أشهر ما في هذه المدينة هي حديقة الحيوانات والسيرك الذي عسكر بجانبها ليشكلا ثنائياً قل نظيره في مخيلة الناس، والشيء الملفت للنظر في هذا الأمر هو كثرة الذئاب وتناوب تداولها وتحولها بين السيرك والحديقة، فينما شكلت فصيلة الذئاب البرية السمة الغالبة في حديقة الحيوانات تفنن إداريو السيرك في تقديم ذئاب بأنسال متطورة نتيجة حدوث طفرات وراثية في سلالاتها المتأخرة، فدخلت الذئاب مرحلة الرياضات الخطرة وتفوقت على جميع أصناف الحيوانات الأخرى كالقردة والدببة والكلاب والجياد والبطاريق والدلافين، فصارت تمشي على الحبال وتغوص في الماء وتتهجى الحروف وتداعب الأطفال وتدخن السيجار وتأكل المرطبات وترقص على العجلات وتقود العربات.. بل وتلقي النكات أحياناً وتغني أحياناً أخرى، فهي ذئاب متطورة قلّمت الحضارة مخالبها وأنيابها، ذئاب مرحة، ذئاب مسامرة مسالمة، ذئاب حكيمة وحريصة على راحة المتفرجين، ذئاب حالمة وشاعرة
وقد لا يبالغ أحدهم حين يقول إنها بدأت تكتب الشعر وتتعلم الضرب على الآلة الكاتبة وربما الكمبيوتر، وصارت تنظر إلى بني الإنسان بندية صارمة.. وأحياناً بتفوق من حيث القوة والذكاء، أما الجمال فليس مهماً في هذه الحالة، لكن إداريي الحديقة والسيرك، رغم كل هذه البيانات والصفات الملفتة للنظر، مازالوا لا يثقون بالذئاب لذلك بقيت جميعها أسيرة أقفاصها الحديدية تعاني فقدان الحرية والوحدة والغربة بين بشر أبوا إلا أن يهينوها ويذلوها ويجعلوها كما لو كانت أحط فصائل الحيوانات قاطبة، فظلت تعوي عواءً مراً متواصلاً وتبكي بدموع حارقة شوقاً إلى الحرية وسعة الغابات ومرح الصحارى البعيدة وجليد الروح النافرة وحريتها المسعورة.
وما أن بدأت الحرب حتى ترك الناس الاهتمام بها، فلم يقربوا حديقة الحيوانات ولم يدخل أحد في السيرك الذي شارف على الإفلاس، وكانت الذئاب ستلغى من ذاكرة الناس لولا القذائف التي صبت جام غضبها على المدينة وجميع مرافق الحياة الأخرى.
ذات ليلة أصابت بعض القذائف والصواريخ حديقة الحيوانات والسيرك الملاصق لها. ومنذ تلك الليلة تغير الوضع في المدينة تماماً وانقلبت رأساً على عقب. لقد خرجت الذئاب من أقفاصها متحررة أخيراً من أسر بني الإنسان وظلمهم وجبروتهم.. وها هي تعود بفضل الحرب إلى حريتها المفقودة ثانية. فاقتحمت الشوارع والساحات والبيوت والمقاهي والمدارس والمطاعم والدوائر الرسمية والمنتديات الليلية ودور السينما والأسواق والمسارح والمكتبات العامة وركبت السيارات والدراجات والقطارات والطائرات.. حتى أنها تفشت في كل شيء كالوباء واختفى الإنسان من الشوارع والأسواق والأماكن العامة الأخرى.
وها أنا اليوم، بعد مرور سنين طويلة، أكتب قصتي، وأنا أقرفص في أحد الأقفاص الضيقة التابعة لحديقة الحيوانات منتظراً دوري لممارسة الألعاب البهلوانية في السيرك القريب من الحديقة. لقد ربتنا الذئاب كثيراً في سيركها المعهود، فقد علمتنا الهجوم والقنص والركض والافتراس ومطاردة الفريسة ولعق الدم ومهاجمة الجريح والخيانة والعواء.. آه.. لولا الذئاب، ذئابنا الرحيمة الجميلة، ذئاب الحروب والحضارة.. لولا هذه الذئاب لما تعلمنا كل هذه الفنون..