دخلتْ البيتَ مسرعة فرحة ، توجّهت على الفور إلى المطبخ ، ضمت أمها بقوة وهتفت :
أخيراً .... أخيراً يا أمي وجدت وظيفة .
لقد ذهبت اليوم إلى المدرسة الداخلية التي قدمت إليها أوراقي منذ أيام ، فأجروا معي مقابلة
قبلوني بعدها معلمة في هذه المدرسة .
لم تعرف كيف تقضي ساعات هذا اليوم ، فغداً ستثبت وجودها ... ستعمل ... ستتخلص من قضبان هذا البيت الذي أسرها والماضي الجريح .
أضاءت شمس الغد يوماً جديداً ، وعلى باب المدرسة تسارعت نبضات قلبها ... تنفست بعمق
ودخلت إلى مديرة المدرسة التي حدثتها عن التلاميذ الذين ستدرسهم قائلة :
_ هؤلاء التلاميذ سافرت معلمتهم بعد أن علمتهم الشيء الكثير ....
لا أخفيك سراً أنهم تعلقوا بها كثيراً ، لذلك حاولي أن تتقربي منهم ....
ما زالوا صغاراً في الخامسة من عمرهم .
نظرت إلى المديرة ، فعمر الأطفال هو نفسه عمر جرحها ، وعمر ذكرياتها التي تحاول دفنها .
وفي ممر طويل ، سُمعت خطواتُ سيرها مع المديرة التي طرقت باب الصف ثم فتحته ...
وقف التلاميذُ ونظروا بعيون حالمة إلى معلمتهم الجديدة ....
قدمت المديرة المعلمة إلى التلاميذ، عرّفَتها إليهم ، ودعتهم وغادرت الصف .
وقفت المعلمة ، ونظرت إليهم حائرة : كيف أبداً ؟
ماذا أقول لهم ؟ ما ذا سأفعل معهم ؟
وقضاءً على حيرتها وقف أحد التلاميذ متسائلاً :
- هل ستكونين أنت معلمتنا ؟ ! وتعلميننا وتلعبين معنا ؟
- نعم ... سأعلمكم وأحبكم وألعب معكم .
صفّق التلاميذ ، وتبسموا ببراءة غارقة ببراءة ، إلا تلميذاً وقف رافضاً :
- لا نريدك أن تدرسينا ولا أن تلعبي معنا
نحن نريد معلمتنا .. لا نريدك أنتِ .
اقتربت منه ، نظرت إليه،. غرقت عيناها بعينيه :
- سأكون معلمتكم ، وأختكم ، وأمــ ......
ولم تكمل كلمتها ، فقد عاد الطفل ليسألها :
- لمَ سافرت معلمتنا ؟
- سافرت إلى أولادها .
- وأنت ؟ هل لديك أولاد؟
صُدمت من سؤاله ... تجمّدت حروف كلماتها .
وفجأة طرق الباب ودخلت المديرة ، اقتربت من المعلمة وقالت مشيرة إلى الطفل الذي يرفض ووجودها :
- إن هذا لطفل لأب وأم مطلقين ، تركته أمه منذ ولادته ، ولم تسأل عنه أبداً ، ووالده دائم السفر يأتي لرؤية ابنه لدقائق فقط ، وهو في طريقه إلى الصف ، فاسمحي له بخمس دقائق يراه فيها .
دخل الأب ، فركض الابن مسرعاً لعناق والده ، لكن الأب لم يحضنه كعادته ويقبله ، بل وقف في مكانه بعد أن جحظت عيناه ...
ترك الصف مسرعاً وخرج من المدرسة ، نادته المديرة ، كررت النداء واستغربت الموقف ، استدارت إلى المعلمة لترى الدموع بعينيها . سألتها :
- ما بك ؟ ما الذي جرى ؟
أجابت بانكسار :
- سيدتي ، هذا الرجل هو طليقي ، وهذا الطفل هو ابني الذي لم أره أبداً ، وأنا ......
- وأنت ماذا ؟
- سأقدم استقالتي ! أرجوك اقبليها.
حملت حقيبتها ، ثم دنت من ابنها بهزيمة ، أرادت أن تضمّه لكنّ قسوتها منعتها ،
مسحت دموعها التمساحية وخرجت معلنة ً نهاية ً لقصة كل إنسان مات بداخله الإنسان .
أماني عصام المانع
(من مجموعة سيد الكلمات)