شعر بانتعاشة وحيوية نادرة، كأنه استيقظ بعد سبات عميق أزال عنه تعب نهار طويل. أدرك ذلك عندما تذكر بأنه نهض لتوه صباح اليوم بعد أول استفاقة من ليل خريفي. لم يكن ذلك من عادته، لكن شيئا ما يجعل بهجة تعم شعوره في هذا الصباح، سرعة حركاته وهو يغتسل ، رغبته في الكتابة ، في الكلام و في لهفه و شغفه في طهي القهوة و وضع أنامله على الجبن وزيت الزيتون.
أنهى فطوره و في رأسه تغرد عصافير بشدى الألحان. توجه إلى غرفة بناته الثلاث عندما سمع ضجيجا ما يأتي من غرفتهن . داعبهن بداخل فراشهن. وعدهن بأنه سيسافر بهن إلى باريس لحضور حفل ازديان طفلة لخالهم .
من عادته أن يكتب أو يطلع على أخبار اليوم عبر الانترنيت كل صباح. ثم يخرج للبحث عن الشغل إن كان عاطلا عن العمل أو لقضاء حاجيات اليوم. وغالبا ما يأخذ معه الحاسوب المحمول ليتوجه إلى أحد المقاهي التي أحدثت قاعة يسمح التدخين بداخلها.
لكنه قبل أن يغادر بيته هذا اليوم، أحس بأن هذا الشعور الفريد الذي يغمره جاء لسبب ما. بعد التفكير قليلا، تفطن أنه ينتظر ردا عن ملف طلب التعويض عن البطالة. و فتح الانترنت، ليعرف هل تمت دراسة ملفه .
أصابته دهشة لم يدعها تعمر طويلا، لم يعر اهتماما كبيرا لذلك، ثم بانت على وجهه ابتسامة يظهر منها أنه متأكد بأن خطأ ما وقع أثناء دراسة ملفه. فكر أنه ينتظر بعض الوقت ليتصل هاتفيا بالمؤسسة و يطلب منهم تصحيح الخطأ.
وضع أرقام الهاتف واستمر يضع أصابعه على الأزرار، مستجيبا لتوجيهات آلية تطلب منه، إلى أن أجابه صوت فتاة يفوح بأنوثة تسير على نهج الشعور الذي احتواه صباح اليوم. شرح لها سبب المكالمة، طلبت منه مهلة للنظر في الملف. وبعد لحظات قصيرة أجابت:
- لم يخطئوا سيدي. لقد اعتبروك عاطلا موسميا.
راح يطلب الاستفسارات ويحتج بقوة، إلى أن أحس أنه أهان تلك الفتاة. تفطن لشراسة الكلمات التي صدرت منه، أحس أنه أصبح بذيئا، مبتذلا و طلب منها أن تعذره عن طريقة رد فعله غير اللائقة ، ثم أقفل التلفون على كلمات شكر بئيسة .
خرج مكشرا، تائها لا يعلم كيف سيتصرف، بدت له الحياة قاتمة. أدرك أنه كلما انتابه شعور بالفرح إلا و تسلل ويل حارق في شرايين قلبه يحول الفرحة إلى حزن و اكتئاب. ليست المرة الأولى التي ينخدع فيها بإحساسه الداخلي، حتى أصبح عندما يغمره شعور من هذا النوع، يتريث ليعرف إلى أين ينتهي وأي نوع من المأساة التي تلحقه. و لكن هذا الصباح، وقع مرة أخرى في نفس الفخ، وعليه مقاومة انعكاساته.
بعد عشرات الدقائق ، كان يقف في مؤخرة طابور في مقر المؤسسة، وعيناه غارقتان في حركات متوترة. مرة تحدث رموشا متتالية سريعة ، و أخرى منفتحتان وكأنهما مندهشتان لرؤيتهما لمشهد ما. و ينتهي في غمضهما واضعا يده اليمنى على جبهته، وكأنه يقاوم صداعا يحدث دوران في رأسه. ثم يستقيم و يصطنع حالة عادية، عندما يلاحظ متابعة المحيط لحركاته الغريبة..
فاجأته كلمات سيدة في الاستقبال :
- سيدي كيف يمكنني مساعدتك؟
- نعم سيدتي، لدي مشكل لم أفهمه ولأول مرة أسمع مثله، ربما وقع خطأ في دراسة ملفي.
تفقدت العجوز ذات التجاعيد المصطفة ، جسده الملتوي على نفسه شيئا ما. ركزت مليا في وجهه المطبوع بشوارب قديمة، مسلطة نظرات حادة كشفت في عينيه ارتباكا طفوليا. أحس بأن الأمر لن يمر بخير ، طلبت منه رقم ملفه، ثم انهالت أصابعها تدق أزرار الحاسوب :
- ليس هناك خطأ سيدي ، القانون يقول هكذا. تم وضعك في خانة العاطلين الموسميين، لأنك لم تشتغل طوال ثلاث سنوات في نفس الفترة من السنة.
- لكن سيدتي ، إني أعيل أربع أفراد، زوجتي و ثلاثة أطفال. و أني لم أجد عملا في الشهور التي تتحدثون عنها، وهذا ليس من خطئي.
كان صوته المدوي يفسد على من يوجدون في المكاتب الأخرى أداء عملهم. فتوقف البعض ينتظرون انتهاء صراخه المزعج . لقد أخرج من لسانه كل ما يملك من أسلوب خشن ضد مؤسسات الدولة وقوانينها بل وعنصريتها... لكن لا حياة لمن تنادي هكذا قال في نفسه مستقلا الباب الخارجي.
في صباح آخر يوم في الأسبوع، كان يقف مرة أخرى قرب مكتب إحدى المضيفات، منتظرا عودتها بعدما طلبت منه طرح الملف مع الموظفة المكلفة بدراسته. و بعد ربع ساعة من الانتظار أو أقل، اختفت حالة السواد التي انبسطت على وجهه طوال الأسبوع الماضي، وتقلصت هواجس احتمالات رفض مطلبه. و بدا عليه نوع من الارتياح، لأنه سيزيل اليوم تلك الكوابيس التي تابعته منذ حصوله على الخبر الشؤم.
عادت المضيفة و بين أناملها بعض الأوراق، ولا تبدوا عليها تلك الابتسامة التي طبعت وجهها منذ قليل:
- سيدي، عن الأوراق التي قدمتها، فهي لا تفيد في إعادة النظر في ملفك. يجب أن تبرر بحثك عن الشغل في الفترات المطلوبة.
- وهل في إمكاني طرح الملف على أنظار المحكمة؟ إني أعتبر القرار إجحافا في حقي.
قال ذلك وهو يخرج عينيه بسخط وحقد ، إلى حد بدت له فرائص المضيفة ترتعد، وأحس أنه أصبح مخيفا ومتوحشا رأى ذلك في وجه من كانوا في محيطه، والذين يتابعون الحدث بحذر، وفي عيونهم ترتسم بصمات خوف من رد فعله الشرس.
هذا رأيك سيدي و من شأنك.
ألقى الأوراق التي كانت بحوزته فوق لوحة أجهزة القياس للسيارة. وعلى التو، فهمت زوجته خيبة أمله في إنهاء هذا الكابوس . ثم بدأ في السخط و تسليط الغضب على اليوم الذي دخل فيه فرنسا. خرجت من فمه غدد لعابية على شكل بويضات بيضاء لم يعرف مثلها يوما. عض لسانه أكثر من مرة، انهال على مقود السيارة بجنون...
- كيف يمكننا العيش بهذا الراتب الشهري ، إنه لا يكفي فاتورة الكراء وحدها ، بدون أن نتحدث عن القدر الذي يأخذه القرض شهريا والماء والكهرباء والتأمين الصحي والتلفون وتأمينات المنزل والسيارة والأكل والشرب والضريبة على الدخل والسكن واستعمال التلفزيون و احتياجات الأطفال يوميا من الملابس والمدرسة ووو
عندما بدأ يسرد ما يخرجه في الشهر من فواتير ، بدا على زوجته نوع من الحزن ، لكن ومع ذلك رددت أكثر من مرة أنهم في" يد الله"، وحتى إن وجدوا في أزمة واقتضى الأمر، يتهيئوا للرحيل إلى بلادهم "واللي فيها الخير يجيبها الله".
- كيف نعود إلى البلاد والأطفال بلغوا سنا يصعب عليهم العودة ، فهل تضنين أنهم قادرون على التكيف مع ثقافة لا يعرفون عنها إلا القليل ، و لهم من العادات ما لا يقبل في البلد الأم وطريقة في العيش قد يفاجئون بغيرها ؟...
مضت أكثر من ساعة من الحوار، وكل ما أخرجت له زوجته ضوءا ينير الطريق ويخفف من الاحتقان الذي أصابه، يصطنع دربا أسود ليفند منطقيا استحالة ذلك الضوء.
كان يحس أنه يعاكس رأيها بدون سبب و يعلم أنه مخطئ و أن رأسه امتلأ وتزاحمت فيه أفكار سوداوية تجعل المستقبل عسيرا ، خاصة وأن الحصول على الشغل لم يعد ممكن في المدينة جراء الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية.
كانت السيارة في طريقها إلى باريس، وبدون شعور أشعل سيجارة وأخذ نفسا عميقا ، وهو الذي منع عن نفسه التدخين في السيارة خوفا من عودة الأزمة الربوية لابنته الكبيرة.
بعد ساعات من مغادرته المدينة، تمكنت زوجته من إخماد ثورته ثم استعاد رشده ، هدأت أعصابه وراجت في مخيلته إمكانية الانفراج بعد عودته من باريس.
ما كان عليه إلا أن يحكي تلك الأحداث لأقربائه، رغم أن زوجته لم تكن متحمسة لذلك. كان من المفترض أن يبقى أيام في ضيافة شقيق زوجته، لكنه اعتذر وخرج مساء اليوم التالي . وبعد عودته إلى بيته ، زار كافة الوكالات التي اشتغل معها في السنوات الأخيرة وسلمته شواهد مضمونها يستجيب لما طلب منه في المرة الثانية. و في ساعة متأخرة من اليوم قدم ملف ثقيل الوزن للمضيفة.
طوال أيام الأسبوع، لم يرقد له جفن إلا ساعات قليلة بعد منتصف الليل، ثم ينهض في وقت ما زالت أهداب الليل فيه منبسطة. و في كل نصف ساعة وأقل، يفتح الانترنيت ليتفحص ملفه، حتى أصبح يضع الأرقام المطلوبة بدون تفكير. تتوجه أصابعه إلى الأزرار و رأسه متورط في احتمالات سلبية لما سيأتي.
في مساء اليوم قبل الأخير من الأسبوع، أحس انه يختنق، و أشكال من دوران الرأس تصيبه، أحس بقطران أسود يعم قلبه، لا يطيق الأكل والشرب ولا الكلام ولا يجد متعة في أي شيء، التلفزيون الانترنيت... حتى متعة الكتابة التي كانت حلا للروتين القاتل في حالة البطالة، لم تعد تمنحه ارتياحا لنفسيته كما في السابق. وفي أدنى شغب طفولي لبناته ، ينفجر غضبا ، وبعد لحظات يعانقهن و بذكاء يجعلهن لا يبالين بتصرفاته الغريبة.
ركب سيارته بغية التخفيف من حدة أثار الضغط الذي يتعرض له، بحثا عن مكان يفرغ فيه كآبة سوداء استوطنت بقوة في شرايين دمه.
كانت المدينة تعرف برودة فريدة من نوعها، صقيع لم تعرفه منذ عشرات السنين حسب المهتمين بأحوال الطقس. لا وجود لرائحة البشر ولا لأشباحهم في الشوارع، وجليد صلب ينبسط فوق الأرض ملتصقا بها كالجلد على اللحم.
كان يحوم في الشوارع بدون اختيار واع لأي اتجاه. ينساق مع تعرجاتها غير منتبه لإشارات المرور، إلى أن وجد نفسه خارج المدينة على بعد أمتار قليلة من شاطئ البحر.
وقف أمام البحر غير مبال لنسيمه البارد، الأمواج تعلو أمتارا فتسقط بعد اصطدامها بالصخور محدثة صوتا يشبه صفعة مدوية. و بعدها تعود مخذولة منهزمة ببطء، لتذوب على شكل بالونات مائية بيضاء، كأنها دموع سالت بفعل قسوة الصفعة. فكر في تلك الأمواج مليا. بدت له مثل نوع الأشباح التي تطارده كل يوم. تأتي قوية سوداء كظلمة الليل الحالك، ثم تعود خائبة لتزيح عنه الغم الذي احتواه بوجودها. و فجأة تأتي أمواج أخرى أكثر قوة، وتعود كما الأولى مهزومة غير قادرة على تحدي الصخور التي لاقتها بصلابة.
إن متاعب الغربة لا تنتهي كما تلك الأمواج، فيبقى اختيار العودة إلى البلاد هو الحل الأنجع. لقد عاش في بلاده ما يقرب ثلاثة عقود ونصف، بدون هذا النوع من الحروب مع كوابيس اليقظة اليومية. و حتى إن عرف سنين صعبة في أرض الوطن، فلم تكن قاسية ومتعبة مثل التي يعرفها الآن، على الأقل كما يدركها هو.
على بعد عشرات الأمتار من بيته وهو يعاند تلك الهواجس و يصارعها، أحس بانزلاق سيارته في اتجاه منحدر بسيط بفعل الجليد، حاول كبح الفرامل للتمكن من التحكم في السيارة وفي نفس الوقت يحاول توجيهها نحو اليسار، لكن صدمة مروعة لسيارة واقفة على اليمين ، أحدثت ضجة عالية . أحس أن شيئا رهيبا ومرعبا وقع بفعل تلك الصدمة. استمر في القيادة والهلع يسكنه ، إلى أن أوقف السيارة في باحة على جنب الطريق أمام منزله.
كانت زوجته منكمشة في فراش دافئ تنتظره أمام التلفزيون في ساعة متأخرة من الليل. وقبل أن تسأل عن سبب تأخره إلى هذه الساعة، بدأ يردد بطريقة جنونية:
- لقد وقعت لي مصيبة، لقد صدمت سيارة، لقد أضفت مشكلا آخر، "يا الرب، الميت يبكي وربي يزيد لو"... ثم انفجرت عينيه بدموع صامتة بللت الوسادة التي كانت تحمل رأسه الثقيل.
وجدت زوجته نفسها مرغمة مرة أخرى على طمأنته والتخفيف عليه من حدة آثار ما يتعرض له من ضغط نفسي، كما تفعل دائما في مثل هذه الحالات. وبدأت تستفسر عن ما وقع ، وهي مدركة أنه محتاج للراحة. وبما أنها تعلم أنه لا يرتاح إلا في بلده ، اقترحت عليه أن يقل الطائرة بدآ من صباح الغد.
كان مرهقا إلى غاية أنه استسلم للنوم على إيقاع حديث طويل مع زوجته بدون ارتداء بذلة النوم. وفي صباح الغد، لم ينهض كما عادته ليقبل بناته و يتناول معهم وجبة الفطور. فقدمن إليه واحدة بعد الأخرى، ليضعن على خديه قبلات الصباح. ادعى خلالها أنه مصاب بتعب خفيف، وسيكون على ما يرام في المساء.
رعشة داخلية تتحكم في عروق دمه ، ينكمش جسده مرة ، وأخرى يتمطط حتى لا يدع لتلك الرجفة الاستمرار. بقي هكذا لمدة ثلاث ساعات على الأقل، يفصل في أحداث الليلة الماضية ويقترح حلولا للكارثة، وهو غير قادر على النهوض من فراشه. يفكر في ماذا سيقع، هل سيخفي انه هو صاحب الحادثة؟ أم انه يتوجه إلى صاحب تلك السيارة ويوقع معه معاينة ودية.
توجه إلى الحاسوب بدون أن يغسل وجهه ، آنذاك علم بأن ملفه قد تمت دراسته، وقد أعادوا له حقه. ثم زاد انفعالا، وبدأ يرغد ويزبد، يلعن الزمن الذي يخطو خطوات عرجاء معاكسة لإرادة الإنسان.
كان عليه أن يتعامل مع مشكله بهدوء. ها هو قد تم حله، وكأنه لم يكن يوما، مثله مثل الملايين من الهموم التي عرفها سابقا بل السابقة كانت أكثر تعقيدا، ولم يتفاعل معها بهذه الطريقة. هل لأن الآن لديه عائلة مسؤول عن إعالتها؟ ، أم أن تقدم السن بدأ يخيفه من المصير ، أم أن التراكمات التي عرفها في هذا العالم استطاعت أن تكرس في سلوكه قلقا .
لكن" الهم يولد الهم" . فعليه الآن أن يقاوم آثار ما وقع ليلة البارحة.
راح يفصل في ما سيأتي ، سيتوجه إلى مصلحة التأمينات و يصرح أن سيارته تم صدمها من طرف مجهول وهي واقفة في باحة قرب منزله . و سيطلبون منه تقرير البوليس . وعندما سيتوجه إلى طلب التقرير، سيشك البوليس في ذلك و سيكتشفون أنه هو صاحب تلك الحادثة. وستكون تبعات ذلك قاسية بعدها .
لم يتجرأ على الخروج من المنزل و بدا عليه خوف كبير ، كأنه سيلقى مصرعه مجرد مغادرته بوابة البناية. وضع رأسه من النافذة ليرى مستوى الصدمة في سيارته. اندهش لحجم الصدمة ومخلفاتها على جهة اليمين للهيكل. بدا له أن الوضع أصعب مما تصوره. وحسم سريعا في رأي كان يراوده.
خرج من منزله ووجهه يحمل سوادا زادته تلك الزغب من اللحية التي بدأت تتضح أكثر. توجه إلى المكان الذي وقعت فيه الحادثة ، كما يقوم المجرم بزيارة مكان الجريمة . أحاط بعينيه سيارة مصدومة في المكان وبدأ يطوف حولها. جاءه صوت من نافذة في الشرفة الأولى للبناية القريبة يطلب منه ما ذا يريد. صرح أنه يبحث عن صاحب السيارة، فأشار له بالصعود.
كانت العجوز الفرنسية ذات التجاعيد شبه الممسوحة جالسة في المطبخ مرتدية بذلة نوم تمنحها وقار وحشمة نادرة في هذا البلد، بصمات جمال الشباب تطبع وجهها الشديد البياض، و بصحبتها رجل خرج من حجرة غارقة في عمق المنزل.
كانت العجوز أول من نطق ، و بعينيها الصغيرتين تحت نظارة طبية ، تمدح فيه شجاعته و نبله في التصريح بالحادثة . عرضت عليه رشف القهوة معهما، وراحت تعلن غضبها من ما يقع ، حيث لم يعد في هذا العالم نبيل مثله ،وصادق يأتي ليصرح بأنه سبب الحادثة التي يوقعها في سيارات الآخرين .
كانت تعيد كل مرة استغرابها لهذه الزيارة التي لم تكن تنتظرها، وقد أملتها سعادة، لأن التأمين الذي وضعه ابنها ضعيف و شركات التأمين لا تعوض له عن الخسائر إلا في حالة ظهور صاحب السيارة التي أوقعت الحادثة. بعد ذلك علم منها أن سيارة أخرى تعرضت للصدمة صاحبتها تقطن في البناية الأخرى.
زادت أسئلة الجيران عن سبب الحادثة من تعميق الجرح بداخله ، أما زوجته فلم تجد إجابة مقنعة ، فقد راحت تخلق مبررات مختلفة حسب من يسألها ، وارتباك يطبع شفتيها وهي تقدم إجابات غير مقنعة .
بعد ما نقل السيارة إلى مرأب لإصلاحها ، و أتم إجراءات التأمين. بدأ يحس باستراحة تتسلله رويدا رويدا. تنفذ إلى العمق لتمنحه فرصة العودة إلى حالته الطبيعية، و شكوك في هذا الشعور تمنعه من الاستمتاع باستراحة غياب الكوابيس التي عرفها.
بخطى ثقيلة قطع طول المدينة ، بغية إفراغ ما يحويه من ألم ، تارة يتحدث لنفسه ، ويبدأ ذلك مدهشا لمن يلاحظه. يظل طوال النهار خارج المنزل ، وعندما يصيبه العياء من المشي الطويل، يلجأ إلى أحد المقاهي ، فيفتح الحاسوب ليكتب. لكن لا قدرة على ذلك، يتوقف ويتأمل كثيرا في وضعه. وبعدما تغلق المقهى يتوجه إلى مقهى آخر إلى أن يعود إلى منزله في وقت متأخر من الليل.
بمجرد ما بدأ يتهيأ لارتداء بذلة النوم ، فاجأته زوجته بأن ساعي البريد جاءه بإشعار لرسالة عن طريق البريد المضمون وعليه أن يسحبها ابتداء من صباح الغد.
يتقلب في الفراش يمينا ويسارا، ومرة أخرى عل ظهره وعيناه مفتوحتان. منهمك في فك لغز الإشعار، مرة يراه قادما من البوليس ومرة ثانية قادما من مصلحة من مصالح الضرائب، إلى أن ارتخت عيناه واستلمت للنوم ليدخل في صراع مع كوابيس مخيفة.
رأى نفسه يمشي في حيه القديم ، في اتجاه موعد مع أحد أصدقائه ، وإذا به يسقط في بقعة أرض فلاحية على هامش الحي ، أصابه شلل النوم "البراكة" و لم يتمكن من النهوض ، صراخه لا يتجاوز الشفتين ، أحس باختناق كاد أن يرديه قتيلا . بدأ يحرك أطرافه ببطء، إلى أن نهض من فراشه بصرخة مدوية فزعت زوجته و قبضت على كتفيه قائلة: الحمد الله على السلامة، ما الذي حدث ؟ لقد أفقدتني النوم أنا الأخرى أحلام مزعجة ...
كانت الساعة تقترب من الفجر، لف سيجارة من النوع الرخيص، خرج إلى شرفة المنزل و بدأ يتأمل الهدوء الذي يخيم على حديقة تدور حولها بنايات أغلب قاطنيها من بني جلدته . كم واحد منهم هو الآن في صراع مع كوابيس الغربة تشبه نفس الكوابيس التي أنهضته وحرمت عليه النوم ؟ ، هل فعلا يتمتعون بهذا الهدوء الذي يخيم على المكان؟ إنه يعرفهم واحدا واحدا ...يعلم أنهم يخفون أحزانهم وجراحهم في بيوتهم، زوجاتهم وحدهن يخلقن الأمل في الحياة.
بعد ما بدأ يتثاءب، التحق بفراشه، ليستغل فرصة الساعات القليلة المتبقية لطلوع الشمس لينام قليلا. و في الصباح، أحس أن انفراج قبضة الصدر مقبل عما قريب، لكن ما أفسد عليه ذلك هو الإشعار الذي تصوره دعوة من طرف الشرطة أو المحكمة.
بعدما تسلم الرسالة، تصاعدت دقات القلب ، تزايدت سرعتها . استخدم حدسه في معرفة مضمونها ، جرب حظه كما يقوم أصحاب القمار و هم يفتحون أوراقهم ببطء للكشف عن ما تحويه من أرقام ، نظر بداية في أعلى الرسالة ليعرف مصدرها، و بدت مزينة بذلك الخليط من الألوان التي يكرهها، تلك التي تزين بها هياكل سيارات البوليس، و أوراق صادرة من الدولة ، أزرق أبيض وأحمر . زاد الفزع يسرع من دقات القلب، أغلق الرسالة وجلس بدون أن يشعر في المقهى المجاورة للبريد. ثم تجرأ وقرأ ما بداخل الرسالة.
تنفس الصعداء ، رغم أن الرسالة تحمل آخر إشعار قبل اتخاذ إجراءات صارمة للضريبة على السكن. لم يكن ذلك مثيرا ليزيد من توسع الاختناق الذي تحكم فيه طوال الليلة الماضية بل بالعكس، لقد أزال عنه وساوس ضاعفت مأساته الأخيرة.
تاه يستعيد الأحداث التي شلت حيويته ، و حالة الرعب التي عاشها طوال الأيام الماضية. فكر مليا في طريقة تخرجه سالما منها. ثم بدا شعاع فكرة ينفذ إلى عروق دماغه. كانت الفكرة في مضمونها أن ينزع السم الذي يحتويه من جذوره، وطرح السؤال عن السبب الذي يعيد تلك الحالة الرهيبة التي يعرفها كل ما سمع خبرا.
اتضح له جليا أن الموضوع يتعلق بعلاقة البوليس بالحادثة، وفكر أنه لا بد أن ينزع هذا الورم قبل أن يتحول إلى سرطان لا علاج له. نهض لتوه من المقهى ، ثم توجه إلى مركز الشرطة الموجود في الحي الذي لا يبعد أكثر من عشرات الأمتار.
- بونجور موسيو
- بونجور
- سيدي، وقعت لي حادثة سير في غضون ليلة في الأسبوع الماضي، ولا أدري هل انتم على علم بها، فقد قمت بمعاينات ودية مع أصحاب السيارتين المصدومتين.
- إذا قمت بالإجراءات اللازمة ولم تكن هناك أي إصابات جرحى أو موتى، فالموضوع لا يهمنا . يمكنك أن تطمئن و ترتاح سيدي.
قالها ذالك الشرطي الشاب مصحوبة بابتسامة، تتلوها كلمات لإظهار قدرته وحرصه على خدمة المواطنين. بخطوات سريعة عاد إلى منزله، و دماء جديدة ضخت في عروقه بعد رسالة الإشعار و تصريح الشرطي. فهمت زوجته ذلك و سألته عن الذي حصل. لكنه كان شحيحا في سرد أخبار اليوم بسبب الرغبة العميقة في النوم...
قالت له ابنته الكبرى وهي في نهاية عقدها الأول: لماذا انقطعت عن الكتابة يا أبي ؟
لم يرد عن سؤالها ، اصطنع اللامبالاة .و بعد أن أصابه العياء من مداعبة أطفاله ، ألقى جسده على السرير المغربي" السداري" وعيناه مصوبتان في اتجاه التلفاز ، أرخى قدميه ، و بعد دقائق معدودة ، بدأ شخيره ينذر بغرقه في سبات عميق ، فقامت زوجته بحث الأطفال على الصمت وهي تعلم انه لم يعرف هذا النوم العميق منذ أسابيع عدة.
عندما نهض بعد ساعات من النوم، أحس أنه خرج سليما من ليل أسود ، عليه أن يمحي ما تبقى من ظلماته. فكانت أول خطوة، كتابة هذه القصة.