الكورنيش : مقهى شهيرة بمدينة الجديدة المغربية
هدمت صيف 2004
كان يرتادها الشاعر والقاص والنقابي والطالب الجامعي
وعاشق البحر والصحافي والزجال وبائعة الهوى ...
لأول مرة يتبدّى لي وجهي أليفا . لازلت لحد الآن أعتقد أن جلوسي بمحاذاة المرآة لم يكن بالصدفة . لا شك أن قوة عاتية دفعتني إلى هذا الكرسي لأرى وجهي على المرآة مشرّحا وواضحا كموال جميل .
رغم الدخان والزحام واللغط ، كان صوت وديع الصافي " الله يرضى عليك يا ابني " يخترق الوجوه والكؤوس والحيطان ليعرّش على قلبي كسرب حمام ..
مقهى الكورنيش بالجديدة جسد أنثوي مخضّبٌ بريش النوارس ودم السفن الهاربة . والبحر من خلال النوافذ يتثاءب ، يتمدّد ، يصبغ الساحل بالرغوات الكثيرة .
كم سيجارة سوف أدخن ؟ أي بحر عروضي سأشتغل عليه ؟ أية وجوه أليفة سأستحضرها الآن ليكون لمذاق الكأس طعم السيوف وطعم النزيف ؟
في هذه المقهى تعلمت أشياء كثيرة : تعلمت كيف أوقف ساعة الحائط عن الدوران .. كيف أمزج حليب القهوة بثاني أوكسيد الانتظار .. كيف أسرّح شَعر آخر امرأة ذبحتني ؛ أُسرّحه فوق الطاولة كالغابات والنخيل وأرخبيلات الحرير العميقة .. وتعلمت أيضا كيف أوزّع على طيور الهواء عناوين اللاتي أحببت ؛ اللاتي اجتمعتُ بهن في العصور الحجرية الأولى ...
في هذه المقهى كان شارب شكيب عبد الحميد طويلا . فارس من فرسان القرن السابع عشر ؛ أولئك الذين نعجب بنظراتهم الواثقة وعضلاتهم المفتولة ، وهم جامدون خالدون رغم مرور الزمن داخل اللّوحات الضخمة المعلّقة فوق حيطان بيوت الأثرياء !
وكان عبد الحميد أكثرنا فرحا وأكثرنا صخبا .
آه لو تسمعني الآن يا عبد الحميد ! آه لو ركبت معي هذا الحصان الواقف في الصراط لنحرّر " أزمور " قراصنة البحر .. إني الآن أطارد ظلك وهو يهاجر من حي (القلعة ) إلى جينوا ؛ ظلك المفتون باقتحام القارات البعيدة : حيث الرّوم يتمايلون بقامات شامخة ، والروميات اللذيذات المتصابيات يذبحنك من الوريد إلى الوريد .. وأنت أيها السندباد العربي الدكالي المهزوم تسمعهنّ يهتفن :
ماذا يفعل هنا هذا الرجل المصلوب على حائط اللغة ؟ ألم تكفه أسواق قريش ونخيل البصرة ؟!
من بعيد يشرق وجه أبوبكر متاقي .لازالت الكورنيش تستقبل الهواء القادم من جنة عليا . أبوبكر يشرب جرعتين متتاليتين فتقطر من قلبه فرحة مخلوطة بحزن قديم . صوت الزبناء المعربد القاسي الشريد يفسد ألحان " مسناوة " . أبو بكر يتمثّلُ اللّحن ، يتذوّقه ، يذوقه ويتلمّظه كحلوى قديمة أكلها خلسة في طفولته بأحد الأسواق الأسبوعية ولازال طعمها ينعش شفتيه ، وأخيرا يكتب كل ريحه :
الأحراش المحاطة بالأشواك وأول الحب والمنديل الأبيض الناصع النقي المبتلّ بضباب
(لوهافرْ ) ؛ ذلك المنديل يمرُّ بقربه عبر زجاج الكورنيش فينتفض مذعورا :
هذه رسالة من السماء .. سلام عليكم أيها البعيدون القريبون ..
المقهى مازالت مفتوحة : يدخل اليساريون واليمينيون والوسطيون والمحايدون والمائلون الشحادون وعابرو السبيل ..
سلام عليكم ومرحبا بكم ، لا تتركوني أفتقدكم ، فبعد ساعات سأشيخُ وأسقط في حفرة اسمها النسيان . لا تتركوا أقدامكم تسير كما تشاء الأرصفة . فللخطى ميزان ، وللصراط ميزان حين نعبره ، لذلك لا نلتفت لغيرنا . وأبواب الجحيم مفتوحة كأقواس قزح تتمدّد فوق أسرّة الغيم .
أين نربي أحلامنا الميتة ؟ أين المفر ، كلاّ لا مفرّ . أين نفرّ بأجثاثنا حين تقتحمنا القاطرات الليليّة السّريعة ..؟
لا خوف عليكم . ستدرك " أنحاءك " كلها ، ما ظهر منها وما بطن ، ياسعيد ياسف . بكامل أبعادها ستدركها ، بعكازتين متعبتين ستطرق – وحيدا – بابا يفتحه دمك الأبيض فتدخل إلى الهاوية حيث الأزهار وعروض الشعر ومقبرة الحديد التي ستزهر عنبا ورمّانا .
يا سعيد ياسف : ستمدّ يداً لتقبض الوعي الساقط في الهاوية ، أخرجه رجاء ، لا تقْسُ عليه ، والوعي الشّقيّ أملس ولزج ومنفلت كالزئبق !
ستمتدّ أنحاؤك تجرف السموات جميعَهَا : ستقول كلمتكَ . ولكن كيف جاء الوحش الفولاذيّ العدو الدمويّ الرعويّ الانكشاريّ الرّعديد ؟! كيف جاءت الجرافة وأحاطت ببيتنا الزجاجي الجميل ؟ كيف سُمِحَ للوحش بأن يجرف تاريخنا وجغرافيتنا العريقين؟!
لا خوف عليكم .. لا خوف عليكم أصدقائي .
وأنت يا بن الشاوي يا هشام يا أقحوانة الشلة ! لن تشم بعد الآن رائحة قهوة الكورنيش . لن طيور البجع عبر الزجاج . لن تنتظر أحدا هناك . لن تكتب مقطعا سرديا على أنغام أم كلتوم الممزوج بأصوات الندلان وباعة السجائر المهربة . تلك أيام . تلك أيام ...
لا خوف عليكم . سأعدّ الوليمة كما تشاء طيوركم البيضاء . سأزرع بقرب حدائقكم عشرين مرآة ، فأنا مدركٌ تماما أن شَعْرَكُمْ حين يطول ؛ لا تكفيه مرآةٌ واحدة ..
( الكورنيش ) عادة تفتح أبوابها السبعة باكرا . تدخل الفصول الأربعة دفعة واحدة . في أقصى الجرح يقشّر ياسف فاكهة الوقت بينما أبو بكر يبحث عن مكان بعيد ليتمّ فيه بناء " مقبرته الحديدية " ، فيما أجدني مدفوعا لمسح الوجوه من الغبار والأشجار
....الكناية تتناسل فوق الحجر . دم الزجاج يقطر لؤلؤا . الأقلام تكتب . النادل يرقص على إيقاع الجثة الواقفة : نفسها الجثة الخضراء التي تدخل دفعة واحدة من الأبواب السبعة .
...وهذه الكأسُ ، من يشربها عوضاً عني ، فأنا محكوم علي بأن أغني لعينيك بكل لغات العواصم ؟ وهذه السيجارة من سيشعلها عوضا عني ، فأنا محكوم علي بأن أحمي شَعْرَكِ المرسل من حجارة طير أبابيل .. ؟
في هذه المقهى يتوقف العالم سويعات حتى أكتب القصيدة كلها .أكتبها بالتقسيط . اللحم والعظم أوّلا ، ثم أنفخ الأوكسجين . لازال الليل طويلا . فلماذا تتأهّبُ للرّحيل يا أَنْكِيدُو ؟ اُترك الحروب تشتعل ، والزرافات تطول ، والغزلان تئنُّ ،
والأيائلُ تتناسل نكاية بالغابة وماجاورها ...
الآن فقط ، أكتشف وجهي بوضوح ، يصبح أليفا كقطة عائلية . العينان تحمرّان . الشعر يتشكّل كقصيدة نثر مرتجلة ..
وجهي الحزين الصغير الغامض : وجه السارد أم الكاتب أم البطل ؟
وجهي من يستطيع أن يحمله عوضا عني لأستطيع تأمّله بحياد تام ؟ من يستطيع أن يكون ( أنا ) لأستطيع أن أكون البحر .. ؟!
مرّتْ سنوات فجاءت الجرّافات كخيول فاشية يقودها الشيطان . تهدّم برج الإسفلت وانهار القرميد فسالت حجارته وتناثرت حبّات رمله ، وتكسّر الزجاج الواضح فصار شظايا غامضة ذات شقوق كأنها رسومٌ نكعيبيّةٌ محمّلة بقسوة اللامعنى و ضراوة اللاجدوى .
تهدمت مقهى الكورنيش .
الدموع التي انسكبت حدادا عليها ، أهي دموع الشاعر أم النادل أم القاص أم الصحفي أم النقابي أم الطالبة الجامعية أم بائعة الهوى ..؟
أم دموعي أنا ؟
أم دموعٌ يتيمة ليستْ لأحدْ ؟!
في هذه المقهى كان شارب شكيب عبد الحميد طويلا . فارس من فرسان القرن السابع عشر ؛ أولئك الذين نعجب بنظراتهم الواثقة وعضلاتهم المفتولة ، وهم جامدون خالدون رغم مرور الزمن داخل اللّوحات الضخمة المعلّقة فوق حيطان بيوت الأثرياء !
وكان عبد الحميد أكثرنا فرحا وأكثرنا صخبا .
آه لو تسمعني الآن يا عبد الحميد ! آه لو ركبت معي هذا الحصان الواقف في الصراط لنحرّر " أزمور " قراصنة البحر .. إني الآن أطارد ظلك وهو يهاجر من حي (القلعة ) إلى جينوا ؛ ظلك المفتون باقتحام القارات البعيدة : حيث الرّوم يتمايلون بقامات شامخة ، والروميات اللذيذات المتصابيات يذبحنك من الوريد إلى الوريد .. وأنت أيها السندباد العربي الدكالي المهزوم تسمعهنّ يهتفن :
ماذا يفعل هنا هذا الرجل المصلوب على حائط اللغة ؟ ألم تكفه أسواق قريش ونخيل البصرة ؟!
من بعيد يشرق وجه أبوبكر متاقي .لازالت الكورنيش تستقبل الهواء القادم من جنة عليا . أبوبكر يشرب جرعتين متتاليتين فتقطر من قلبه فرحة مخلوطة بحزن قديم . صوت الزبناء المعربد القاسي الشريد يفسد ألحان " مسناوة " . أبو بكر يتمثّلُ اللّحن ، يتذوّقه ، يذوقه ويتلمّظه كحلوى قديمة أكلها خلسة في طفولته بأحد الأسواق الأسبوعية ولازال طعمها ينعش شفتيه ، وأخيرا يكتب كل ريحه :
الأحراش المحاطة بالأشواك وأول الحب والمنديل الأبيض الناصع النقي المبتلّ بضباب
(لوهافرْ ) ؛ ذلك المنديل يمرُّ بقربه عبر زجاج الكورنيش فينتفض مذعورا :
هذه رسالة من السماء .. سلام عليكم أيها البعيدون القريبون ..
المقهى مازالت مفتوحة : يدخل اليساريون واليمينيون والوسطيون والمحايدون والمائلون الشحادون وعابرو السبيل ..
سلام عليكم ومرحبا بكم ، لا تتركوني أفتقدكم ، فبعد ساعات سأشيخُ وأسقط في حفرة اسمها النسيان . لا تتركوا أقدامكم تسير كما تشاء الأرصفة . فللخطى ميزان ، وللصراط ميزان حين نعبره ، لذلك لا نلتفت لغيرنا . وأبواب الجحيم مفتوحة كأقواس قزح تتمدّد فوق أسرّة الغيم .
أين نربي أحلامنا الميتة ؟ أين المفر ، كلاّ لا مفرّ . أين نفرّ بأجثاثنا حين تقتحمنا القاطرات الليليّة السّريعة ..؟
لا خوف عليكم . ستدرك " أنحاءك " كلها ، ما ظهر منها وما بطن ، ياسعيد ياسف . بكامل أبعادها ستدركها ، بعكازتين متعبتين ستطرق – وحيدا – بابا يفتحه دمك الأبيض فتدخل إلى الهاوية حيث الأزهار وعروض الشعر ومقبرة الحديد التي ستزهر عنبا ورمّانا .
يا سعيد ياسف : ستمدّ يداً لتقبض الوعي الساقط في الهاوية ، أخرجه رجاء ، لا تقْسُ عليه ، والوعي الشّقيّ أملس ولزج ومنفلت كالزئبق !
ستمتدّ أنحاؤك تجرف السموات جميعَهَا : ستقول كلمتكَ . ولكن كيف جاء الوحش الفولاذيّ العدو الدمويّ الرعويّ الانكشاريّ الرّعديد ؟! كيف جاءت الجرافة وأحاطت ببيتنا الزجاجي الجميل ؟ كيف سُمِحَ للوحش بأن يجرف تاريخنا وجغرافيتنا العريقين؟!
لا خوف عليكم .. لا خوف عليكم أصدقائي .
وأنت يا بن الشاوي يا هشام يا أقحوانة الشلة ! لن تشم بعد الآن رائحة قهوة الكورنيش . لن طيور البجع عبر الزجاج . لن تنتظر أحدا هناك . لن تكتب مقطعا سرديا على أنغام أم كلتوم الممزوج بأصوات الندلان وباعة السجائر المهربة . تلك أيام . تلك أيام ...
لا خوف عليكم . سأعدّ الوليمة كما تشاء طيوركم البيضاء . سأزرع بقرب حدائقكم عشرين مرآة ، فأنا مدركٌ تماما أن شَعْرَكُمْ حين يطول ؛ لا تكفيه مرآةٌ واحدة ..
( الكورنيش ) عادة تفتح أبوابها السبعة باكرا . تدخل الفصول الأربعة دفعة واحدة . في أقصى الجرح يقشّر ياسف فاكهة الوقت بينما أبو بكر يبحث عن مكان بعيد ليتمّ فيه بناء " مقبرته الحديدية " ، فيما أجدني مدفوعا لمسح الوجوه من الغبار والأشجار
....الكناية تتناسل فوق الحجر . دم الزجاج يقطر لؤلؤا . الأقلام تكتب . النادل يرقص على إيقاع الجثة الواقفة : نفسها الجثة الخضراء التي تدخل دفعة واحدة من الأبواب السبعة .
...وهذه الكأسُ ، من يشربها عوضاً عني ، فأنا محكوم علي بأن أغني لعينيك بكل لغات العواصم ؟ وهذه السيجارة من سيشعلها عوضا عني ، فأنا محكوم علي بأن أحمي شَعْرَكِ المرسل من حجارة طير أبابيل .. ؟
في هذه المقهى يتوقف العالم سويعات حتى أكتب القصيدة كلها .أكتبها بالتقسيط . اللحم والعظم أوّلا ، ثم أنفخ الأوكسجين . لازال الليل طويلا . فلماذا تتأهّبُ للرّحيل يا أَنْكِيدُو ؟ اُترك الحروب تشتعل ، والزرافات تطول ، والغزلان تئنُّ ،
والأيائلُ تتناسل نكاية بالغابة وماجاورها ...
الآن فقط ، أكتشف وجهي بوضوح ، يصبح أليفا كقطة عائلية . العينان تحمرّان . الشعر يتشكّل كقصيدة نثر مرتجلة ..
وجهي الحزين الصغير الغامض : وجه السارد أم الكاتب أم البطل ؟
وجهي من يستطيع أن يحمله عوضا عني لأستطيع تأمّله بحياد تام ؟ من يستطيع أن يكون ( أنا ) لأستطيع أن أكون البحر .. ؟!
مرّتْ سنوات فجاءت الجرّافات كخيول فاشية يقودها الشيطان . تهدّم برج الإسفلت وانهار القرميد فسالت حجارته وتناثرت حبّات رمله ، وتكسّر الزجاج الواضح فصار شظايا غامضة ذات شقوق كأنها رسومٌ نكعيبيّةٌ محمّلة بقسوة اللامعنى و ضراوة اللاجدوى .
تهدمت مقهى الكورنيش .
الدموع التي انسكبت حدادا عليها ، أهي دموع الشاعر أم النادل أم القاص أم الصحفي أم النقابي أم الطالبة الجامعية أم بائعة الهوى ..؟
أم دموعي أنا ؟
أم دموعٌ يتيمة ليستْ لأحدْ ؟!