في تلك القرية الآمنة, حيث القلوب فيها هي الدليل إلى كل شيئ , لم يكن هناك حاجة لأنوار إضافية تضيئ الدروب , فالناس كل الناس أدمنوا تلك الزوايا والدروب, فكانوا يمشون مسترشدين بإستبصارات داخلية لايعنيها أي أضواء خارجية قد تزيد الطرق المرصوفة بالحب ظلاماً .
كانت الأفراح تقام على أضواء معتقة في زجاج قديم أمام إحدى دور العبادة , فيصبح أي فرحٍ عبارة عن تراث مقدس , يرتبط بالروح لا بأي شيئ آخر , ولذلك كانت أفراحاً حقيقية و سعيدة.
وكان التواصل روحاً لروح , لا يحتاج لأسلاكٍ ومحطاتٍ ومراكزَ خدمة،وكان اتصال الانسان بداخله هو ما يميز تلك البيئة وهذا المكان، و لم يكن الناس يحتاجون إلى كثيرٍ من المكر والدهاء والفكر ليصلوا إلى غاياتهم .وربما كما يقول أحد الفلاسفة , الحكمة و السعادة كانتا تلازمان الانسان منذ بدء الخليقة حتى تطورت لديه القشرة الدماغية المفكرة فغدا بعيدا عن الحكمة وبعيدا عن السعادة....
لم تستمر الأمورهكذا في هذه القرية....كانت رياح أخرى تجتاح كل أرجائها , ولعل أول بشائرها كانت سيارة مرسيدس يركبها رجلٌ قصير القامة , يقف في ساحة القرية ويترجل من سيارته , يرتدي معطفاً ونظارات كانت تفصله عن كل شيئ.
يهرع إليه الأطفال الذين كانوا يلعبون بسعادة وأمان على قارعة الطريق، يوزع عليهم دمى المسدسات وبعض قطع الحلوى التي تصطبغ بالألوان الحديثة للوقت...
يأتي اليه حارس القرية الذي لم ينتبه لمروره , فهو يلبس نفس اللباس ويتحدث بنفس اللكنة وله نفس اللون , تلك الأشياء التي برمجت عليها عصا الحارس على أنها أشياء من الذات لا خوف منها...
قال الحارس : أهلا بك , هل أنت مهاجر وعدت أم ماذا ؟أجابه: أنا أبو ناصرمن قرية قريبة خلف هذا الوادي،إسمي سعيد . رحب به الحارس ، وتركه يلتصق بالمكان كما يشاء.
ذهب أبو ناصر الى سيارته , أحضر بندقية حديثة وقال له: هذه هدية لك قد تحتاجها.أجابه الحارس لا حاجة لي لبندقية في هذه القرية فأنا أحرس القرية بصفائها لا بعصاي ، أجابه :ربما تحتاجها لكلب غريب يهجم على حين غرة , ثم أنها مجهزة بزناد أمان يقفلها متى تشاء. تقبل الحارس الفكرة،ومضى يفكر أين يمكن أن يجرب بندقيته , لعلها حركت فيه باب الشر الموصد بالوراثة.
دخل أبو ناصر المسجد توضأ من مائهم وصلى على سجادتهم , وسلم على الناس الذين لم يعرفوه ولم يستغربوا شكله، ثم ذهب الى الإمام وقال له هل لي أن أساعد في ترميم هذا المسجد , اذ أن هذه الحجارة القديمة و هذا اللون القديم للمحراب و المنبر،كلها تحتاج بعض التعديلات ،وسأتولى الأمر إن سمحت لي.وما كان للامام أن يرفض.ثم تابع أبو ناصر رحلة البحث عن مفتاح آخر للقرية.
ذهب إلى الرجل الأكبر في القرية, أهداه ساعة حائط كي يرعبه مرور الوقت فيما تبقى من أيام , وسأله ما هو المرض الأشيع هنا بين الناس ؟ وكيف يمكن أن نعالجه ؟
وكان الواقع يتحدث , وهو يصغي بأكثر من أذنين ويفكر.سأل عن الأطفال ، وعن الشباب ، وإهتماماتهم ،وأوقات فراغهم ،وروتين زواجهم، وعن النساء وتطلعاتهن.
بعد أيام كان مقر شركته الجديد يتجه نحو قبلتهم , بلونٍ جديدٍ , ورقم هاتفٍ , وسكرتيرةٍ بحجم المخطط , وحارسٍ شخصي يتنفس الكراهية، وسياراتٍ تمشي بلا استئذان،و رجال أمن يملؤهم الخوف، و حراس يشربون ماء الشك.
وخلال فترةٍ بسيطةٍ أصبح أبو ناصر شرياناً أساسياً في دورة الدم.فلا فرح ولا حزن ولا جلسةضميرولا احتفال بعيد وطني أو بعيد الأرض، الا وهو أول المدعويين إليه.
أصبح يوزع الهدايا على الناسِ مرتين في الشهر.و في هذين اليومين عن دونهما من الأيام , يتواصل العشاق بعد انقطاع، فهذا يحمل لحبيبته هديةًو يذهب إلى بيت أهلها رافعاً رأس الحب عالياَ،وفيهما ترتفع الأيادي بالدعاء للأبناء الذين يصلون أرحامهم.أما الزوجات فتتورد خدودهن وتمتلئ أثدائهن بانتظار مناسبة مع زوج يقضي جل وقته في العمل، والهموم تزداد عليه،و يأتي هذان اليومان فتمتلئ رجولته،و ينضج صوته ، و يصبحَ قِّيم البيت و سيّده .
كان أول مشروع بدأ به أبو ناصر هو معمل لصناعة البلاستيك...ولم يكن يحتاج للكثير من الوقت ليصبحَ البلاستيك على لسان كلِ شخص , فموضوع مادة التعبير في المدرسة هو البلاستيك و طرق نقله وحفظه ، بينما أفرد مدرس الكيمياء حصتين كاملتين يتحدث فيهما عن أفضلية البلاستيك على الذهب والبلاتين في جدول مندليف هذا الشيوعي الذي أغفل ذكر البلاستيك لأنه لم يكن يريد لوطننا النصر والتطور والمواجهة.أما إمام المسجد الذي كان يرتدي عباءة شرقية مرصعة بالفضة،و ترتدي صلاته ثوباً بعيداً عن الرحمن , فكان حديثه في آخر عشر خطب عن فضائل لبس البلاستيك ,لا بل إن المائدةَ التي نزلت على سيدنا عيسى كانت مصنوعة من البلاستيك حسب بعض الروايات . بينما كانت محاضرة الأسبوع السياسية والتي قدمها مدير المركز الثقافي، فقد تحدثت عن دور البلاستيك في مقاومة العدو وكسر أسطورة أنه لا يقهر.
نسي الناس السهرات والأمسيات , ونسوا دروب الحب , وطرق السعادة . وتدخل أبو ناصر مع المسؤولين لتعبيد الطرق في البلدة ،فأصبحت الطرق نظيفة ولكن لا أحد يزور أحد بانتظار أن يأتي اليه أبو ناصر أو هداياه أو أحد زبانيته.
وكذلك ركبَّت شبكة اتصالات و أصبح كل بيت فيه هاتف , ولكن الناس كان همهم فقط الاتصال برقم شركة أبو ناصر , لأن هناك سحب وجوائز على الأرقام المتصلة على هذا الرقم.
كان هناك احتضار ما وروح توشك على الرحيل...
أما حسام ابن أبي اسماعيل , الذي لم يكن يحتك كثيرا بالحارة الجديدة, وكان يقضي جل وقته في الحقل يحفر أو يزرع ويغني،وعندما تتجلى الروح يكتب الشعر فلم يكن يعرف أبا ناصر شخصياً ولكنه سمع عنه الكثير من أمه وأبيه و من الجدران والمآذن و الطرقات .
وبداية لم يكن يرتاح لذكر هذا الرجل. شيئ ما كان يلتمع في داخله , ونار ما تتوهج في ذهنه , وخاصة بعد أن فصلوا مدرس اللغة العربية الذي رفض أن يكتب قصيدة تتحدث عن فرس عربية قديمة كان اسمها " بلاستيك " اذ أنه لم يسمع بها , وكانت تهمته التي فصل بها من وظيفته من قبل لجنة متخصصة هي التطاول على التراث .
كان حسام ينضج كل يوم , يشعر أن الشمس تسير بعكس اتجاهها المعتاد , لاحظ أن الفرح ذهب من العيون , وأن الوقار خرج من تجاعيد الوجه , والليل فقد سكونه كما فقد الصباح براءته وجف الندى...
قال لأبيه : أبي لن تبيع هذه الأرض لأبي ناصر إلا على جثتي , فيها طفولتي , فيها قدماي الحافيتان , فيها خدوش يدي وأنا أخفي في التراب رسائل عشقي , فيها عيوني وأنا أبكي أخي الذي مات بطعنة برد العام الماضي وهو يحرسها , فيها جدائل أختي وهي تلعب بالتراب , فيها أنت وجدي وابني , فيها أنا وشعري...
قال له الأب : يا بني لا تعاند سيعوضنا الله بها خير, لا تجعلني أغضب عليك.
قال له حسام : أبي , إن غضبت مني سأصلي لربي ليرضيك علي ،ولكن إن غضب التراب فمن يرضيه؟
غضب الأب كثيرا , ذهب إلى غرفة الحارس المجاورة وقال له أعطني بندقيتك , سأله : هل هناك كلب غريب في القرية ؟...
وعاد بالبندقية الى البيت , لكن حسام كان قد ذهب الى الأرض يحرسها بيديه وعينيه وروحه , لم يعرف النوم لشهرين متواليين , خوفاً من أن يأتي أبو ناصر ويستولي على هذه الأرض...
ولم يعد إلا عندما سمع أن أمه مريضة ، ذهب ليسمع دعاءها،حاول فتح باب بيتهم لكنه لم يستطع, كان القفل قد تغير وكذلك المفتاح.
دخل ببطء ، كان أبو ناصر في استقباله في صدر الدار ،رحب أبو ناصر بحضوره ،رحب بوصول القلعة الأخيرة في هذا المكان إليه. وقال له : تفضل البيت بيتك , بإمكانك أن تأخذ أغراضك متى شئت ،و بإمكانك أن تاتي إلى هنا حين تكون بحاجة لأية ذاكرة أو قلم, وسيبقى أبوك وأمك و ثيابهم معنا هنا في البيت بجانب أختك.قالت له أمه: سلم على صهرك يا بني لأرضى عليك .
أخذ أبو ناصر البيت المرصع بخطوات الماضي و لمسات اليوم و عيون الغد،و استولى على ساحة الدار ،ساحة كل شيء حدث و كل شيء سيحدث ،و أخذ أخته سلمى، رفيقة روحه –و عنوان ديوان شعره ، ابنة الثمانية عشر عاما،ومعها أخذ كل قصائده .
دخل حسام إلى غرفته القديمة، حلت عليه خيبة عمر كامل و تعب شهرين من السهر في ليالٍ لا فجر لها،نام على بطنه وغطى رأسه بدواوين شعره.و غط في نوم عميق .
هرعوا إليه , حاولوا أن يوقظوه لكن دون فائده , صاحوا والحزن يملأ المآذن لقد مات.بكته الدروب و الغياب و الذاكرة ، و ضمير الحارس ،و ساحة الدار ، بكته سلمى ، و الأرض التي كان يحرسها ، و السراج الذي كان يوقده بكتاباته،بكته بقعة في سقف غرفته كانت سماء تأمله حين تولد من بين أصابعه القصيدة .
لكنه في اللحظة الأخيرة لملم آخر رمق لديه , نهض من فراشه , وقال لهم لا تقلقوا , لست ميتا ،كنت فقط أبيعه حلمي، وبيع الحلم يحتاج حالةً أعمق من النوم وأدنى من الموت بقليل. و ها أنا أولد من جديد مثل أي واحدٍ فيكم كائناً بلا حلم .
يهرع إليه الأطفال الذين كانوا يلعبون بسعادة وأمان على قارعة الطريق، يوزع عليهم دمى المسدسات وبعض قطع الحلوى التي تصطبغ بالألوان الحديثة للوقت...
يأتي اليه حارس القرية الذي لم ينتبه لمروره , فهو يلبس نفس اللباس ويتحدث بنفس اللكنة وله نفس اللون , تلك الأشياء التي برمجت عليها عصا الحارس على أنها أشياء من الذات لا خوف منها...
قال الحارس : أهلا بك , هل أنت مهاجر وعدت أم ماذا ؟أجابه: أنا أبو ناصرمن قرية قريبة خلف هذا الوادي،إسمي سعيد . رحب به الحارس ، وتركه يلتصق بالمكان كما يشاء.
ذهب أبو ناصر الى سيارته , أحضر بندقية حديثة وقال له: هذه هدية لك قد تحتاجها.أجابه الحارس لا حاجة لي لبندقية في هذه القرية فأنا أحرس القرية بصفائها لا بعصاي ، أجابه :ربما تحتاجها لكلب غريب يهجم على حين غرة , ثم أنها مجهزة بزناد أمان يقفلها متى تشاء. تقبل الحارس الفكرة،ومضى يفكر أين يمكن أن يجرب بندقيته , لعلها حركت فيه باب الشر الموصد بالوراثة.
دخل أبو ناصر المسجد توضأ من مائهم وصلى على سجادتهم , وسلم على الناس الذين لم يعرفوه ولم يستغربوا شكله، ثم ذهب الى الإمام وقال له هل لي أن أساعد في ترميم هذا المسجد , اذ أن هذه الحجارة القديمة و هذا اللون القديم للمحراب و المنبر،كلها تحتاج بعض التعديلات ،وسأتولى الأمر إن سمحت لي.وما كان للامام أن يرفض.ثم تابع أبو ناصر رحلة البحث عن مفتاح آخر للقرية.
ذهب إلى الرجل الأكبر في القرية, أهداه ساعة حائط كي يرعبه مرور الوقت فيما تبقى من أيام , وسأله ما هو المرض الأشيع هنا بين الناس ؟ وكيف يمكن أن نعالجه ؟
وكان الواقع يتحدث , وهو يصغي بأكثر من أذنين ويفكر.سأل عن الأطفال ، وعن الشباب ، وإهتماماتهم ،وأوقات فراغهم ،وروتين زواجهم، وعن النساء وتطلعاتهن.
بعد أيام كان مقر شركته الجديد يتجه نحو قبلتهم , بلونٍ جديدٍ , ورقم هاتفٍ , وسكرتيرةٍ بحجم المخطط , وحارسٍ شخصي يتنفس الكراهية، وسياراتٍ تمشي بلا استئذان،و رجال أمن يملؤهم الخوف، و حراس يشربون ماء الشك.
وخلال فترةٍ بسيطةٍ أصبح أبو ناصر شرياناً أساسياً في دورة الدم.فلا فرح ولا حزن ولا جلسةضميرولا احتفال بعيد وطني أو بعيد الأرض، الا وهو أول المدعويين إليه.
أصبح يوزع الهدايا على الناسِ مرتين في الشهر.و في هذين اليومين عن دونهما من الأيام , يتواصل العشاق بعد انقطاع، فهذا يحمل لحبيبته هديةًو يذهب إلى بيت أهلها رافعاً رأس الحب عالياَ،وفيهما ترتفع الأيادي بالدعاء للأبناء الذين يصلون أرحامهم.أما الزوجات فتتورد خدودهن وتمتلئ أثدائهن بانتظار مناسبة مع زوج يقضي جل وقته في العمل، والهموم تزداد عليه،و يأتي هذان اليومان فتمتلئ رجولته،و ينضج صوته ، و يصبحَ قِّيم البيت و سيّده .
كان أول مشروع بدأ به أبو ناصر هو معمل لصناعة البلاستيك...ولم يكن يحتاج للكثير من الوقت ليصبحَ البلاستيك على لسان كلِ شخص , فموضوع مادة التعبير في المدرسة هو البلاستيك و طرق نقله وحفظه ، بينما أفرد مدرس الكيمياء حصتين كاملتين يتحدث فيهما عن أفضلية البلاستيك على الذهب والبلاتين في جدول مندليف هذا الشيوعي الذي أغفل ذكر البلاستيك لأنه لم يكن يريد لوطننا النصر والتطور والمواجهة.أما إمام المسجد الذي كان يرتدي عباءة شرقية مرصعة بالفضة،و ترتدي صلاته ثوباً بعيداً عن الرحمن , فكان حديثه في آخر عشر خطب عن فضائل لبس البلاستيك ,لا بل إن المائدةَ التي نزلت على سيدنا عيسى كانت مصنوعة من البلاستيك حسب بعض الروايات . بينما كانت محاضرة الأسبوع السياسية والتي قدمها مدير المركز الثقافي، فقد تحدثت عن دور البلاستيك في مقاومة العدو وكسر أسطورة أنه لا يقهر.
نسي الناس السهرات والأمسيات , ونسوا دروب الحب , وطرق السعادة . وتدخل أبو ناصر مع المسؤولين لتعبيد الطرق في البلدة ،فأصبحت الطرق نظيفة ولكن لا أحد يزور أحد بانتظار أن يأتي اليه أبو ناصر أو هداياه أو أحد زبانيته.
وكذلك ركبَّت شبكة اتصالات و أصبح كل بيت فيه هاتف , ولكن الناس كان همهم فقط الاتصال برقم شركة أبو ناصر , لأن هناك سحب وجوائز على الأرقام المتصلة على هذا الرقم.
كان هناك احتضار ما وروح توشك على الرحيل...
أما حسام ابن أبي اسماعيل , الذي لم يكن يحتك كثيرا بالحارة الجديدة, وكان يقضي جل وقته في الحقل يحفر أو يزرع ويغني،وعندما تتجلى الروح يكتب الشعر فلم يكن يعرف أبا ناصر شخصياً ولكنه سمع عنه الكثير من أمه وأبيه و من الجدران والمآذن و الطرقات .
وبداية لم يكن يرتاح لذكر هذا الرجل. شيئ ما كان يلتمع في داخله , ونار ما تتوهج في ذهنه , وخاصة بعد أن فصلوا مدرس اللغة العربية الذي رفض أن يكتب قصيدة تتحدث عن فرس عربية قديمة كان اسمها " بلاستيك " اذ أنه لم يسمع بها , وكانت تهمته التي فصل بها من وظيفته من قبل لجنة متخصصة هي التطاول على التراث .
كان حسام ينضج كل يوم , يشعر أن الشمس تسير بعكس اتجاهها المعتاد , لاحظ أن الفرح ذهب من العيون , وأن الوقار خرج من تجاعيد الوجه , والليل فقد سكونه كما فقد الصباح براءته وجف الندى...
قال لأبيه : أبي لن تبيع هذه الأرض لأبي ناصر إلا على جثتي , فيها طفولتي , فيها قدماي الحافيتان , فيها خدوش يدي وأنا أخفي في التراب رسائل عشقي , فيها عيوني وأنا أبكي أخي الذي مات بطعنة برد العام الماضي وهو يحرسها , فيها جدائل أختي وهي تلعب بالتراب , فيها أنت وجدي وابني , فيها أنا وشعري...
قال له الأب : يا بني لا تعاند سيعوضنا الله بها خير, لا تجعلني أغضب عليك.
قال له حسام : أبي , إن غضبت مني سأصلي لربي ليرضيك علي ،ولكن إن غضب التراب فمن يرضيه؟
غضب الأب كثيرا , ذهب إلى غرفة الحارس المجاورة وقال له أعطني بندقيتك , سأله : هل هناك كلب غريب في القرية ؟...
وعاد بالبندقية الى البيت , لكن حسام كان قد ذهب الى الأرض يحرسها بيديه وعينيه وروحه , لم يعرف النوم لشهرين متواليين , خوفاً من أن يأتي أبو ناصر ويستولي على هذه الأرض...
ولم يعد إلا عندما سمع أن أمه مريضة ، ذهب ليسمع دعاءها،حاول فتح باب بيتهم لكنه لم يستطع, كان القفل قد تغير وكذلك المفتاح.
دخل ببطء ، كان أبو ناصر في استقباله في صدر الدار ،رحب أبو ناصر بحضوره ،رحب بوصول القلعة الأخيرة في هذا المكان إليه. وقال له : تفضل البيت بيتك , بإمكانك أن تأخذ أغراضك متى شئت ،و بإمكانك أن تاتي إلى هنا حين تكون بحاجة لأية ذاكرة أو قلم, وسيبقى أبوك وأمك و ثيابهم معنا هنا في البيت بجانب أختك.قالت له أمه: سلم على صهرك يا بني لأرضى عليك .
أخذ أبو ناصر البيت المرصع بخطوات الماضي و لمسات اليوم و عيون الغد،و استولى على ساحة الدار ،ساحة كل شيء حدث و كل شيء سيحدث ،و أخذ أخته سلمى، رفيقة روحه –و عنوان ديوان شعره ، ابنة الثمانية عشر عاما،ومعها أخذ كل قصائده .
دخل حسام إلى غرفته القديمة، حلت عليه خيبة عمر كامل و تعب شهرين من السهر في ليالٍ لا فجر لها،نام على بطنه وغطى رأسه بدواوين شعره.و غط في نوم عميق .
هرعوا إليه , حاولوا أن يوقظوه لكن دون فائده , صاحوا والحزن يملأ المآذن لقد مات.بكته الدروب و الغياب و الذاكرة ، و ضمير الحارس ،و ساحة الدار ، بكته سلمى ، و الأرض التي كان يحرسها ، و السراج الذي كان يوقده بكتاباته،بكته بقعة في سقف غرفته كانت سماء تأمله حين تولد من بين أصابعه القصيدة .
لكنه في اللحظة الأخيرة لملم آخر رمق لديه , نهض من فراشه , وقال لهم لا تقلقوا , لست ميتا ،كنت فقط أبيعه حلمي، وبيع الحلم يحتاج حالةً أعمق من النوم وأدنى من الموت بقليل. و ها أنا أولد من جديد مثل أي واحدٍ فيكم كائناً بلا حلم .