كأنني وشم منسي على ذراع مشلولة. أتراءى في مراياي المضمخة بالشقوق والتشوهات جثة عفنة عافتها الديدان. ما الذي يمكن أن يشدني إلى هذا الوجود الأخرق غير تعب آنسته أيامي الموغلة في تفاصيل الهباء واللاجدوى. أجرجر الوقت من قفاه أو يجرجرني الوقت من قفاي؛ الأمر سيان, جار أو مجرور ما الفرق بينهما؟
في لحظة ما وفي غفلة من الغيم الضارب في أفق طفولتي الشاحبة, حلمت بأنني ربما أصير شيئا ذا شأن يذكر. هكذا تنبأ لي صديق لأبي التقيناه مرة وأنا مجرور إلى حلاق ينصب صالونه خيمة في أحد الأسواق الشعبية.
اعتاد أبي أن يأخذنا –أنا وإخوتي- إليه فنرجع إلى البيت نحمل حبات كبيرة من البطيخ مكان رؤوسنا. مرات كانت بقع صغيرة حمراء تؤثث المنظر كأنما حلقت رؤوسنا بقطع من الزجاج.
انحنى صديق أبي علي فكأنما نزل إلي من السماء لطوله الفارع أو لقصري المفرط, لا أدري, قبلني على رأسي الممتلئ شعرا كثا تعشش فيه كائنات حية كانت أمي تستلذ بضبطها تسرح في ثناياه و"طرطقتها" بين أظافرها وأنا أتلوى بين يديها. سألني عن اسمي فأجبته. سألني عن مستواي الدراسي, أجبته. قال لي: "هل تدرس اللغة الفرنسية؟" أجبته: "نعم". طلب مني أن أقول له كلمة بالفرنسية. فكرت قليلا وقلت:"mina". ضحك بقوة وهو يربت على رأسي. قام واقفا فابتعد عني إلى أعلى والتفت إلى أبي وقال له وهو ما يزال يهتز من الضحك: "اعتن به كثيرا, سيكون له شأن كبير".
نقدني درهما كاملا كبيرا.نزلت علي نظرات أبي من فوق. عيناه حمراوان أبدا وغضبه الذي كان يرميني ركاما من الرعب لم أعقل له سببا مقنعا. عقب عليه: "أي شأن سيكون له؟ هذا الجيل مسخوط الوالدين, والله لو عولت عليه لما أسعفك ولو بشربة ماء". ثم دفعني أمامه بشيء من عنف اعتدته كثيرا منه. ودع صديقه, وعندما ابتعدنا قليلا أمرني بتسيلمه تلك الدرهم. نظرت إليه بتوسل يشوبه قهر شديد. كانت يده الآتية من عليائه لا راد لقضائها. استسلمت, في قلبي تكبر غصة عميقة وفي عيني دمعة كبيرة بحجمي. كان صادقا في حدسه, فأنا لم أسعفه بأقل من شربة ماء حتى. داهمه الفقر من كل الجوانب فاختار ذات ليلة أن يوافي أيامه الباقية في كنف فقر آخر ربما.
أنا الآن أتسكع بلا شأن يذكر. تماما كما تنبأ أبي ذات سخرية وأنا ألفظ كلمة التقيتها في مقرر الفرنسية وأنا أرسم أولى خطواتي نحو لغة أولئك الذين كانوا يملؤون شاشاتنا بعيونهم الزرق والخضر وشعورهم التي لم تكن تشبه شعورنا في شيء وكذا بمسدساتهم. توقفت عند حدود تلك الكلمة لأن أبي لم يترك لي فرصة اكتشاف كلمات أخرى. أصر على فصلي من الدراسة وأنا لم أكمل بعد سنتي الثالثة الابتدائية رغم الجروح التي خلفتها أظافر أمي على خديها وهي تستعطفه بعار والديه وبجميع الأولياء والصالحين الذين يؤمن هو ببركتهم. كان يسب عروقها ويصرخ في وجهها أنني لن أفلح في الدراسة وخير لي أن أتعلم حرفة تساعده على محاربة فقره الذي ألم به منذ رأى خلقتها التي تجلب النحس. ربما لو تركني أستكمل مشواري في المدرسة لاستطعت في يوم ما أن ألبس وزرة بيضاء نظيفة وأدور بسماعتي على المرضى تنبعث مني رائحة عطر خفيف ممزوجة برائحة الأدوية والسجائر تماما مثلما هي رائحة طبيب مستشفى "الحومة", ولاستطعت أن أعالج جروح أمي وهي تستجديه لحظتئد وجروحها الكثيرة وهو يهجم عليها مثل ثور هائج ليشبعها ضربا وقهرا. كان ذلك حلمي الذي كنت أسرقه باحتراف من براثن أيامي المتلفعة بضباب لم ينقشع لحد الساعة. شاء أبي أن يغتصبه كما اغتصب تلك الدرهم التي كانت سترزقني شأنا كبيرا لو استمرت في يدي. لكنه حدس ألا شأن لي في الأفق رغم أنه اعترف لي مرة أن شأني قد كبر؛ وهو "يسلخني" ذات شيء اقترفته لم أبال بفداحته, ينهال علي بصندل من المطاط لأمي, يزوق لحمي كيفما اتفق, صرخ بكامل هيجانه:"كبر ليك الشأن أولد السفاح حتى وليتي كتهز علي ايديك؟"
كان شأني ينهار تماما. رأسي خرائط من علامات شتى عناوين لفشل ذريع عندما ولجت باب "العمل". كل من اشتغلت لديه كان يطردني وقد ختم على قشرة رأسي شهادة الاعتراف بقدراتي الهائلة. آخر حرفة جربتها خرجت منها بشهادة ستجعل حتى أمي تطردني من ذاك الجحر الذي كنا نتكوم فيه مثل القمامة ولم أعد إليه أبدا تاركا لقدمي مصيري المتهالك على أعتاب السراب. التحقت بمصنع للأحذية. علمني أحدهم كيف أطلي قطع الجلد بالغراء. دار رأسي بسرعة الضوء ولم أكمل بعد ساعاتي الأولى. مع مرور الأيام أدمنت رائحة الغراء النفاذة. صرت لا أصبر على فراقها إلى أن اكتشفت كبسولة "السليسيون" التي رمتني في أودية سحيقة تفرعت عنها الأزقة الخلفية والمزابل والمطاردات الليلية والعالم السفلي.
هاأنذا الآن شأني يكبر مع النبذ و التشرد أوقع على سبيل النزيف بخطوات تترنح بين أنفاسها الخائبة, يأتيني صوت يتلبس الفقر والمسكنة يقتحم سجف الغياب الذي أرميه علي:"شي صدقة أوليدي الله يعلي شانك". أنظر إلى مصدر الصوت, شبح يلفه الضباب لا أستطيع فك عناصره. حتى لو كان عندي ما أعطيه فلن تأخذه أبدا. هذه "الشأن" لا أحبها. لو أستطيع أن أحذفها من جميع قواميس الأرض؟؟؟؟
أنا الآن أتسكع بلا شأن يذكر. تماما كما تنبأ أبي ذات سخرية وأنا ألفظ كلمة التقيتها في مقرر الفرنسية وأنا أرسم أولى خطواتي نحو لغة أولئك الذين كانوا يملؤون شاشاتنا بعيونهم الزرق والخضر وشعورهم التي لم تكن تشبه شعورنا في شيء وكذا بمسدساتهم. توقفت عند حدود تلك الكلمة لأن أبي لم يترك لي فرصة اكتشاف كلمات أخرى. أصر على فصلي من الدراسة وأنا لم أكمل بعد سنتي الثالثة الابتدائية رغم الجروح التي خلفتها أظافر أمي على خديها وهي تستعطفه بعار والديه وبجميع الأولياء والصالحين الذين يؤمن هو ببركتهم. كان يسب عروقها ويصرخ في وجهها أنني لن أفلح في الدراسة وخير لي أن أتعلم حرفة تساعده على محاربة فقره الذي ألم به منذ رأى خلقتها التي تجلب النحس. ربما لو تركني أستكمل مشواري في المدرسة لاستطعت في يوم ما أن ألبس وزرة بيضاء نظيفة وأدور بسماعتي على المرضى تنبعث مني رائحة عطر خفيف ممزوجة برائحة الأدوية والسجائر تماما مثلما هي رائحة طبيب مستشفى "الحومة", ولاستطعت أن أعالج جروح أمي وهي تستجديه لحظتئد وجروحها الكثيرة وهو يهجم عليها مثل ثور هائج ليشبعها ضربا وقهرا. كان ذلك حلمي الذي كنت أسرقه باحتراف من براثن أيامي المتلفعة بضباب لم ينقشع لحد الساعة. شاء أبي أن يغتصبه كما اغتصب تلك الدرهم التي كانت سترزقني شأنا كبيرا لو استمرت في يدي. لكنه حدس ألا شأن لي في الأفق رغم أنه اعترف لي مرة أن شأني قد كبر؛ وهو "يسلخني" ذات شيء اقترفته لم أبال بفداحته, ينهال علي بصندل من المطاط لأمي, يزوق لحمي كيفما اتفق, صرخ بكامل هيجانه:"كبر ليك الشأن أولد السفاح حتى وليتي كتهز علي ايديك؟"
كان شأني ينهار تماما. رأسي خرائط من علامات شتى عناوين لفشل ذريع عندما ولجت باب "العمل". كل من اشتغلت لديه كان يطردني وقد ختم على قشرة رأسي شهادة الاعتراف بقدراتي الهائلة. آخر حرفة جربتها خرجت منها بشهادة ستجعل حتى أمي تطردني من ذاك الجحر الذي كنا نتكوم فيه مثل القمامة ولم أعد إليه أبدا تاركا لقدمي مصيري المتهالك على أعتاب السراب. التحقت بمصنع للأحذية. علمني أحدهم كيف أطلي قطع الجلد بالغراء. دار رأسي بسرعة الضوء ولم أكمل بعد ساعاتي الأولى. مع مرور الأيام أدمنت رائحة الغراء النفاذة. صرت لا أصبر على فراقها إلى أن اكتشفت كبسولة "السليسيون" التي رمتني في أودية سحيقة تفرعت عنها الأزقة الخلفية والمزابل والمطاردات الليلية والعالم السفلي.
هاأنذا الآن شأني يكبر مع النبذ و التشرد أوقع على سبيل النزيف بخطوات تترنح بين أنفاسها الخائبة, يأتيني صوت يتلبس الفقر والمسكنة يقتحم سجف الغياب الذي أرميه علي:"شي صدقة أوليدي الله يعلي شانك". أنظر إلى مصدر الصوت, شبح يلفه الضباب لا أستطيع فك عناصره. حتى لو كان عندي ما أعطيه فلن تأخذه أبدا. هذه "الشأن" لا أحبها. لو أستطيع أن أحذفها من جميع قواميس الأرض؟؟؟؟