه في البنية المنطقية نفسها، أي أن الجملة و الصورة الواقعية لهما نفس التركيب الداخلي. رغم قوتها التحليلية، كانت نظرية الصورة موضوع انتقاد للعديد من الفلاسفة و المفكرين نظرا لمحدوديتها و ضيق آفاقها، و قد أقر فيتغنشتاين نفسه بقصور نظريته تلك في كتاباته و أعماله اللاحقة. أما في كتابه تحقيقات فلسفية (Philosophical investigations)، فقد تخلى عن نظرية الصورة و تبنى بدلا منها فكرة "ألعاب اللغة"، مؤكدا أنه من المستحيل اختزال اللغة في وظيفتها التصويرية للواقع المادي، خاصة أنها ظاهرة اجتماعية و ثقافية تعتمد على السياق و الاستخدام[2]. تشير ألعاب اللغة إلى مختلف الطرق التي تستخدم بها الكلمات و الجمل في الحياة اليومية، و هي التي تخلق المعنى عبر خضوعها لمجموعة من القواعد الغير مكتوبة و التي تمليها على كل منا التقاليد و الأعراف السائدة في مجتمعه. يستخدم فيتغنشتاين التشبيه بالألعاب لوصف اللغة لكي يعبر عن ثراء اللغة و غناها باعتبارها شبكة من الممارسات التي تمكننا من التواصل مع كل من الذات و الغير.

في الفصل الأول، قام بيليدور بتعريف الحرية باختصار شديد، ولكنه ترك توضيح المفهوم لفصل منفصل. أما الآن فالوقت مناسب، ونحن دائمًا في صحبة هايدجر، لنقدم وفقا لفكره تطور الحرية في خطاب أكثر تفصيلا. وسوف نعرض المنهج الهايدجري في ثلاثة أبعاد، ولكن هذه المرة مع اختلاف بسيط عن الفصل السابق. عند تناول الحقيقة، انطلقنا من الحقيقة الإسنادية (الحملية) نحو الحقيقة الأنطيقية، ثم من الحقيقة الأنطيقية، نحو ماهية الحقيقة. وهنا سننطلق من ماهية الحرية نحو الحرية السلبية ومن الحرية السلبية نحو الحرية الإيجابية لنتوجه بمزيد من الأمان نحو موضوعنا الأساسي: ماهية الحرية الإنسانية. وهكذا يتمثل البعد الأول في ماهية الحرية. لقد تم كشف الحجاب عن الحقيقة بلعتبارها حرية. إن الأطروحة التي وفقها ينبغي أن تكون ماهية الحقيقة (يُنظر إليها بشكل عام على أنها مطابقة للعبارة) حرية أطروحة مفاجأة. وبالتالي ألا يعني وضع ماهية الحقيقة في الحرية، أننا نعهد بالحقيقة إلى الاعتباطية البشرية؟هذا سؤال ساخن، بدون شك. أو هل يمكننا في الأساس تقويض الحقيقة بالتخلي عنها لأهواء هذه "القصبة الضعيفة". هذا سؤال آخر ساخن هو الٱخر بالنسبة إلى الحس المشترك. ما فرص نفسه باستمرار خلال هذه المناقشة يخرج الآن إلى النور بمزيد من الوضوح: تجد الحقيقة نفسها عائدة إلى ذاتية الذات الإنسانية. حتى لو كانت الموضوعية متاحة للذات، فهي ليست أقل إنسانية من هذه الذاتية وقد وضعت رهن إشارة الإنسان.
مما لا شك فيه أننا نحمل الإنسان مسؤولية كل أشكال اللاحقيقة التي هي ضد الحقيقة. وفي نفس الوقت نطرح هذا السؤال: بما أن اللاحقيقة هي عكس الحقيقة، أليس من حقنا أن نبعدها عن البحث في الماهية الخالصة للحقيقة التي هي غير ضرورية لها؟ هذا الأصل الإنساني للاحقيقة يؤكد، على النقيض من ذلك، أن جوهر الحقيقة "في ذاتها" يسود "على" الإنسان. هذه الأخيرة تعد بالنسبة إلى الميتافيزيقا خالدة وغير قابلة للفناء، فلا يمكن بالتالي أن تبنى على تلاشي وهشاشة الإنسان. كيف إذن، يتساءل هايدجر، تجد ماهية الحقيقة إقامتها وأساسها في حرية الإنسان؟ تبعا لذلك، تنص الرسالة الهايدجرية على أن العداء للأطروحة القائلة بأن الحرية هي جوهر الحقيقة قائم على بعض الأحكام المسبقة: إن جوهر الحرية لا يحتاج إلى فحص اكثر تقدما بل لا يتقبله. الحمبع يعرفون ما هو الإنسان، لكن لنستمع إلى ما يقوله هايدجر حول جوهر الحرية. إن الإشارة إلى وجود علاقة جوهرية بين الحقيقة كمطابقة والحرية تهز تلك الاحكام المسبقة، بشرط أن نكون على استعداد للقيام بالتفاتة إلى لفكر. إن التفكير في هذا الرابط الأساسي بين الحقيقة والحرية (والذي سيتم عرضه بالتفصيل في الفصل الثالث) يقودنا إلى متابعة مشكلة جوهر الإنسان من منظور يضمن لنا تجربة الأساس الخفي لهذا الأخير (الدازاين)، وذلك وفق طريقة يجعلنا بها هذا التفكير ننتقل على الفور من مجال جوهر الحقيقة، إلى مجال جوهر الحرية. إن النهج الهايدجري، كما يقول برتراند ريو، يعلن عن نفسه دائمًا على أنه تحول، بمعنى عودة، تراجع نحو الأصل والأساس: ميتافيزيقا بعد عكسي أو نوع من التعالي. إنما بالنظر إلى كينونة الموحود نفسه، أي ليس فقط بما يجعله ممكنا في تحديداته الخاصة، ولكن في مبادئه نفسها الخاصة بالماهية والوجود (essentia et existentia) يجب التفكير في مشكلة الأساس.

في الدرحة الأولى، يعيش الرجال بالسلاسل في الكهف وهم مفتونون بهذا الذي يدركونه مباشرة. ينتهي وصف هذه الإقامة بالتأكيد المتمبز: "لأن الرجال المقيدين بهذه الطريقة لا يعتبرون كاللامتحجب على الإطلاق شيئا اخر سوى ظلال الأشياء" (Rep.515c,1-2). وفي الدرجة الثانية نشهد إزالة السلاسل. السجناء الآن أحرار بمعنى من المعاني، لكنهم يظلون حبيسي الكهف. يمكنهم الآن الالتفات فيه إلى جميع الجوانب. يصبح من الممكن بالنسبة لهم رؤية الأشياء المنعكسة نفسها التي كانت في السابق تمر خلفهم، كما نصت هذه الجملة: "هؤلاء الذين لم يشاهدوا سوى الظلال تمكنوا بهذه الطريقة من الاقتراب قليلاً من الموجود (Rep.515d,2). الأشياء نفسها تظهر جوانبها بطريقة معينة، أي من خلال وهج نار اصطناعية خارج الكهف، ولم تعد محجوبة بالظلال التي تعكسها. تستأثر الظلال برؤية من لا يعرف سواها، فتنزلق هكذا أمام الأشياء ذاتها. أما إذا تحرر النظر من قبضة الظلال إلى الإنسان وهكذا يتمكن الإنسان من الوصول إلى المنطقة الخاصة "بما هو أكثر انكشافا" (515د،6) وومع ذلك، يجب أن يقال عنه: "ما رآه على الفور من قبل (الظلال)، سيعتبره أفضل انكشافا مما يظهر له الآن صراحةً من قبل الآخرين".لماذا؟ لأن وهج النار الذي لم تعتده عيناه يبهره. وهذا الوهج يمنعه من رؤية النار نفسها وملاحظة كيف يضيء نورها الأشياء، وقبل كل شيء، يجعلها تظهر. كما لا يمكن للرجل المبهر أن يدرك أن ما رآه لم يكن سوى الظلال التي تعكسها الأشياء على ضوء وهج هذه النار نفسها. وصحيح أن الإنسان المتحرر يرى الآن شيئاً آخر غير ذلك الظلال، لكنه يرى كل شيء في ارتباك عام. وعلى النقيض من هذه الأشياء، تبرز الأشياء، المرئية بفضل انعكاس النار التي لا تُعرف ولا تُرى، في أشكال محددة جيدا.
إنها تتصف أيضا بنوع من الاتساق الملحوظ، والذي يجب، بالنسبة إلى الإنسان المتحرر ان يكون "منكشفا احسن"، لأنه مرئي بشكل واضح. لهذا السبب تعاود كلمة alèthès الظهور عند نهاية وصف الدرجة الثانية، وفي هذه المرة عند صيغة التفصيل alèthèstera، الأشياء "المنكشفة أحسن". في الظلال، يؤكد هايدجر، نجد حقيقة أكثر جدارة بهذا الاسم. ذلك أن الإنسان المتحرر من سلاسله يخطئ مع ذلك في تقدير ما هو حقيقي لأنه لا يتمتع بالحرية، وهي شرط "لا غنى عنه" لحسن التقدير. يمكن إذن أن نلاحظ جيدا أن الحقيقة والحرية لا تنفصلان، طالما أن الكائن البشري المتحرر يمكنه

تمهيد

هل نعيش جميعاً في محاكاة؟ إذا سألت الفيلسوف الفرنسي جان بودريار هذا السؤال، فستكون إجابته نعم مدوية. على الرغم من أن ما يعنيه بالمحاكاة وما تعنيه أنت قد يكونان شيئين مختلفين للغاية (وهو أمر مضحك بالنظر إلى أن المثال الأكثر تأثيراً للمحاكاة – هو افلام ماتريكس - مستوحى بشكل مباشر من عمل بودريار لعام 1981 المحاكاة والسيمولاكر) هذا هو الكتاب الذي اقتبس منه مورفيوس، والذي نرى نيو يخفي أقراص الكمبيوتر التي يبيعها بداخله في فيلم ماتريكس الأول وهو الكتاب الوحيد الذي جعله الأخوان واتشوسكي قراءة إلزامية للجميع في طاقم أفلام ماتريكس. ولكن على الرغم من هذا المثال الشهير لفكرة المحاكاة السائدة المستوحاة بشكل مباشر من عمل بودريار، فإن ما يعنيه الفيلسوف الفرنسي ما بعد الحداثي بمصطلح المحاكاة هو شيء أكثر غدراً وأكثر رعباً مما نجده في أفلام ماتريكس. في هذا المقام ، سنستكشف ما يعنيه بودريار بهذا المصطلح "محاكاة" ولماذا يعتقد بودريار أننا بالفعل محاصرون داخل محاكاة - معزولون بشكل دائم عن الواقع. إن فكرة بودريار عن المحاكاة هي واحدة من أكثر الأفكار الفلسفية التي ستصادفها على الإطلاق - أكثر صلة وإثارة للخوف من فيلم 1984 أو فيلم عالم جديد شجاع. إن المحاكاة والسيمولاكر هي ديستوبيا حاضرنا، ديستوبيا شاملة للغاية ومع ذلك يصعب فهمها لدرجة أننا دخلنا إليها دون وعي. إنها التشخيص الأكثر دقة للمنحدر الذي نجد أنفسنا نسقط فيه بحرية مع رحيل ثقافتنا عن الحداثة إلى المحاكاة غير الواقعية التي تشكل حالة ما بعد الحداثة. فماذا يقصد جان بودريار بالمحاكاة؟ وما الفرق بين المحاكاة والسيمولاكر؟ ولماذا نعيش جميعنا في عالم من المحاكاة؟

الترجمة
مقدمة
"تحاول الفلسفة عمومًا تعريف المسؤولية الأخلاقية بمصطلحات مطلقة، مع الحرص على إبعاد نفسها عن الواقع التجريبي للعالم الاجتماعي. يقدم هذا المقال نهجا براغماتي المنحى يدعو لصالح التقارب بين الفلسفة والعلوم الإنسانية في دراسة المسؤولية والذي يجعل هذا التقارب من خلال إعطاء "ممارسات المسؤولية" كموضوع لها، بدلا من المعايير أو أسس المسؤولية. ويهدف إلى تحليل هياكل التفاعل التي يشارك من خلالها الوكلاء الاجتماعيون في ممارسات ملموسة للمسؤولية. والمقصود من هذا التوجه هو التواصل مع واقع النظام الأخلاقي الذي تتسم به المجتمعات الحديثة المتقدمة، والذي يجب تصوره كنظام مفتوح متحرك، في إعادة بناء دائمة. إنه نظام لم يعد يتم فيه تعيين المسؤوليات بطريقة استبدادية، ضمن أطر صارمة وباتباع معايير محددة مسبقًا ومستقرة، بل يتم التخلي عنها إلى حد كبير لمبادرة الجهات الفاعلة الاجتماعية. إن الكثير مما نحتاج إلى فهمه على وجه التحديد للأحكام والمبادئ الأخلاقية يتجاوز الأسئلة الأخلاقية على وجه التحديد. نحن بحاجة إلى فهم العالم الاجتماعي. العقل العملي ليس محضا.
الأخلاق ليست وحدة متميزة ضمن الفكر الإنساني والأنماط الاجتماعية. لم يتم التنظير لمفهوم المسؤولية الأخلاقية إلا في وقت متأخر جدًا من تاريخ الفلسفة، ولا يزال يعاني بشكل واضح من عجز مفاهيمي. ومع ذلك فقد كان موضوعًا لعدد قليل من المهام التأسيسية التي يسمح لنا التحليل الأولي بتقسيمها إلى اتجاهين رئيسيين. الأول، من الإلهام الكانطي، يضع المسؤولية تحت شروط إمكانية الأخلاق ويعطيها تفسيرًا رسميًا وسلبيًا ومحدودًا. والثاني يجعل المسؤولية حجر الزاوية في أخلاقيات الرعاية ويعطيها تفسيرا واسعا وجوهريا وإيجابيا.
تعاني هاتان الاستراتيجيتان من نفس العيب: من خلال السعي إلى تأسيس المسؤولية الأخلاقية بشكل مطلق، فإنهما تمنحانها امتدادًا غير محدود مما يجعلها منتشرة ومراوغة، دون سيطرة على الواقع الاجتماعي والتاريخي للحياة الأخلاقية. ويتكون هذا الواقع من ممارسات تفاعلية سنسميها "عمليات المسؤولية"، و"الدعوة إلى المسؤولية"، و"تحمل المسؤولية"، والتي يمكن اعتبارها بحق ممارسات أخلاقية ووسيلة للتعبير عن الروابط الاجتماعية وتوطيدها وتحويلها. سنقدم في هذا المقال نقدًا موجزًا للرؤى "المطلقة" للمسؤولية ونقترح نهجًا بديلاً للتوجه البراغماتي الذي يسعى إلى ربط المسؤولية الأخلاقية بالحياة الاجتماعية.

شهدت الفلسفة الأوروبية الحديثة تطورات فكرية هائلة وغير مسبوقة منذ عصر النهضة، حيث كانت بمثابة المرآة التي عكست التغيرات الاجتماعية والعلمية والسياسية الكبرى التي عاشتها أوروبا على مدى قرون. غير أن هذا الازدهار الفكري لم يكن دون ثمن، إذ صاحبته أزمة وجودية عميقة عُرفت بـ"أزمة المعنى"، وهي أزمة تمثل أبرز ملامح التوتر الإنساني مع نفسه ومع العالم من حوله. فقد واجه الإنسان الأوروبي في العصر الحديث معضلات فكرية وفلسفية حادة تمحورت حول القيم، والهدف، والغاية من الوجود، بعد أن تزعزعت الأسس التقليدية التي طالما قدمت إجابات لهذه التساؤلات.

هذه الأزمة لم تكن وليدة لحظة، بل كانت حصيلة مسار طويل من التحولات الفكرية الكبرى التي ابتدأت مع الثورة العلمية التي فككت رؤى الكون التقليدية القائمة على الميتافيزيقا، ومرورًا بعصر التنوير الذي مجّد العقلانية وأطلق العنان للنقد والتشكيك، وصولًا إلى الثورة الصناعية وما صاحبها من تغييرات اقتصادية واجتماعية زعزعت التوازن بين الفرد والمجتمع. كل هذه الأحداث كانت بمثابة زلازل هزت اليقين التقليدي وأسقطت مركزية الإنسان في الكون، مما خلق شعورًا متزايدًا بالاغتراب والعبثية.

وفي قلب هذه التحولات، جاءت أصوات فلسفية كبرى، مثل فريدريش نيتشه الذي أعلن "موت الإله"، مشيرًا بذلك إلى انهيار القيم المطلقة التي كانت تمنح الوجود الإنساني معناه. كما أثارت الفلسفة الوجودية، على يد جان بول سارتر وألبير كامو، تحديات جديدة، مؤكدة أن المعنى ليس معطى مسبقًا بل يجب على الإنسان أن يخلقه بنفسه في مواجهة "العبث". ومع ذلك، تعمقت الأزمة مع ظهور التيارات ما بعد الحداثية التي رفضت فكرة الحقيقة الواحدة أو المعنى الثابت، معتبرة أن كل شيء نسبي ومتعدد.

إن أزمة المعنى ليست مجرد ظاهرة فلسفية مغلقة داخل جدران الفكر، بل هي مأساة إنسانية طالت جذورها أعماق النفس البشرية. لقد بات الإنسان في العصر الحديث يعاني من اغتراب وجودي، وضياع للقيم الكبرى التي كانت تمنحه التوجيه، ومع تزايد الفردانية، والتقدم التكنولوجي، والعولمة الثقافية، أصبحت هذه الأزمة أكثر حدة وتأثيرًا. لم تعد تساؤلات "من نحن؟" و"لماذا نعيش؟" مجرد استفسارات فلسفية مجردة، بل تحولت إلى قضايا ملحة تمس كل إنسان في صميم تجربته الحياتية.

يعتبر التواصل من العلوم الأساسية لبناء أي علم سواء في ميدان اللغة أو الفلسفة أو علم النفس أو السياسة وغيرها، وإذا كان التواصل يقوم في المقام الأول على اللغة، فإن هذه الأخيرة ليست الأداة الوحيدة للتواصل فهناك ادوات أخرى غير اللغة كالإشارات والحركات والصمت، وذلك لأن التواصل لا يقتصر على إرسال الرسائل اللفظية أو القصدية لتحقيق هذا التواصل.

ومنذ القديم اعتمد الإنسان على وسائل متعددة لخلق التواصل، وهو ما لم يدركه الإنسان في ذلك الوقت. وب كل ما يظهر بسيطا للعين المجردة هو نوع من التواصل، والهدف هو خلق تواصل ثقافي شامل، وهو ما حاول هابرماس الوصول إليه من خلال نظرية التواصل، والتي يراهن من خلالها على ضرورة تحقيق مطلب الديموقراطية التشاركية، الذي يساهم في توفير حق الجميع في النقاش العمومي.

بناء عليه ومن هذا المنطلق يمكن طرح العديد من التساؤلات الاشكالية التالية، من قبيل، ما هو دور اللغة في نظرية التواصل؟ وهل خلق فضاء عمومي يساعد على التواصل الفعال بين الأفراد داخل المجتمع؟ وماهي أشكال التواصل التي تحقق غاية التواصل؟ إنها مجموع الأسئلة الإشكالية التي سنحاول الإجابة عنها ضمن هذا المقال.

  • اللغة والتواصل عند هابرماس

قام فكر التنوير على الجمع بين فلسفة اللغة ونظرية العلم والتأويلات الذاتية والتاريخية، والتحليل النفسي، مستفيدا من الإنجازات المعرفية والمنهجية، هادفا إلى تكوين علم تداولي شامل من أجل إحداث ثغرات في علاقات الأفراد مع بعضهم البعض على أسس منهجية، من أجل تحقيق شروط التواصل والحوار في مجتمع متحرر، وقد تحقق هذا الهدف مع الفلاسفة المعاصرين وعلى رأسهم "هابرماس" الذي حاول صياغة قواعد جديدة لفكر متحرر من التسلط والهيمنة والبيروقراطية والرأسمالية... وتدشين مجال الحوار المنفتح على الحرية واللغة بين الأفراد، وهذا المجال هو مجال التواصل اللغوي أو الفعل التواصلي في ظل الفضاء العمومي.

لقد تغيرت عدة مفاهيم في عدة مجالات في سياسة الحوار والتواصل بواسطة اللغة، فالعقلانية التي نادت بها عصور التنوير وتم اختزالها في العقل، اليوم أصبحت تتجسد في اللغة وباللغة، وهذا ما يؤكده هابرماس بقوله: إن ما نسميه "عقلانية " هو أولا الاستعداد الذي ثبرهن عليه ذوات قادرة على الكلام والعمل على اكتساب وتطبيق معرفة قابلة للخطأ"([1]).

كارناب وهيدجر

كارناب فيلسوف الوضعية المنطقية حلقة فيّنا النمسا بزعامة شليك. وبعد انحلال حلقة فينا انتقل كارناب الى الوضعية المنطقية التحليلية الانكليزية حلقة اكسفورد تحت زعامة بيرتراند رسل وجورج مور وعالم الرياضيات نورث وايتهيد وفينجشتين الشاب المتأخر. لقد حاولت المنطقية التحليلية الانكليزية تحليل فلسفة اللغة في اعتمادها محاولة دمج الرياضيات والمنطق فيها وفشلت المحاولة فشلا كبيرا وتراجعت حلقة اكسفورد عن افكارها باستثناء اصدار بيرتراند رسل ووايتهيد كتابا مشتركا لهما باسم (مباديء الرياضيات العامة 1906). هذا الربط الافتعالي في خلق توليفة تجمع الرياضيات والمنطق وفلسفة اللغة كان جاتلوب فريجة فيلسوف اللغة السويسري اوصى بها قائلا اصبح يخجلنا اننا لحد الان لم ننجح في جعل الفلسفة علما يشبه الرياضيات.

انشق كارناب ومعه جورج مور عن حلقة اكسفورد وتبعهم لاحقا فينجشتين متراجعا عن غالبية افكاره في اطروحته (40) صفحة التي نال بها شهادة الدكتوراة من جامعة كامبريدج تحت اشراف بيرتراند رسل عنوانها (تحقيقات فلسفية) عام 1953. وقد حظى هذا الكتيّب الصغير باهتمام فلسفي واثار ضجة كبيرة جدا في عالم الفلسفة. اما المهم بالموضوع هو اتفاق كارناب وفينجشتين وجورج مور فلاسفة المنطقية التحليلية الانكليزية على مقولة مفادها كل ما لا يمكن التعبير عنه بوضوح فالصمت اجدى نفعا منه. وعدم الوضوح اللغوي بالفلسفة لغو فارغ لا يستحق الاهتمام به ولا الوقوف عنده. وذهب كل من كارناب ومعه جورج مور الى المناداة تحت وطأة يأس فلسفي غاضب تاكيدهما مسالتين:

الاولى أن اللغة بريئة من تهمة أنها تضليل العقل وخيانة المعنى. كما ساد بطغيان هيمنة فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة بعد النصف الثاني من القرن العشرين. في اعتبار فلاسفة البنيوية بزعامة دي سوسير الذي اصدر بيانا فلسفيا قال فيه أن فلسفة اللغة باتت الفلسفة الاولى بعد تنحية مبحث الابستمولوجيا من مركز الفلسفة الاولى الذي شغلته عصورا طويلة من تاريخ الفلسفة.

الثانية وتزعمها جورج مور في إعتماده حسب تحليلي الشخصي كي نخّلص تاريخ الفلسفة من الطريق المسدود الذي ادخلتنا به فلسفة اللغة وعلوم اللسانيات ونظرية المعنى خاصة في هورمنطيقا بول ريكور وتفكيكية جاك دريدا. لذا توّجب علينا والكلام لجورج مور كتابة افكارنا الفلسفية بلغة الناس العاديين وأيده بذلك كارناب.