... في شُقّة ما في الطّابق الثّالثِ يفتَحُ الشّاشة َ، وحتّى النّافذة َ ،ويُطِلُّ على الكون.في وسط الطّابقِ تندسُّ الشقّةُ. والطّابِقُ في أعلى عِمارة أصلُها ثابتٌ في شارِع كثيفِ البؤْسِ، مدفون في الوحشةِ. والمدينة ُ محفوفة ٌ بالضّبابِ، غارسةٌ في الرّطوبةِ ،يلُفُّها عَفَنٌ كبيرٌ. ويخترِقُها عبرالأحشاءِ والأزقّةِ وخلايا الأمكنةِ صمت محضٌ .. والشّاشة في أيّامِ الرّاحاتِ الأسبوعيّةِ والعُطَلِ تذبحُ الصّمتَ المتطايرَ من الجدران والنّوافذ، ومن أمكنة عدّة.. ومنذ الفجرِ، بعد أن يفْنى صوتُ المؤذّنِ وتنمحي غمغمة المُصلّين الخارجين من العبادةِ ويتلملمُ الكلمُ الطّّيبُ بريدا إلى السّماءِ، وتئِزُّ سيّاراتٌ خافتة ُ الأزِّ على الطّرُقاتِ الموحلةِ ، تنفتِحُ وردة ُ الضّوءِ وتنقشِعُ الظّلماتُ بطيئا، يهرعُ الصّمتُ إلى الشّوارِعِ ويستوْطِنُ المكانَ .ويُلْحِدُ المدينة َ على امتداد سويْعات من الفجرِ المتثائبِ موتٌ فجٌّ،، لا ينْهبُ منْ سلطتِهِ إلاّ وقعُ حوافِرِ الأحمرةِ والبِغالِ تنقُلُ على العرباتِ المجرورةِ صناديقَ الخضرِ والغِلالِ باتّجاه السّوقِ والدكاكين المجاورةِ لكنّه نهبٌ مخلوسٌ خفيفٌ.. والصّمتُ والموتُ متعانقان إلى وقت متأخر نسبيا في النّهار.
على الكونِ يُطِلُّ من شُقّتِهِ. أصابعُه على الزر. والقنواتُ تنساقُ إليه سريعا. وأصابعُه لا تسكنُ عن الضّغط والدّوسِ إلا هنيْهات متفاوتة في الطّولِ والقِصرِ: زرّ:موسيقى.زرّ: صخَبٌ.زرّ: تلاوة. زرّ: رقصٌ أهوج. زرّ: خبرٌ عاجل. زرّ:عرْي. زرّ: قتْلٌ . زرّ: زعماء وخطابات. زرّ:اعتصام ما بعد العام. زرّ: شيوخٌ وُعّاظ. زرّ: إرهابٌ. زرّ: سيّارات مفخّخة ٌ. زرّ: أخبارٌ شتّى. زرّ:نعْـــــــــــــــيٌ:أنباءُ الموتِ تُطِلُّ من زوايا الحياة ... ...
تضيق الزّوجةُ من صوتِ التّلفاز: : خفِّض أرجوك. " نحتاجُ إلى الرّاحةِ والصّمتِ".
يُخفّضُ صوتَ التلفازِ. تخفتُ الأصواتُ في المسامِعِ . ولحين تمّحي بصماتُها مِن الذّاكرةِ ، فيما ينبُضُ حضورُ الصّوَرِ." ما الفرقُ بيْن وحشةِ القبرِ وشارِع باردِ الأضواءِ ؟ بيْن غياهبِ الجبِّ وجدران تخلو مِن الصّفاءِ والأمنِ؟ ". بيْن تلك الجدران يندسُّ تِلفازٌ موصولٌ إلى صحنِ هوائيّ .التّلفازُ مزروعٌ في فراغِ جسم خشبيّ ، حواليْه رفوفٌ مِن زُجاج وخزف وتُحًَف صامتة.. في الغرفةِ طِفلٌ في الأربعين . بريءٌ،إنسانيٌّ، على أنّ في الوجهِ قسوة ً. قاس، على أنّ في النّفسِ انصهارا. في الطِّفلِ رجلٌ عاطفيٌّ نحّابٌ وليس في المدامعِ دمعٌ. في بكاءِ الرّجلِ نشيجٌ ونشيدٌ. وفي الصّدرالمُزدحِمِ بالقسوة ِ والعاطفةِ، إحساسٌ بالذّبحةِ. وروح ذلك الفتى الكهلِ منفطِرٌ .
تتأفّفُ الزّوجة ُضيقا. تلك وتيرة ُيومِها. تسْتأنِفُ أوقاتَ الضّجرِ. صوتُ التّلفازِ مُضجِرٌ. الصُّوَرُ الكتيمةُ مُضجِرة ٌ.
ـ خفّضِ الصّوتَ أرجوك.
ها هو بلا صوت. صُوَرٌ لا غير. تتحرّكُ، تتغيّرُ تتلوّن، وهي مع ذلك ميتة..
ـ لعبةُ الألوان تُزعِجني
ـ أمهليني، سأغتالُ الصّورة َأيضا.
وتنحلُّ العواطِفُ ويخمُد الشّوقُ . والشّارِعُ لمّا ينفتِقْ عن شُعاع مُبين " ليت الفتى حجرٌ".. إنّ الفتى يومئذ هباءٌ. ما الذي بإمكانِ فتى الأربعين فِعلُه؟ ينامُ ليضجرَ؟ يُحبُّ فيبكي؟ يشتهي إمرأة ً لا يفهمُها؟ يتغزّلُ بأخرى لا يبلُغُها؟ ما الذي بوسعِ الفتى فعلُه؟ يثورُ أم يُغنّي يتصوّفُ أم ينتحرُ؟ يُغنّي أم يُصلّي؟ يضغطُ الأزرار فتُــغِــيـر الشّاشاتُ ولايقوى على أن يَغارَ؟؟
يحرثُه الحزنُ، ويصمُتُ. يرى الشّارِعَ في انفلاتة ضوء تتمطّى. يسمَعُ وقْعَ حوافِرَ على الاسفلتِ تُصَفّقُ لليقظةِ. وللضّوءِ تتبرّجُ. وكأنّها تنْتصِرُ للحياةِ . ولمّا تبدأ الحياةُ... الزّوجة ُ في الفِراشِ تتململُ قبل التّلمْـلُمِ. ثمّةَ أنوثة ٌ مُبعْثرَة النّعومةِ ٌتحتَ الملاءةِ الخشِنةِ. جسَد فيّاضٌ، تبْرُكُ في داخِلِه روحٌ مُسْرِفةٌ في الحلمِ. رجاءات ورُؤًى تتضوّرُ .
يعرِفُ منذ الوهلةِ الثّانيةِ أنّ عيْنيْها تنصرِفُ إلى نقطة خارجَ قطبِهِ. وبعيدا تنشدُّ. وإلى زاوية قصيّة تُسافِرُ. هناك، أيْ هناك، في طفولة ثاوية في غابة غاربة في الدنيا تناجي البحرَ وتتمرّدُ على القدر اللاهي.
ـ لمَ لمْ تعْتِقْني؟ ألا تراني على حافّة الانكسار؟ ليس في قدرتي أن أستمرَّ. الاستمرار مغامرة ٌ في الموتِ الثّقيل .
ويردُّ ببرود:
ـ انعتِقي، وأطلِقي روحي، لو عرفتِ أسري لأطْلقتِ روحي.
ـ لا يحقُّ لك النّدمُ الآن. النّدمُ نذالةٌ مضاعفة ٌ في هذا الشّأوِ.
ـ وهل من قيمة لأيِّ شيء الآن؟ لم ينفع النّدمُ فهلْ تُجدي المُحاسبة ُ؟هذا زمنُ الفعلِ في كلِّ شيْء، فافعلي أو انعدمي . انعتِقي أو انكسِري.
تثورُ ندى بعنف. وتكسِرُ الثّورة ُالأنوثة َ الحالمة َ، ويثقُبُ الانفعالُ شفافيّة َ العشقِ والعشرةِ. وتتهاوى الأعمدة ُ من تحتِ سُقوفِ التّناغمِ الموهومِ. وتتوعّدُ ندى بالثّأرِ:
ـ سترى الوجه الآخرَ مِن ندى. أنتَ لا تستحقُّ الحسنى .
وتنتفضُ. تخلَعُ قميصَ الحياءِ وتستدعي لغة ً مِن الفجاجةِ العفنةِ.تستبْدِلُ لسانَ الرقّةِ والنّقاءِ بلسانِ أجربَ. تحرقُ صاحبِتَه النقمة ُوفوضى الثأّر فيحرقُ وشائجَ الودِّ ويلوّثُ رعشة َ الأشواق:
ـ أنتَ لا تستحقّني، لم تكن أهلا لتضحيتي. لم تكن قَطّ مسؤولا.كان عليك أن تتزوّج إحدى شبيهاتِك.
يتعجّب رفيق مِن خروجها عن طورها. يزدحم الغضب فيه. تنهض من أعماقِه شرارة مقت وتحلّ في الحدقات. تسخنُ أطرافَ الوجنةِ . يتحوّلُ الحسُّ الرّجوليُّ لديهِ إلى قبضة نار. وتحت أصابعِه تتوثّبُ أفعى الموتِ. يهمُّ بأن يرتكبَ لعنةً زوّقها الشّيطانُ. يروم لو يردّ عليها : " أنا أفضلُ منك وسامة وثقافة ومحتدا. وشبيهاتي مرهفات الحسِّ، جميلاتٌ. أمّا أنت فتافهة ٌ ومنبتّة حضاريّا وفكريّا...يهمّ بذلك ويُقلِعُ يحاولُ جاهدا أن يكظمَ غيظَه.لكنّه يجرحُها:
ـ في البال امرأة ٌ أخرى، قد لا أعرفها ولكنّي أراها. امرأة نُطقُها همسٌ أو ما يربو عن الهمسِ قليلا. قبل الهمس أناة، إبّان النّطقِ أناةٌ. والنّبرةُ موسيقى. والصوتُ ضماد كُلومِ الرّوحِ،،خريرٌ في مسافة وهم الصّادي. الصوت فتيل يقتحمُ بأعمى الرّوحِ عنيفَ العتمةِ والدّيْجورِ. صوتُها وجبة أسْخى إلاه لأشدّ مخلوقاتهِ نَصبا وسَغبا. . صوتُ تلك التي أراها ولا أعرفها، يختزِلُ قواميسَ الحبِّ والتّحنانِ.. إنّك ِ منفيّةٌ عن قلبي . هناك ،على البحرِ ما تزالين، تُشيّعين الموجَ وتسْتقْبلين الزّبدَ...
على السّاعةِ الثّامنةِ وبعض ما تلاشى من الوقتِ ، تنهضُ أشباحُ المدينةِ . يتفرّقُ الضوءُ في الأزقّةِ يتيما راجفا. فيُطِلُّ مِن شُقّتِهِ على الشّارِعِ . مِن عل يرى أقداما تسعى. يرى دبيبا في الأرضِ البورِ،وخُطوات في رجفةِ الضّوءِ تتعرّى عن شفيفِ ثوبِ الظّلماتِ الآخذ في الانحسارِ.. ما يزال بيْن أصابِعِه جهازُ الأزرارِ الشّتّى.وفضائيّاتُ الجنون: القتلُ المجنون. الرّقصُ المجنون. جنون العنفِ.جنون الحبِّ.وإنْ مِن شيء إلاّ داخلٌ في حُمّى الجنون...في التّلفاز جحيمٌ. في الجحيم عالم ينسلخُ. كائناتٌ تتفتّتُ.حضاراتٌ تُحتَضرُ. ولغو، ونعيٌ.. ويُطِلُّ من زاوية الصّالةِ، يتفقّد السرير بذيء الصّرير. بارد اللّهفةِ، لعلّه أضحى خاويا منها .. يعنّ له أنّ زوجته طارتْ، حوّلتْ خُصلاتِها إلى أجنحة وطارتْ في سكرة اللّيل وفي رطوبةِ العتمةِ ، عارية ً، فراشةً قُبيْل الانفجار إلى رماد.
ـ كيف تركتُ مدينتي وجئتُ إلى هذا الخرابِ؟ كيف طلّقتُ جنّني وملائكتي واخترْتُ عمياءَ الهُبوطَ إلى معتقلات أرضِك؟ لعلني كنتُ ناقصة عقل، علّ لي عقلا عقيما؟
كان يقول لها:
ـ لا وجودَ لجنّة يا حبيبتي أبدا. كلُّ ما على الأرض جحيم. والمدائن كلُّها والبوادي جحيمٌ. والآفاقُ ، آخرُ ما تبلُغُ الأحداقُ منك، لهَبٌ عموديّ. وكذلك المدى والبحرُ فِجاجٌ مِن نار.. لا وجود لملائكة يا رومانسيتي الشقيّة. كلُّ أؤلئك الذين تُحبّين أو تعتقدين. لن يعترفوا بجنونكِ. ولكلِّ كائن شيطانُه؟ وجميعُ الشياطين أذكياء. وساعة َ ينهضُ الواحد يتنافس الكل في الشرِّ. أمّا أنتِ فعمياءُ يا حبيبتي ، ومثلي لك عقلٌ عقيمٌ...
ـ يالبرودة الدم فيك! لكنّ الجحيمَ سـيلْتهـِمُك.
ـ عوّدتْني الشّاشة ُ التشوّشَ والاضطرامَ ثمّ الانصراف إلى التّلهّي بالثّلجِ..
سريرُ الغرفةِ بلا صرير.ليس كعادتِهِ حين يتمرّغُ عليه جسدٌ مِن أنوثة بارعةِ الثّراءِ والشّراسةِ.." لعلّها طارتْ أو تكادُ تحطُّ هناك في مدينتها البعيدةِ.. الغرفةُ آسنة ٌُ الأنفاسِ والنّبضِ . غيرَ أنّ الخصلاتِ لمّا تصِرْ أجنحةً. ما تزالُ على الوسادةِ مُشتّتة ً ضجرةً. والجسد البارِعُ الحضورِ، على فوضاه مِِن العُرْيِ والشّهوةِ والنّفورِ.. وعلى غيرِ انتظامها ، تفلتُ الأنفاسُ أحيانا بلون مِن شهقات تومئ للنّزعِ بالمجيء.. يُغلِقُ البابَ لطيفا. وبأ ُفّ ثقيلة وغامضة يدرأ أربع عشرةَ عاما مِن الوهمِ، وأربعين مِن التدلّي في الفراغِ ، وآلافا مِن الغصّةِ واللهفة والحلم...
في الغرفة الأخرى. ثمّة َ كونٌ. ثمّةَ فردوسٌ بنفسجيُّ الفضاءِ. فيه تتوالدُ القبلاتُ وتدفقُ. تثملُ بالحبِّ وتنثالُ. القبلاتُ على وجناتِ الطّفليْن تراتيلُ ، صلواتٌ ، ترانيمُ مطليّاتٌ بالشّوقِ، مغموساتٌ بالحبِّ واللّهفةِ.
ـ أنتما فحسب من يرجئ القرارَ ويُسوّفُ التمرّدَ . أحبكما ملكي ومالِكيَّ. بيد أنّي حزينٌ وصامد. فهلْ بوسعكما فهمُ حزني وصمودي، وتأهّبي لما لا أدريه بعد؟
يُخاطِبُ الملكيْن وينهضُ. يصطدِمُ السّمعُ بآهة،أنّة طريّة ،لكنّها فاتكة ٌ. تتسمّمُ الخلايا بِجرعةِ حزن سريعا. يصطدِمُ رفيق بالألمِ الفوّارِ. ويعجزُ عنْ تعيينِ مواطِنِ المخاض والخض. يسْتدْعي الدّمعَ وقد أحسّه على شفا التجلّي ، فلا يسْتجيبُ. ومع ذلك يبكي..ويجلدُ الرّوحَ تأنيبا : " ينبغي للملكيْن أن يطيرا. ألا تبّتْ يداي إنْ مًُدّتْ عليكما ثانية، وتبَّ اللّسانُ إنْ لم يصنْ آدابَه وشتم في لحظة طيش أحدكما". ولا يتجلّى الدّمعُ رغم استِرسالِ البكاءِ . يقْرأ مِن القرآن يسيرا. . وعلى رأسيْهما والأطرافِ يمسحُ البركاتِ.. ثمّ يُقبّلُ ثانيةً. يدسُّ في القبلاتِ الجديدة على جبين الملكيْن شُحنةً أقوى مِن الحبِّ والرّأفةِ.. يُغلِقُ الشّاشة. أزرارُها مغسولة ٌ بالدّمِ .الصّمتُ والظلمة ُ يحجبان القتلَ فيخرُج من ثقوب شتّى. والدّمُ ينسابُ مِن آلةِ التحكّم عن بُعد، بيْن أصابِعِه.. يُلقي بالآلة الصمّاءِ الدّاميةِ. يغسِلُ يديْه مِن الأزرار والدّمِ. وينفلِتُ مِن الشقّةِ طًَمعا في فضاء أقلَّ وحشةًَ وتوحّشا مِن غرفتِه وروحِه..
في الشّارِعِ يشبُّ الضّوءُ.هناك، يوشِك انتشارُ النّاس أن يكتملَ في الطّرقاتِ السّالكةِ إلى الدّكاكين والسّوق البلديّ ُ.. في نفس تلك المسالكِ والأنهجِ، وبيْن نفسِ الجُموعِ والأشباحِ، يشقُّ "عزرائيل" طريقَه.. ساقاه ثقيلتان تدفعان عجلتيْ درّاجتِه إلى الزّحام تدريجيّا..وتدفعُ رئتاه الأنفاسَ صوتا جريحا إلى الصّــُـورِ في يدهِ.
ـ وحّدوا اللّه . توفّيَ اليومَ على السّاعةِ ... عمارة بن خميس بن... الدّوام للّه... والدّفينة بعد صلاة العصر في جبّانة سيدي العرباوي. وحّدوا اللّه..
ويتقدّمُ النّاعي في مسافات الزّحامِ ، عجلتا درّاجتِهِ تـُـلَـوْلبان الحياة َ والموتَ ، وتُكرّران وتيرة َ الدّورانِ، والصورُ مرفوعٌ إلى شفتيْن قاسيتيْن تُحوّلان الخبرَ بالتّرديد والصّدْعِ إلى لازمة يسبقُها فراغُ الصّمت ويليها..حين يَحلُّ الموتُ صفيقا ضاريا يخرُجُ مِن لا زمان ، يفترِسُ أيّا شاءَ مِن الأمكنةِ تتحرّكُ العجلاتُ : لاريثَ لاعَجَلَ. تجتاحُ أرضَ الشّارِع فيتفرّقُ النّاسُ ، ينتشرون ، ينشقـّون عنْ تكتّلِهم، ينفضّون عن الجدران التي لاذوا بها منذ الصّباح الباكر اختلاسا لِشُعاع كسلان بخيل. ويفِدُ النّاعي بصوتِه، يرشُقُ الضّمائر الغافلة َ، ويُعيدُ للأذهان وعْيَها النائي:
" وحّدوا اللّه فلان بن فلان ،الدّوام للّه".
الصّوتُ ناشِفٌ ، جرَسٌ صدِىء الرّنين في كنيسة آهلة بالشّياطين والوحشةِ. الصّوتُ نبّاهٌ في شوارِعَ آثِــم صمتُ أهلِها.. تختلِجُ الأرواحُ مِن ضلالِها لوهلة الذكرى.. أصواتُ اللاّئذين بالشّعاعِ وأصواتُ المندسّين في رُطوبةِ النّهارِ سويّة ً تُردّدُ: "اللّه أكبر، ما يدوم كان وجه ربّي". ترتجُّ الأنفُسُ في الجذورِ لاستفاقة عابرة. وتتساوقُ أصواتُ الزّناة والتقّاةِ :" اللّه أكبر ،، هذا موسِمُ تطاير الأوراق"ِ.. موجة ٌ مِن ندم واحتضار تتدافقُ في الأعماق ِ. وفجأة ًـ والصّوتُ لا يزالُ ناعياـ تنصرِفُ الأنظارُ إلى نصيبِ الدّنيا مِن اللّذائذِ، حين تمرُّ فتنة ُ الشّيطان تُحاذي درّاجة َ النّاعي.. أنثى في غايةِ الإشراقِ، تتبرّجُ في الرّصيفِ المُفضي إلى ساحاتِ الاكتظاظ حيثُ يتبرّجُ السّوقُ بدورِه نِعَمًا. صوتُ طقطقةِ الحذاءِ يُذوِّبُ حفيفَ تلولُبِ العجلاتِ ، يشْرَبُ غمغمة العابرين، ويمتصًُّ ضوضاءَ الباعةِ ،ويُفْني بُرهة َ التّقوى.. لحظة ٌللموتِ لحظة ٌ للعيْشِ ارتعاشةٌ للآخرةِ وانتعاشة ٌ بالرّاهنةِ تصطدمان.. ولا ينفكّ عزرائيلُ المدينةِ يصدَحُ : " وحّدوا الله. الدّوام للّه".. ورفيق، واحد من هؤلاء اللاّئذين ، يرى ويسمعُ ،ويلوذُ حتما بشىء لا يعرِفُه سواهُ. ورُبّما كغيرِه، كان ممزّقا بيْن التّراخي للخطيئةِ وبيْن شهوةِ الأوْبِ إلى الهُـدى.. وهو في الحاليْن وبيْنهما شقيٌّ وحزينٌ.
عينا رفيق تقتفيان أثرَ التبرّجِ فيما يقتفي السّمعُ متلاشِيَ الإنذارِ و يعيشُ الوعيِ بالنّعيِ. وكلُّ ذلك كان عنه مسؤولا. وعنْ غيرِ ذلك سوفَ يُسْألُ..
" ما الفرقُ بيْن التّلفاز والمدينة؟ّ للمدينةِ أزرارُها الشتّى. وللتّلفاز نُعاتُه والمتبرّجون.. كلتاهما عاهرةٌ وبكلتيْهِما رائحةُ الحزن وملمَحُ الدّمِ وملْمسُهُ. ومِن كلتيْهما ينداحُ الضّجرُ والكآبة ُ والعويلُ...
في المدينةِ عُواءٌ. الطّرقاتُ تعوي تحتَ وقعِ حوافِر الأحمرةِ التي تجرُّ العرباتِ وتحملُ الأغذية َ لسوق كاسدة، وتحت مطّاطِ السّيّاراتِ الباذخةِ التي تبصُمُ السّخرية َ عند كلِّ أزيز. وللائذين بالأشعة مختلسي الدفء صمتٌ يعْــوِي. أياديهم المدفونة ُ في البناطيل الخاويةِ، حينا تتلمّسُ الفراغَ وتحتمي بأمنية واهمة للعثور على نُقود لا تُفضي إلى خجل، وتارة ً تُلاطِفُ العوراتِ سِرّا وتستهلِكُ المُتعة َ بالعُريِ صمتا.. والمرأة ُ المتبرّجة التي تسْتقْطِبُ السّمعَ والمُشاهدة َ وتصرِفُ عن النّعيِ ، عُرْيُها عاو وبِمشْهد ما، لا بُدّ أنّها تلودُ. والشّعاعُ ذاتُهُ حيثُ يغتسِلُ القومُ مِن لزوجةِ الضّباب وريْنِ الرُطوبةِ والسّأمِ، يلوذُ بِضِدّه.. هكذا تتوالجُ الأضدادُ في الأضدادِ. ولِكلِّ أمر جاهِزُ الأزرارِ داميها..
بإمكان رفيق أن يختلَّ الآن.. في وسع الرجل الكهل أن يرجع طفلا. في الطرقات سيجري نقيّا. في وسع الطفل الكامن أن يتحوّل رجلا شـهْمًا. كما يمكن للشهم أن يَــوْضُع َبين الفينة والأخرى. يسْتأنِفُ النّاسُ لواذَهم من بالفراغِ بالظّلِّ، بالغيْم،بالدّفءِ،بالشّمسِ بالغِلالِ بالأسماكِ ،،بأنثى تفتَحُ النّارَ مِن فوهاتِ ثيابِها. ويسْتأنِفُ النّاعي مجيئه ونذيره" الدّوام للّه". ويسْتأنفُ رفيق شغَفَ الضّغطِ على الأزرار التي يؤولُ معظمُها إلى عطب أكيد. يعنُّ له أن يعودَ إلى غرفةِ الضّجرِ ليطرُد كائنات البحرِ إلى البحرِ. و يُرشِدَ كائنات الفجرِ إلى مسالكِ الفجرِ .. وتمرُّ درّاجةُ النّاعي غيرَ بعيد. صوتُه يجتازُ الآذانَ إلى خفيِّ السّرائرِ وقصيِّ اليقظاتِ..يركضُ رفيق خلف الدرّاجةِ .يُنادي بصوت حييّ ـ انتظرني، أريدك.
بعد مشقّة يسْتوْقِفُه.وبثقل يردُّ النّاعي: ماذا تُريد؟
يسلّمُه رفيق نقودا تكفي لإعلان نعي. ويرجوه :
ـ أرغبُ في أن أسمعَ اسمي بصوتِك عمّا قريب. غدا أو بعد غد على حدّ أقصى. وإليك الإسم: رفيق عبد الغفور. اخترْ أنت التوقيتَ الذي تراه مُناسِبا. واختر الجبّانة َ. إن كان ممكنا فلا أريد جبّانة العرباوي.. سأنتظِرُ هذا الصّوتَ. سأسمعًُ بوقَك وأرى درّاجتكَ تــــسْـعى.
ـ اسمعْ ،اسمعْ يا... ولكن ما هذا؟..
ـ اعتذرُ الآن. يبدو أنّي نسيتُ التّلفازَ مفتوحا وزرَّ الصّوتِ مكتومًا، ونافذةَ الملكيْن موصدةً .
ـ اسمعْ ..
وتحرّكت عجلتا الدّرّاجةِ بتحرّكِ قدميْ رفيق وهو يذوبُ في المسافةِ ويخرُجُ مِن شارِعِ النّعيِ إلى .......
سيف الدين العلوي
بوسالم تونس