كان جالسا، متكئا على عربته المتآكلة. نظراته حزينة وغامضة، ينظر الى زوار السوق بدون اهتمام. ابتسامة تظهر وتختفي. يحمي رجليه بحذاء باهت اللون ويحمل آثار الزمن. عربة فارغة تنتظر من يطلبها لحمل أكياس من الخضر والفواكه واللحوم. تعود ابن خديجة، هكذا ينادونه في السوق، على الانتظار طويلا، فأغلب من يلج السوق يتوفرون على سيارات فيلعنهم في سره ويعتبرهم من الأثرياء الذين يفوتون عليه فرص الشغل. فينتظر لساعات حتى يأتي رزقه. هكذا تقول له أمه "رزقك موجود ولن يأخذه منك أحد".
كانت شمس ذلك اليوم حارقة تستوطن المكان، تئن تحت وطئتها الأجساد، تحرك ابن خديجة من مكانه، وهو يجر عربته، وكلام أمه الذي لا يفارقه، " في الحركة بركة". غير المكان، ربما يطلبه أحدهم لنقل مشترياته من السوق التي تكون عادة ثقيلة ولا يستحمل أصحابها حملها الى منازلهم. أكيد هناك من لا يتوفرون على سيارات، خصوصا إذا كانت امرأة تحمل آثار الزمن على ملامحها. وماهي الا بعض دقائق حتى سمع أحدا ينادي عليه. علت وجهه فرحة العمر، وعادت الابتسامة التي هجرته هذا الصباح. فالتفت بسرعة كبيرة كغريق تلاعبت به الأمواج، وظل يصارعها حتى وطئت قدماه في غفلة منه الشاطئ. كانت هناك سيدة، تحمل قفتين مملوءتين ولا تستطيع أن تتقدم خطوة بكل سهولة. جرى نحوها، وكلام أمه يحتل كل جوارحه، ويظلل عليه كطائر يحمي صغاره من هجوم الأطفال عليه. حمل كل مشترياتها بهمة ونشاط، ولم يفكر حتى في المبلغ الذي سيطلبه منها. أعطته العنوان، لأنها لا تستطيع مجاراته في جريه. قالت له" لما تصل الى البيت، انتظرني." سريع الحركة، دفع العربة أمامه واخترق الشارع الطويل الذي لا ينام من ضجيج السيارات وأصوات الباعة. انطلق كالريح، لا يلوي على شيء. كأنه حصل على كنز ولا يرغب أن يتقاسمه مع أحد.
ابتعد كثيرا عن السيدة، كانت تلوح له بيديها كأنها تقول له، لا تسرع بهذا الشكل. ابتلعتها الأمواج البشرية، اختفى واختفت العربة. وصل الى العنوان وكله ابتهاج ورضى، فهو ابن المدينة ويعرفها حيا، حيا. ولم يفكر لحظة أن ذلك الإحساس النادر في حياته، سيتحول الى كابوس ربما لن يخرج منه. اتكأ على الحائط وهو يتصبب عرقا في انتظار صاحبة القفتين. كانت بينهما مسافة طويلة، جلس يلهث كأنه كان في سباق طويل. أثناء انتظاره، لفت نظره وجود لحم ودجاج بالعربة. هاجمه كلام غريب رفض أن يسمعه. تردد ثم عاد الهاجس يلح عليه ويقول له" ماذا سيحصل لو أخذت دجاجة لنفسك. السيدة لن تنتبه في تلك اللحظة وان انتبهت ستقول لها ربما سقطت أثناء جريك بالعربة" ثم فرك عينيه وحاول طرد ذلك الصوت الذي يستحوذ على تفكيره. قام وأخذ المكان ذهابا وإيابا والسيدة لم تصل بعد. ثم حول نظراته نحو العربة من جديد، ثم نحو اللحم والدجاج ثم نحو جيوبه الفارغة الا من بعض الدريهمات. فهمس لنفسه" لقد نسيت طعم اللحم. أكيد ستفرح أمي. والسيدة بإمكانها شراء دجاجة أخرى." حاول اقناع نفسه ولم يتردد لحظة خصوصا لما ظهرت السيدة وهي تلتقط أنفاسها بصعوبة شديدة. وربما تلعن اللحظة التي قررت فيها ان تطلب منه حمل مشترياتها. كانت تتصبب عرقا، صرخت في وجهه، وقالت له" قلت لك اسبقني على العنوان لكن لا تختف من أمامي." اخذت حاجياتها وأخذ فلوسه وذهب بالسرعة التي جاء بها. لكن هذه المرة، خوفا من أن تكتشف سرقته لها. وهو في طريقه الى البيت، صوت جديد يسيطر على تفكيره" ما قمت به يعتبر سرقة...." حاول الهروب منه بالاختفاء بين ضجيج السيارات وأصوات الباعة.
دخل الحي ليلا، ولج بيته وهو يحمل الفرحة والقلق بين ضلوعه، والدجاجة خلف ظهره، حتى لا يراها أحد من الجيران ويزاحموه في أكلها. فجيرانه مثله، تصاحبوا مع الفقر حتى صار جزءا من حياتهم اليومية. وبيوتهم مفتوحة على بعض. نادرا، ما تستوطن حيهم رائحة أكل تمتزج فيها رائحة المرق مع اللحم. حتى ان حصل، تكون من النوادر ويظلون يحكون عن لذتها ومذاقها مدة. وضع الدجاجة أمام أمه وقال لها " اليوم سنأكل كما يأكل أصحاب السيارات." ابتسمت وقالت" الحمد لله ياولدي. نحن أحسن من غيرنا." لم يفهم سبب هذه القناعة عند أمه، منذ صغره، وهو شاهد على فقرها المصاحب لها كمرض لعين. ومع ذلك، دائما مبتسمة وراضية. أخذ مكانا في الغرفة التي يتقاسمها مع والدته واستسلم للنوم. عاد في اليوم الموالي الى السوق، وجلس في مكانه واتكأ على عربته ربما يكون حظه سعيدا هذا الصباح. لكن خطر له خاطر، ماذا سيحصل لو مرت السيدة التي سرقها بالأمس وتعرفت عليه؟ ما ان استقر هذا السؤال في رأسه حتى انتفض كالديك المجروح، والتفت يمينا ويسارا كأنه يبحث عن شيء مفقود منه. غير المكان، واتجه للباب الخلفي للسوق، قائلا لنفسه" هذه الجهة لا يستعملها الناس كثيرا" فاستراح وحاول طرد ذلك الصوت اللعين الذي غير له حياته. بالأمس، كان سعيدا وفرحا بما حصل عليه وأكله. واليوم، أصبحت الأسئلة تنهش جسمه وعقله دون سابق انذار. ما ان ارتاحت نفسه للمكان واتكأ على عربته الشاهدة على كل جولاته وانتصاراته وخيباته، حتى قام مفزوعا وكل مفاصله ترتعد، كانت يد أحد الحمالين، ممن يسكنون المكان مثله ويطلبون رزقهم صباح مساء، سلم عليه وقال له "ليس من عادتك يا ابن خديجة المجيء الى هنا. وأنت تعلم أن القليل من الناس يمرون من هنا." تردد كثيرا في الإجابة، مسح وجهه كأنه يستيقظ من نوم عميق. جالت بخاطره فكرة أن يحكي له ما فعله ربما يساعده. لكنه توقف عن البوح في اللحظة الأخيرة خوفا من نتيجة لا تحمد عقباها. قال له دون أن ينظر اليه "أريد أن أرتاح قليلا ثم سأعود الى مكاني المعهود." فجلس الى جانبه، واتكأ على عربته مثله وقال له " عندك الحق يا صاحبي، الواحد منا يظل طول النهار في الانتظار، وان حدث وطلبك أحدهم، يرمي اليك ببعض الدراهم كأنك تطلب صدقة. "
انتبه الى كلامه. لم يفكر يوما بهذه الطريقة، كان صوت أمه الذي يدعوه الى الحمد صباح مساء يستوطن تفكيره، رغم محاولاته الفاشلة في طرده. كأنها كانت الشرارة التي ستشعل عقله وكل حواسه ويتكلم دون رقابة. التفت اليه وهو كله حماس وقال له "كلامك صحيح يا أخي، بعض الدريهمات لا تساوي حتى العرق الذي يتصبب منك طول الطريق." وسأله بسرعة شديدة:" ألا تنظر الى ما تحمله في عربتك من خضر ولحم وأنت في طريقك الى بيوتهم؟" أجابه بكل عفوية: "مرارا وتكرارا، ودائما كنت أسأل نفسي، لماذا لا أستطيع أن أكون مثلهم؟" وهنا كانت فرصته الوحيدة للبوح. فقال له" هل حاولت مرة أن تسرق شيئا من مشترياتهم...؟" لم يدرك قصده، ضحك وعدل من جلسته وقال له: " الحقيقة يا صاحبي، لم تخطر ببالي مثل هذه الفكرة، لكنها تبقى فكرة ممتازة. انهم يشترون ما آكله أنا في شهور. حتى اللحم نسيت مذاقه. ليس عيبا ان نتقاسم معهم بعضا من مشترياتهم دون علمهم." وسأله بعينين جاحظتين كأنه يكتشف حقيقة كانت غائبة عنه:" لكن ألا تعتبر سرقة؟" قام يتهيأ للذهاب وقال له مع ابتسامة الرضى والثقة:" وعندما يرمون اليك ببعض الدريهمات، أليست هذه سرقة لعرقك؟"
كلام كبير يسمعه لأول مرة، لا يستطيع عقله الصغير ادراكه. عقله الذي لم يتم تعليمه بعد اختفاء والده وصبر والدته وقصر اليد. فهو لم يفكر بتلك الطريقة يوما. فكان يفرح بتلك الدريهمات ويعتبرها رزقا جديدا، ربما كلام أمه عن الرضى والصبر كان حاجزا منيعا عنده ضد كل هذه الأفكار التي كانت تشوش على دماغه. وفي نفس الآن، لم يفهم سلوكه الذي دفعه الى سرقة الدجاجة. أول مرة يقوم بهذا الفعل الخارج عن تربيته. اختلطت الأمور في رأسه، هل ما فعله لا يعتبر سرقة هل هو ثمن عرقه الذي لا يؤدى عنه؟ أسئلة انهالت بتتابع على دماغه البسيط كانهيار أحجار مفاجئة من فوق جبل.
ترك السوق وعاد الى بيته الصغير النائم في الطرف الآخر من المدينة، كطفل صغير فقد والديه. وجد والدته، المرأة الطاعنة في السن والتي لا تفارقها ابتسامة الرضى، تلهث وهي تجر سطلا من الماء. فحتى الماء غير متوفر لديهم، فهي تطلب مساعدة أبناء جيرانها لكي يجلبوه لها. لم يعجبه منظرها، دخل بعنف وترك عربته عند الباب، وارتمى على تلك الحصيرة التي يتناوب عليها هو ووالدته وخبأ وجهه بين يديه. انتبهت اليه وقالت له بكل عفوية: " ما بك يا ولدي؟ لماذا عدت اليوم باكرا ؟ " كأن سؤالها أشعل النار التي كانت نائمة بين ضلوعه وقال لها: "هل السرقة حرام يا أمي؟" وتابع دون أن ينتظر جوابها:" انظري الى حالك، ألا تعتبرين أن صحتك سرقت منك بسبب هذه العيشة؟" دون أن تلتفت اليه وهي منهمكة في غسل بعض الكؤوس بكل بطء حتى لا تضيع قطرة ماء، فجلبه يتطلب مجهودا كبيرا. فقالت له" السرقة حرام يا ولدي. اياك والسرقة."
أجابها بكل عنف رغم أنه لم يكن يقصد:" أظل طول النهار أحمل للناس حاجياتهم من السوق الى سكناهم، وأحيانا أمشي كيلومترات وتتورم رجلاي ولا أسمح لنفسي بالاستراحة وفي الأخير يرمون لي بعض الدريهمات. ألا تعتبرين هذا سرقة؟". وأضاف والحزن يسكن نظراته:" وأنت، حياتك كلها في خدمة البيوت ولا تتوفرين على الماء؟ أليست هذه سرقة لحياتك؟".
جلست الى جانبه ومسحت على رأسه واحتضنته، وقالت له" يا ولدي، تلك الدريهمات فيها البركة. حالنا أحسن ..."
وانتفض وأكمل جملتها التي سكنت كيانه كله ولا يستطيع أن يلفظها من حياته، وقال لها وهو يغادر البيت" حالنا أحسن من غيرنا، حفظتها حتى صارت جزءا مني". وهنا لم يعد يتحكم في كلامه أضاف: "هل تعلمين يا أمي بأنني سرقت دجاجة الأمس التي أكلناها؟" نظرت اليه بشكل عادي، ولم تجبه. كانت عينيها تحملان حنانا ممزوجا بالقسوة. علا صوته من جديد وقال لها:" لقد سرقت يا أمي." قالت بصوت خافت وهي تحاول أن تداري غضبها:" أعلم ذلك يا ولدي." اختلطت عليه الأمور مرة أخرى، وتاه بين الأمس واليوم، لم ترغب أن تقول له أنها تعلم أن الجوع كافر، وأنها كانت لياليها تقصف بالبرد والشتاء وكانت تحمله على ظهرها وتمضي في الحقول، منذ طلوع الشمس الى غروبها. لم ترغب أن تقول له أنها سرقت يوما، بعدما اختفى والده وعلا صراخه وهو بعد في شهوره الأولى من شدة الجوع. فخرج كالطائر المجروح، عينان ممزوجتان بالدم والدموع، رأس يغلي كالبركان، لا يعلم أين يذهب ولعن زميله الذي التقاه صباحا وأشعل فتيل حرب داخلية تكاد تأكل كل كيانه. كانت دعوات الرضى التي تمطره بها والدته كل صباح، كافية من أن تجعل يومه بسيطا ومرتاحا من دون أسئلة توجع الرأس وتجلب الصداع.
خرج ولم يجد عربته التي ركنها قرب البيت. صرخ كالمجنون "لقد سرقت يا أمي، ضاعت العربة." وانطلق يجري ويندب حظه في الشارع ويصرخ بأعلى صوته "لقد سرقوني...لقد سرقوني.""