نزل عليه النبأ كالصاعقة..بقي مسمَّرا في مكانه كأنما شلت أطرافه..من أين له تدبير المال الكافي في انتظار تسوية المشكل الإداري الذي يعرف جيدا تعقيداته البيروقراطية وتشعباته المسطرية..نهره الموظف من خلف الشباك :
- اتصلْ بصندوق التقاعد لتعرف سبب حجز معاشك..ودَعْ مَنْ يليك في الصف يتقدم..
التفت إلى الذي يليه في الصف فإذا هو في مثل سنه ، وإن كان لا يزال يفيض حيوية ونشاطا..جر خطاه المتثاقلة في اتجاه الباب وهو يلعن في سره هذا الحظ التعس الذي ما فتئ يلازمه..توجه نحو البناية التي تضم مكاتب صندوق التقاعد ، وشرح للموظفة في مكتب الاستقبال مشكلته ، فأحالته على المكتب المختص..قال الموظف بعد أن استنطق شاشة الحاسوب أمامه :
- تنقص ملفك شهادة الحياة..لا يمكن أن يُصرف معاشك دون توفر هذه الشهادة..
رد بلهجة لم يستطع معها إخفاء ما يغلي في صدره من غضب وثورة :
- ولكنني حي أرزق..ها أنذا واقف أمامك..هل هناك شهادة أكثر مصداقية من هذه؟
رفع إليه الموظف عينين كعيني لبؤة متوثبة للانقضاض على فريستها :
- نعم أعلم ذلك ، ولكن لا يمكنني وضعك أنت داخل ملفك..
ثم أضاف بنبرة من أراد أن يحسم الموضوع :
- أحضر لي شهادة الحياة..وإلا فإنك لن تزيد الأمور إلا تأخيرا..
أدرك أنه لا فائدة من الحوار مع شخص لا يملك هو نفسه غير تطبيق التعليمات الرسمية الصادرة إليه..وعادت تنتصب أمامه قائمة المستلزمات الشهرية : فاتورة الماء والكهرباء..واجب كراء البيت..مستحقات صاحب دكان المواد الغذائية..الديون التي تراكمت لدى صاحبة الصيدلية..مصاريف الأكل والشرب..المصاريف اليومية التي ينتزعها منه أبناؤه الثلاثة المعطلون عن العمل..مصاريف حفل الخطوبة الذي تعتزم ابنته الوحيدة إقامته هذا الشهر..طقم الأسنان الجديد الذي وعد به زوجته بعد أن أصبحت كل أسنانها منخورة ومهترئة..ناهيك عن أحلامه الخاصة التي ظل يرجئها حتى سن التقاعد : أسفار إلى المناطق السياحية والأثرية الجميلة..اقتناء بيت يليق بمقام الموظف الذي قضى أربعين سنة في خدمة الإدارة..شراء سيارة تحفظ مروءته وتمكنه من التنقل مع أفراد أسرته بكرامة..إنشاء مشروع تجاري يوظف فيه خبراته وأبناءه المعطلين عن العمل..كل ذلك تبخر الآن..أصبح حلما بعيد المنال..أصبح مجرد سراب..
تحامل على نفسه المثقلة بكل خيبات العمر..وتوجه نحو المقاطعة..طلب منه الموظف إحضار نسخة من عقد الولادة ونسخة من بطاقة الهوية حتى يسلمه شهادة الحياة..رحلة أخرى بين المكاتب ومع الوثائق الإدارية التي لا تنتهي ولا ترحم شيبته..وقفزت إلى واجهة تفكيره صورة ابنته..توقع مدى الخيبة التي ستمنى بها عندما يخبرها بضرورة تأجيل خطوبتها حتى يُسَوّى هذا المشكل ..عليه أن يثبت لها أنه الآن في عرف الإدارة التي قضى ثلثي عمره في خدمتها ، هو الآن ميت حتى يثبت العكس..جاءت شابة في عنفوان شبابها تطلب هي الأخرى شهادة الحياة..كاد الموظف يقفز من مكتبه ويضمها بين أحضانه..قال مبتسما وقد تكشفت عن ابتسامته أسنان سوداء مسوسة كأنها بذور البطيخ :
- من هذا الغبي الذي طلب منك شهادة الحياة؟ أنت الشهادة على الحياة..بل أنت الحياة كلها.. هيا..هيا..أعطني بطاقة هويتك..
ومضى يلتهم صورتها على البطاقة قبل أن ينقر اسمها ورقم بطاقتها على الحاسوب ، ثم يملأ مطبوعا أمامه ويوقع عليه ويسلمه إليها في حركة ماجنة..تسلمت الفتاة شهادتها وغادرت المكتب غير مبالية بنظرات الموظف الذي ارتسمت على ملامحه خيبة الذئب الذي أفلتت منه فريسته..وقف يشيعها حتى اختفت عن أنظاره..وفوجئ بوجود الرجل لا يزال واقفا داخل مكتبه..قال مزمجرا :
- ألم أطلب منك إحضار نسخة من عقد الازدياد ونسخة من بطاقة الهوية؟ماذا تنتظر إذن؟
كاد يقول له : "لقد رأيتك تسلم الشابة قبل لحظة شهادة الحياة دون حاجة إلى هذه الوثائق".. لكنه حدس شراسته وخشي ردة فعله.. فربما عرقل حصولـَه على هذه الشهادة وعمّق مأساته أكثر..هو يعرف مكر هذا الصنف من الموظفين وقد خبر الإدارة وخبثها أربعين سنة..غاب فترة من الزمن أحضر خلالها الوثيقتين المطلوبتين..ثم سلمهما للموظف الذي حدجه بنظرة كلها ازدراء وامتعاض ، لسان حالها يقول : لماذا يصر البعض على التشبث بالحياة ، وقد أصبحت كل خلاياه تتهاوى واحدة تلو الأخرى كأوراق الخريف؟..حين سلمه الشهادة نسي كل مشاعر الحقد والاحتقار التي أثارها هذا الموظف في نفسه..وكاد يعانقه من فرط فرحته..ألم يمنحه الحياة من جديد؟ أليس هو الشاهد الوحيد على أنه لا يزال حيا؟ فكيف يلومه أو يوبخه؟ أحس بأن دماء الشباب تجددت في عروقه ، فمضى يهرول بشهادته إلى الموظف الآخر بصندوق التقاعد..مد إليه الشهادة وقال ممازحا :
- أرأيت؟ ألم أقل لك إني ما زلت حيا؟
رد عليه الموظف غير عابئ بمزحته:
- نعم أنت حي مع وقف التنفيذ..فعليك أن تـُثبت على رأس كل سنة أنك ما تزال حيا ، إن شئت أن يُصرَف معاشك في وقته ..القانون ينص على ذلك..
أحس بكل الضيم الذي في الوجود ينزل على رأسه..حي مع وقف التنفيذ؟هو إذن شروع في الموت..شروع في القتل..حياة معلقة بشهادة يوقع عليها موظف أفسق من عصفور..أي عبث وأي جحود في هذه الإدارة؟ غشيَتْ عينيه سحابة سوداء هي مزيج من إحساس بالغبن وشعور بالظلم ورغبة في الغثيان..غـُمَّت عليه الرؤية ، وضاق الشارع أمامه بما رحب ، وبدا له كأن السماء تدور من حوله ، وانقبض صدره ، وأحس بشئ يُنتزع منه ويحلق في الهواء ، على وقع ارتطام شديد أعقبَ صريرَ فرملة حادة ، صكت آذان كل المارة في الشارع..
المصطفى السهلي – سلا الجديدة - المغرب -
ثم أضاف بنبرة من أراد أن يحسم الموضوع :
- أحضر لي شهادة الحياة..وإلا فإنك لن تزيد الأمور إلا تأخيرا..
أدرك أنه لا فائدة من الحوار مع شخص لا يملك هو نفسه غير تطبيق التعليمات الرسمية الصادرة إليه..وعادت تنتصب أمامه قائمة المستلزمات الشهرية : فاتورة الماء والكهرباء..واجب كراء البيت..مستحقات صاحب دكان المواد الغذائية..الديون التي تراكمت لدى صاحبة الصيدلية..مصاريف الأكل والشرب..المصاريف اليومية التي ينتزعها منه أبناؤه الثلاثة المعطلون عن العمل..مصاريف حفل الخطوبة الذي تعتزم ابنته الوحيدة إقامته هذا الشهر..طقم الأسنان الجديد الذي وعد به زوجته بعد أن أصبحت كل أسنانها منخورة ومهترئة..ناهيك عن أحلامه الخاصة التي ظل يرجئها حتى سن التقاعد : أسفار إلى المناطق السياحية والأثرية الجميلة..اقتناء بيت يليق بمقام الموظف الذي قضى أربعين سنة في خدمة الإدارة..شراء سيارة تحفظ مروءته وتمكنه من التنقل مع أفراد أسرته بكرامة..إنشاء مشروع تجاري يوظف فيه خبراته وأبناءه المعطلين عن العمل..كل ذلك تبخر الآن..أصبح حلما بعيد المنال..أصبح مجرد سراب..
تحامل على نفسه المثقلة بكل خيبات العمر..وتوجه نحو المقاطعة..طلب منه الموظف إحضار نسخة من عقد الولادة ونسخة من بطاقة الهوية حتى يسلمه شهادة الحياة..رحلة أخرى بين المكاتب ومع الوثائق الإدارية التي لا تنتهي ولا ترحم شيبته..وقفزت إلى واجهة تفكيره صورة ابنته..توقع مدى الخيبة التي ستمنى بها عندما يخبرها بضرورة تأجيل خطوبتها حتى يُسَوّى هذا المشكل ..عليه أن يثبت لها أنه الآن في عرف الإدارة التي قضى ثلثي عمره في خدمتها ، هو الآن ميت حتى يثبت العكس..جاءت شابة في عنفوان شبابها تطلب هي الأخرى شهادة الحياة..كاد الموظف يقفز من مكتبه ويضمها بين أحضانه..قال مبتسما وقد تكشفت عن ابتسامته أسنان سوداء مسوسة كأنها بذور البطيخ :
- من هذا الغبي الذي طلب منك شهادة الحياة؟ أنت الشهادة على الحياة..بل أنت الحياة كلها.. هيا..هيا..أعطني بطاقة هويتك..
ومضى يلتهم صورتها على البطاقة قبل أن ينقر اسمها ورقم بطاقتها على الحاسوب ، ثم يملأ مطبوعا أمامه ويوقع عليه ويسلمه إليها في حركة ماجنة..تسلمت الفتاة شهادتها وغادرت المكتب غير مبالية بنظرات الموظف الذي ارتسمت على ملامحه خيبة الذئب الذي أفلتت منه فريسته..وقف يشيعها حتى اختفت عن أنظاره..وفوجئ بوجود الرجل لا يزال واقفا داخل مكتبه..قال مزمجرا :
- ألم أطلب منك إحضار نسخة من عقد الازدياد ونسخة من بطاقة الهوية؟ماذا تنتظر إذن؟
كاد يقول له : "لقد رأيتك تسلم الشابة قبل لحظة شهادة الحياة دون حاجة إلى هذه الوثائق".. لكنه حدس شراسته وخشي ردة فعله.. فربما عرقل حصولـَه على هذه الشهادة وعمّق مأساته أكثر..هو يعرف مكر هذا الصنف من الموظفين وقد خبر الإدارة وخبثها أربعين سنة..غاب فترة من الزمن أحضر خلالها الوثيقتين المطلوبتين..ثم سلمهما للموظف الذي حدجه بنظرة كلها ازدراء وامتعاض ، لسان حالها يقول : لماذا يصر البعض على التشبث بالحياة ، وقد أصبحت كل خلاياه تتهاوى واحدة تلو الأخرى كأوراق الخريف؟..حين سلمه الشهادة نسي كل مشاعر الحقد والاحتقار التي أثارها هذا الموظف في نفسه..وكاد يعانقه من فرط فرحته..ألم يمنحه الحياة من جديد؟ أليس هو الشاهد الوحيد على أنه لا يزال حيا؟ فكيف يلومه أو يوبخه؟ أحس بأن دماء الشباب تجددت في عروقه ، فمضى يهرول بشهادته إلى الموظف الآخر بصندوق التقاعد..مد إليه الشهادة وقال ممازحا :
- أرأيت؟ ألم أقل لك إني ما زلت حيا؟
رد عليه الموظف غير عابئ بمزحته:
- نعم أنت حي مع وقف التنفيذ..فعليك أن تـُثبت على رأس كل سنة أنك ما تزال حيا ، إن شئت أن يُصرَف معاشك في وقته ..القانون ينص على ذلك..
أحس بكل الضيم الذي في الوجود ينزل على رأسه..حي مع وقف التنفيذ؟هو إذن شروع في الموت..شروع في القتل..حياة معلقة بشهادة يوقع عليها موظف أفسق من عصفور..أي عبث وأي جحود في هذه الإدارة؟ غشيَتْ عينيه سحابة سوداء هي مزيج من إحساس بالغبن وشعور بالظلم ورغبة في الغثيان..غـُمَّت عليه الرؤية ، وضاق الشارع أمامه بما رحب ، وبدا له كأن السماء تدور من حوله ، وانقبض صدره ، وأحس بشئ يُنتزع منه ويحلق في الهواء ، على وقع ارتطام شديد أعقبَ صريرَ فرملة حادة ، صكت آذان كل المارة في الشارع..
المصطفى السهلي – سلا الجديدة - المغرب -