ما إن انتهيت من توقيع الإضبارة التي قدّمها لي ضابط ثلاثيني، يجلس خلف مكتب عريض لم يُصْنَعْ لأجله دون أن يكلف نفسه عناء رفع رأسه للتحديق في عينيّ، حتى ضغط بيمناه على زر، فصلصل جرس في الخارج. بسرعة دخل شرطيان يتبع أحدهما الآخر. كان الأول مدوّر الوجه، حليق الشاربين، غليظ الحاجبين كثيف شعرهما، بدينا يكاد بطنه يفجر إبزيم زناره. وعلى خلافه كان الثاني نحيفا بشكل مفزع، بدا في ثيابه الفضفاضة كمهرج يرتدي ملابس مضحكة، في وجهه ذي الشوارب المعقوفة طول معيب. و فجأة استند الضابط بيديه على المكتب، واستوي واقفا: "خذا هذين الجرذين إلى الزنزانة حتى..." لم أتبين بقية الكلمات، إذ سرعان ما هجم عليّ الشرطيان وسحباني بعنف، ثم انصفق الباب خلفنا بعنف اهتز له الرواق الطويل الممتد. نظرت إلى صاحبي فتراءى لي ضئيلا بحجم الخوف الذي سكنه. وقلت في نفسي "آه لو تدري يا مفيد ما ينتظرنا".
احتوانا نفق طويل نصف مظلم، سرنا فيه، ثم انعطفنا يمينا فاشتد الظلام الذي لم تكن تزيحه إلا الفتحات المعِدَّة للتهوئة. وكنت على ذلك الضوء الخافت المنبعث أتطلع إلى الخطط الوظيفية المكتوبة على اللافتات المعلقة فوق الأبواب. بدت لي المكاتب على الجانبين ساكنة لا حياة فيها سوى بعض النور المتسرب من أسفل الأبواب، ولم يكن يخطر على بال أحد ما كان يدور داخلها، فللغرف المعتمة دوما أسرارها. لم أقرأ أسماء، لكني قرأت ما يحيل على خطط ووظائف، فالأسماء في هذا المكان الموحش الموحل سريعة التبدل والتغير، والكراسي في هذه المكاتب سرعان ما تضج بالجالسين فوقها، فتطردهم ويتركوها منقادين لأوامر الأقوياء، أو قد يُدْعوْن إلى مهمات أخطر أو أشد سرية، أو قد يحالون على شرف المهنة بصفة مبكرة، أو قد يُنهي الواحد منهم حياته برصاصة دون أن يترك وصية، فيظل موته لغزا مثلما كانت حياته في هذا القبو لغزا.
كنت أسير ومفيدا جنبا إلى جنب دون أن يكلم أحدنا الآخر ودون أن يلتفت أحدنا للآخر. وكان الشرطي البدين يمشي أمامنا بخطاه الموقّعة وجسمه المترهل المتمايل يمنة ويسرة، محافظا على اتساع خطواته دون أن يكسر التناغم بين حركات يديه وقدميه. تساءلت "ترى كم مرة قطع هذا الشرطي هذا الممر جيئة وذهابا؟ وكم قد تلفظ فمه بألفاظ السب والشتم كالتي لم يتوقف عن قولها لنا منذ غادرنا المكتب...؟" أيقظني الشرطي النحيف الذي كان يمشي خلفنا دون أن نحس بوقع قدميه على البلاط، من شرودي بنحنحته الرقيقة التي تكررت أكثر من مرة. كان يُصدر تلك النحنحات لا لشيء إلا ليذكّر صاحبه أنه يمشي خلفه بلا توقف.
طال المسير، وكانت المسافة التي قطعناها بحجم عذاب العمر، فكرت في الهروب، لكن إلى أين؟ خفت إن أنا فعلت أن تلحقني رصاصة من مسدس أحد الرجلين. كان مفيد يسير في صمت، وعينان محدقتان في باب نهاية الممر التي ما إن بلغناه حتى أوقفنا الشرطي البدين، وفجأة اشتعلت الأضواء، هكذا دفعة واحدة، وعندما حانت مني التفاتة إلى الشرطي ورائي، رأيته يضع يده على مسدسه في استعداد لما يمكن أن يطرأ. سحب الشرطي البدين حزمة مفاتيح معلقة في نطاقه، بحث بينها عن مفتاح تلك الزنزانة، فعثر عليه بعد مشقة وعَنَتٍ. وبإحدى قدميه دفع الباب بعنف شديد، فأزَّ الحديد الصدئ، واهتز الباب محدثا هديرا نتيجة الارتطام بالجدار. وَكَزَنِي النحيل بعصاه البيضاء التي كانت في يده، ودون كلام أومأ إلي بإشارة من رأسه وأمرني بالدخول، أرفق إشارته بابتسامة ماكرة كشفت عن سنٍّ مذهب علاه الصدأ من أثر دخان السجائر. دخلت يتبعني مفيد، ثم انغلق الباب وبقينا في ظلمة قاتمة كظلمة القبور.
خيّم الصمت على المكان، ولم أعد أسمع سوى طقطقة أسنان مفيد. لم أدرِ أكان يرتجف من البرد أم من الخوف أم من كليهما، ولمَّا ناديته، أجابني بهمهمة لم تُفصح عن حالته، أظنه كان يبكي في صمت، ويرتجف، لم أناده مرة أخرى، يكفيه ما كان فيه من خوف وألم.
الليل يتقدم ببطء، وساعات الوحشة تبعث في النفس خوفا وفزعا. جفا النوم أعيننا. ومفيد هذا الرعديد يصر على صمته، ورائحة البول المنبعثة من الزوايا تزكم النفس، يُضاف إلى كل ذلك الجو الموحل زنوخة ورطوبة. وأصوات سكارى آخر الليل وتنهداتهم وصرخاتهم ومواويل متداخلة تعبر الجدار. وفجأة وصلني صوت عذب يصدح بأغنية "عدى ربيع العمر وإنت جيت متأخر كثير..." فارتسمت على الجدار أمامي صورة وجه ريتا، اخترقت الجدران وجاءتني. أضاءت بنور وجهها الزنزانة المعتمة، كان كل شيء معتما إلا هالة وجهها. تأملت شعرها الخرنوبي المرسل على كتفيها وعلى صدرها، وإذ حدقتُ في وجنتيها الموردتين وجبينها اللجين وعينيها الدعجاوين، أحسست أن كل شيء حولي صار مشعا. خاطبتها بصوت مرتجف: "أين كنت يا ريتا؟ وما الذي قادك إلى هذا المكان الموحش؟ كيف اخترقت ظلمة الليل والروح وهذه الجدران الصماء المبنية بالجندل وتسللت بين حلم وحلم؟...أخرجي يا ريتا ودعيني لهمّي ولجراحات روحي أضمدها وحدي. اهربي فأنا أخشى عليكِ من فظاظة هؤلاء الذين لا يرحمون، سيمعنون في تعذيبي، وسيغتصبوك أمام عيني، وسيطلقون عليّ رصاصة تخترق رأسي أو صدري إن أنا تصديت لهم، اخرجي وأريحيني...ريتا أيها النغم المنساب في صمت، المتفلت كالماء من بين الأصابع، أيها الثمر الذي نضج في غير أوان نضجه، ريتا أيها القدَر الجميل المُساق إليّ. كم يلزمني من العمر كي أحبك، وكم يلزمني من العمر كي أشتاق إليك".
عندما لعلع صوت المؤذن الصادح "الصلاة خير من النوم"، غادرتني ريتا. تسللت عبر الجدار ورحلت. لم تلوِّح إلي بيديها ولم تبتسم ولم ترسل لي قبلة من ثغرها كما كانت تفعل عندما نفترق ونتباعد متواعدين على اللقاء..عن أي نوم تتحدث يا سيدي، ألهب السهر الجفون التي لم يكحلها النوم منذ ثمان وأربعين ساعة، جافاها النوم عنوة، فالنوم يهنأ به المستمتعون بالحياة الذي جعلوا من أيامهم ولياليهم فسحات ترويح تتعاقب بلا خوف وبلا تردد. النوم يا سيدي تعتريه الأحلام، أما نومنا فلا أحلام فيه، نهابه، لا ندنو منه، ترهبنا كوابيسه المزعجة، تفزعنا حين رؤيتها، ويؤلمنا البحث عن تفاسير لها، ونظل نلهث وراء رموزها طويلا ولا نهتدي إلى معبِّرين ليساعدونا، لكننا في الغالب لا نظفر بشيء، فكوابيسنا التي نراها في أحلامنا مخيفة، مرعبة، تتشابك فيها الأشياء وتتداخل، تطوّح بنا في أزمنة بعيدة، فنرى شهرزاد تتأبط ذراع شهريار يتجولان في القصر أمام الجواري الفاتنات المتلصصات من ثقوب الأبواب ليقتنصن قبلة يرسمها الملك المتجبر على خد هذه التي جردته من كل سيوفه.
أنهى المؤذن نداءه، فسكنت الحركة، فكأن كل شيء قد انغمس يصلي في خشوع. هدأ الكون كله سوى الزنزانة التي ضجت بشخير مفيد المدوي في تناغم. لقد هدّه التعب، فأسند جذعه للجدار ونام.
تُرى ما سيُفعل بنا، أسيران بين يديْ أعتي جنود الدنيا. لقد قاتلتهم، وتذوقت دم أحدهم، كان دما ثخنا، مقززا، نتنا. لم أفعل ذلك إلا قهرا. لمحته يوجه فوهة رشاشه نحو عجوز وابنتها، يرغمهما على التوقف عن السير، وبحربة سلاحه، شق ثوب الفتاة، فانكشف صدرها، مد يده يريد لمس جسدها، لكن سكيني سرعان ما انغرز في ظهره، استدار، عاجلته بطعنة في صدره و أخرى في رقبته. حدث كل شيء بسرعة رهيبة. صرخة الجندي وجهت نحونا الأنظار، أحاط بنا كثير من الناس، صرنا واقِفَيْن متواجهين في حلبة صراع. لا مجال للتراجع. إما قاتلا أو مقتولا. ترنح الجندي، حاول تشغيل رشاشه لكن قوته خانته. كانت الطعنة ثابتة، مزّقت نياط قلبه، سحبت السكين والدم يقطر منها، لوحت به في وجوه الناس المحيطين بنا، وبلساني لعقته، نعم لعقت دمه، كان مقززا عفنا، فمججته. وفجأة وصل الجنود وحاصروا المكان فرّقوا الجميع. كان مفيد، هذا الغر الذي لم أره من قبل، يحاول نزع خاتم ذهبي من إصبع الجندي المعفر بدمه. ألقوا علينا القبض، واقتادونا إلى الثكنة.
"مفيد أيها الغر، لا تعلم ما ينتظرك، قد يُلبسوا الخاتم في أحد أصابعك، ثم نكاية فيك يقطعوا ذلك الإصبع، ويتركوك معطوبا. قد يخيروك في أي الأصابع كنت تنوي وضع الخاتم ليحرموك منه، فبأي إصبع ستتشهد في الصلاة إن هم اختاروا سبابتك، وكيف ستغيض زوجتك إن هم اقتلعوا وسطاك... ورّطت نفسك يا مفيد وزججت بها في أتون متأجج لا قدرة لك على تحمل حرارة نيرانه". قلت له هذا الكلام، وكنت أظن أنه نائم، لكنه كان يتخذ زاوية يطمر فيها خوفه وارتباكه. وحين صمتُّ أجهش بالبكاء، وتكوّم، وصمت إلى الأبد.
كانت زخات الرصاص تنهال على مسمعي، فقد كان الجنود في الخارج يتدربون على القتل والإعطاب، يبدؤون حياتهم الجديدة بالتخلص من بذرة الإنسانية المزروعة فيهم. وعندما أضاءت شمس الصباح الكون والزنزانة، فُتح الباب، واقتادني شرطي، غير شرطيَيْ البارحة، مدجج بالسلاح بعد أن أسمعني كل أنواع السب والشتم، وسلكت نفس الممر المظلم ذي الجدران الصماء والروائح العطنة، لكنني كنت وحيدا هذه المرة دون مفيد الذي لا أدري ما سيُفعل بجثته. ودفعني الشرطي بلا شفقة، لأجد نفسي بعد أن عبرت إحدى الأبواب أمام ضابط ضج كتفاه بالأوسمة والنياشين التي رُوِّيت بدم الأبرياء من أبناء وطن جريح. فأصدر ضدي حكمه.