انحسر الظلام شيئا فشيئا ، وتخلّله ضياء نهار جديد . وانبلج الصباح على غابة سفوح جبال سبل في يوم قاتم جدا . واستيقظت المخلوقات في هذه الغابة ، كل يسعى من أجل أمر ما في نفسه . كان يوما من أيّام الشتاء الباردة ، وقد انتشرت الغيوم الكثيفة الحالكة في السواد في أرجاء السماء الفسيحة ، تنتقل من مكان إلى آخر في الاتجاه الذي تحدده الرياح . كان الجوّ ينذر من هول أمر شديد ذي بأس سيقع قريبا ، ومن أحداث مؤلمة ستجري في حياة البعض من مقيمي هذه الغابة الكثيفة التي تقع في الشمال من قرية تركلان . انتشرت القرية ، وتناثرت أطرافها مع إنتشار وتناثر الحقول والمزارع والبساتين . وكان سكان القرية عبارة عن بضع عوائل أو يزيد من الفلاحين الذين يشتغلون في الزراعة وتربية الأبقار والماعز والأغنام والدواجن .
كان الفلاحون يقصدون هذه الغابة بين فترة وأخرى لسدّ احتياجاتهم من الحطب وجني محصول بعض الأشجار المثمرة المنتشرة في أماكن عديدة منها أو للتسلية وقضاء أوقات الفراغ أو صيد الطيور والأرانب والغزلان . ومن غير ذلك ، وخاصة في فصل الشتاء ، تظلّ الغابة مسكونة بأهلها من الأشجار والشجيرات والأعشاب والحشرات والطيور والحيوانات الوحشية وما خلق الله من أحياء ترى بالعين المجرّدة أو تخفى على الانسان رؤيتها . تعيش هذه المخلوقات وتحيا وتموت وتضمحلّ حسب قوانين الغاب المعروفة .
لو تركت الطبيعة على حالها لكان كل شيء ولاشك على ما يرام . فالطبيعة قادرة على إدارة نفسها بنفسها . ولكن أنّى يدرك الانسان ذلك ؟ فهو يتدخّل في كل صغيرة وكبيرة .
وهو وإن كان يساهم مساهمات ايجابية ، فمساهماته السلبية أكبر إن أكبر ضرر يلحقه بهذه الطبيعة يأتي من الانسان العصري وحده . ولقد كانت الحال مع هذه الغابة الجميلة . فلا يتوانى الانسان في قطع أشجارها ، ولا يخاف من الله في قتل حيواناتها . ولا يرحم طيورها ، فيهدم أوكارها ، ويسرق بيضها . ويلوّث جوّها ، فيكدّر صفوها . ويحرق الاخضر واليابس ، فيخرّب هذه الطبيعة الجميلة الخلابة . ورغم كل ذلك فالطبيعة معطاء تعيد دورتها كلّما أسيء إليها ، فتخضرّ وتنمو ، وتعود إلى سابق حالها ولكن بعد فترة أخرى من الزمان قد تطول أو تقصر حسب الأضرار التي لحقت بها .
ولقد استقرّت صاحبتنا في هذه الغابة الجميلة منذ فترة طويلة جدا قد تربو على الستين عاما أما عن الكيفية التي أتت بها إلى هذه الغابة فلا تعلم عنها شيئا . وكل ما تعلم أنها عاشت صغيرة ضعيفة ، فكبرت بمرور الأيام ، وتقوّت قوائمها ، واعتدل عودها لتضحى شابّة يانعة تعمل جاهدة ليل نهار من دون عناء من أجل الآخرين من مقيمي هذه الغابة والقرية المجاورة . فكدّت ما كدّت وما كلّت ، وجدّت ما جدّت فلا تعبت ، وضحّت ما ضحّت فما اعترضت . وكان الكثيرون يلجأون إليها لطلب ما ، فما ردّت طلب أحد يوما ، وما بخلت عن أحد شيئا مما تملكه قط .
ومرّت الأيام تلو الأيام ، وتلتها الشهور والسنين ، وها هي هذه السنوات الطويلة قد ولّت بدون رجعة ، وانقضت بلا عودة ، ومرّت سريعة كما تمرّ ليلة مؤنسة على أصحابها من اللاهين والعابثين في الحياة الدنيا . كلّ شيء يمكن أن يعوّض ويعود إلى أصحابه إلا الأعمار . تتناقص في كل يوم وساعة ، بل تتراجع في كل آن وحين . فالأجل مرسوم ، فلا يتقدّم ولا يتأخّر ولو دقيقة واحدة ، والعمر محدود ، لا يطول ولا يقصر قيد أنملة ، والقدر آت ولاشك يوما ما إن كان عاجلا أو آجلا .
لقد شاخت صاحبتنا منذ فترة ليست بالقصيرة ، ففعل الدهر فعلته في أركانها الضخمة ، فكثرت الاخاديد وتعمّقت . وتقلصت الشرايين فتصلّبت . وجفّت الأطراف ويبست . وتعوّجت الأكتاف وتهدّلت . وتضخّم العنق وتشوّه . وتحدّب الظهر فتقوّض . وتساقط الكثير من الشعر ، فما بقي منه إلا النزر اليسير . وهكذا تكون حال الكبار ، ومع ذلك تمرّ بدون دروس أو عبر . فصاحبتنا اليوم لا تستطيع أن تفعل ما كانت تفعله بالأمس وما قبل الأمس . خارت قواها ، وضعفت أوصالها ، وانحصرت أفعالها ، وقلّت نشاطاتها . فلا تتمكن الآن إلا أن تسدّ حاجتها القليلة الشحيحة بجهد جهيد . فالكساد واقع ، والأمر بالغ ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العليّ العظيم فليس هناك من موفور للغير كما كان الحال سابقا . إنها تسدّ بالكادّ حاجتها . قلّ الكرم أو انعدم ، وزاد البخل أو عمّ .
ومنذ ذلك الحين غاب الزوار عن صاحبتنا كثيرا ، وابتعد الأحباب سريعا ، وأنحسرت اللقاءات ، وقلّ الحوار ، فلا يصل إليها اليوم أحد إلا نادرا . وإن وصل فلا يحصل على مبغاه ، ولا يجد ما يرضيه ، فيقابل بالشحّة والبخل ، ويردّ وجهه ، ويواصل مسعاه ، وينأى في أركان الغابة يبحث عمّا ينفعه ، ويسدّ حاجته ، ويحققّ هدفه .
سمعت صاحبتنا صوتا غريبا قلّما تسمعه في هذه الغابة . فأصغت إليه جيّدا ، فوجدته نهيق حمار ، وحسبته عابر سبيل . فرحت واستبشرت باتصال من نوع ما ولو كان مع حيوان في هذا اليوم الكئيب . ولا زالت في نشوة فرحتها حتى شاهدت رجلا يمشي خلف هذا الحمار ، فارتعدت فرائصها من هول ما رأت . لمحته من بين الأشجار الكثيفة وهو يمشي الهوينى خلف حماره في الاتجاه الذي تقيم فيه . كانت صاحبتنا تخاف من الانسان أكثر مما تخاف من الحيوان . تسرّب الخوف إلى مكامنها ، ونفذ الهلع في أعضائها ، ولسان حالها يقول:
- ما الذي أتى بهذا الانسان إلى الغابة في هذه الساعة المبكرة من النهار في يوم كهذا ؟ إن قدومه في هذه الساعة إشارة لا تبشر بالخير . ترى ماذا يخفي هذا الرجل من نوايا ؟ هل يمكن أن تكون نواياه سيئة ؟ إنه يبحث عن شيء ، وينظر حواليه نظرات متفحّصة مريبة تكنّ وراءها نوايا خفيّة سيئة
- أواه إنه يحمل فأسا كبيرا حادّا لمّاعا على جانب كتف وحبلا طويلا قويّا ملفوفا على الجانب الآخر منه . ما الذي سيفعله هذا الرجل يا ترى ؟ أيعقل أن يغدر بي هذا الانسان الذي خدمته كل هذه السنوات الطويلة ؟ ولكن ليس كل ما يفعله هذا الانسان من المنطق والمعقول دائما . ومن السهولة بمكان أن تجد بين بني البشر من الغادرين الظالمين والمغدورين المظلومين . أنا لم أفعل شيئا ، ولم أغدر أحدا ، ولم أقترف إثما ، ولم أرتكب جرما ، فلماذا يعتدي عليّ ؟ ولكن ، ولكن هذا الفأس يخيف ، وقد يستخدم كآلة للقتل والاجرام ، وقد يقع الفأس على الرأس لا سامح الله .
ارتعدت فرائصها خوفا ورعبا ، وارتجفت أوصالها ظاهرا وباطنا ، واصفرّت محيّاها قلبا وقالبا ، وانقطعت أنفاسها هما وحزنا . أرادت أن تتحرك من مكانها ، وتختفي بين الأشجار الكثيفة ، إلا أنها لم تستطيع ، فقد جفت المياه في عروقها ، وانشلت أركانها ، ويبست أطرافها ، وخدرت أعضاؤها ، فلا حراك لها البتة ولو كان قيد شعرة واحدة . ليس لها من مفرّ إلا الانتظار ، والتسليم لأمر الله ، وتوقع ما يمكن أن يحصل ، فلا حيلة في الأمر . وليس من أمر أصعب في الحياة من الانتظار القاتل للموت الحتمي ، فهمست في كمائن نفسها:
- رحماك يا ربي من هول هذا الانسان الخبيث الذي خدمته سنين طويلة من عمري . فقد أكل من عرق جبيني ، وعصارة قلبي ، وفلذة كبدي . لقد قضيت حاجته ، فسدّدت رمقه ، ورويت ظمأه وهو يجوب في هذه الغابة . لقد خدمته أكثر من ستين سنة فما بخلت قط لقد أكل كلّ من هبّ ودبّ من عصارة كدّي ونتاج جهدي . أكدّ كثيرا ، وأنتج موفورا ، وما ردّيت في شيء طلب من أحد .
ولعبت الريح في شعرها المتناثر لعبا خفيفا كمن يريد أن يمزح معها ، فما دارت لها بالا ، وما حرّكت لها ساكنا ، ولا أصغت لها أذنا . فقالت في نفسها :
- دعيني في حالي أيتها الريح ، الأمر وبيل جدا في هذا اليوم ، ولا مجال للتسلية والمزاح .
دنا الرجل شيئا فشيئا ، وألقى فأسه على الأرض ، ووضع الحبل جانبا ، وترك حماره لكي يقتات من الاعشاب المنتشرة هنا وهناك . وجلس هنيهة يرتاح من تعب الطريق ، ثم أخرج كيسا فيه شيء من فتّات الخبز وقطع من الحلوى . طفق الرجل بالبسملة ، واقتات بما لديه من مؤونة في دقائق معدودة ، فملأ بطنه ، وسدّ رمقه ، ثم شرب الماء ، فروى ظمأه ، ومسح حلقه ، فحمد الله ، وتنحنح طويلا إشارة إلى أن كل شيء على ما يرام ، وأن الوقت قد حان للعمل . كانت هذه الفترة العصيبة أصعب فترة مرّت على هذه المسكينة القابعة على بعد عدة أمتار من هذا الانسان ، تتابع ما يفعله بسكون بالغ يكنّ عن هلع ورعب شديدين .
قام الرجل من مكانه ، وعدل ظهره فاستقام . ومشى نحو الفأس ، وتناوله بقبضة من حديد . وألقى نظرة فاحصة إلى ما حواليه ، وتوجّه أول ما توجه نحو هذه المسكينة التي شلّها الرعب والهلع من الحراك . فما استطاعت المسكينة أن تصرخ ، ولا قدرت أن تئنّ ، قابلة بقدرها غير واعية بما سيحصل .
اقترب الفلاح منها كثيرا حتى كان قاب قوسين أو أدنى ، ورفع فأسه عاليا إلى ما فوق رأسه ، ثم إنحنى قليلا . وما هي إلا لحظات عديدة حتى أسقطها عليها بسرعة متناهية . وبدون رحمة أو شفقة إنهال عليها ضربا شديدا مبرحا . وما كانت إلا بضع ضربات قويّة بهذا الفأس الضخم حتى هوت صاحبتنا خامدة ، وسقطت على الارض هامدة بدون حياة . لقد ارتكب هذا الرجل جرما كبيرا . وكانت النهاية ، نهاية شجرة التوت الضعيفة المنخورة . سقطت لتكون حطبا يحترق في النار ، تنفع الانسان الغادر حتى بعد الممات ، كما نفعته كثيرا في حياتها الطويلة .