تبدو شيئا فشيئا ... تلوح يداها الرقيقتان لرفاق تاهوا في دروب تتشعب ... توغلوا في ضباب كثيف وغابوا ... تنادي ... تتحسس الرذاذ ... تلتمس مخرجا ... لكن لا أزيز ولو لباب، فكلها موصدة ... تستجمع شتات الضوء، تركز النظر في اتجاه الأفق ... تحاول أن تتبين ما انكتب بحروف نور تتلاحق على صفحة ضبابة ... تعالي نرتوي من ينبوع عذب، ونرقص على أنين الليالي... ابتسامتك وحدها وجه مشرق للعالم ... تعالي نتجرع الحياة حبا؛ إذ تعتصر فاكهة قلبينا في مطعم الجراح … هذه أعاصير عنيدة … افتحي بوابة معبدك… عساني أصير فيه ( … ) لأنثى أنهكتها تفاصيل المدرجات، ثم الدروب وسط مدينة محتشمة بألف عار. بجانبي أناملها الذهبية كانت تضغط على قطعة سكر، واللون البني مازال يتراقص بعد على الأبيض المكسر. كفت عن التحريك، وأوقدت النار بالقرب من الشفتين المعسلتين … تمص وتنفث الدخان صوب الواجهة الزجاجية؛ التي تكشف بؤس الشارع اليتيم … فراغ إلا من سيارات بيضاء تمر تعوي… يرقبها النادل من حين لآخر، وهو يمشي بين الطاولات يحسب، يوزع، يجامل زبونا، لا فرق. تنظر إليه … نعله المطاطي يطل منه إبهام مشقق بظفر نصفه بلون الحناء.
ساعة المحطة التي ميناؤها من حجر كانت تشير إلى الثانية عشر ليلا؛ لما تأبطت ملفها المدسوس شهادات من كل الفصائل، وودعتها محتفظا بارتجافة يديها في كفي عند الباب، والعجلات تصطك على السكة تأهبا للانطلاق. عدت أكتم أنفاسي في الصقيع الليلي، لأحتضر في فرح بوهيمي داخل مساحة غرفتي؛ ترميني أشياؤها وقد بعثرت، بكلمات كالأضداد، ووجهك وحده يداهم مرة بعد أخرى الباب، تسبقه إشراقة عينيك اشتهاء يناور لاحتضاني. تحفيني الكأس التي بجانبي فأتمنع، ويغازلني بياض الورق، وأيضا أمتنع... آه ... يمتصني الخط الذي رحلت عبره، بينما يصدني شباك حديدي هو لنافذتي. سلاما أردد !. المصباح الذي فوق؛ لم تزل ظلاله تنكل بصفاء الرؤية، تربت على كتف أشباح، بدت لها مخالب تقطر دما... عبثا إن استغثت ... فليس ثمة في الوجود - من البشر طبعا - مغيث. مددت غطاء وثيرا على أعضائي المسهدة أستريح قليلا ... إلى أن حلق وجهك المشرق، تتهادى قسماته، مقتحما بابي من جديد، يقترح سمرا قصيا في رحابة العشق وتيه الحكاية.
* * *
تسللت أشعة الصباح متثائبة، علا الصراخ ... فتحت النافذة : ها عزوز يمشي مختالا بقدر من عظمة باهتة. رأسه مليئة بالشعر، يستنطق علامات الدرب الصباحية. الكشك الخشبي غدا بأربع عجلات يتجول. الطفل بائع الحلوى يفتح عينيه بالكاد. مسعود بائع الشمع يستفتح بأول درهم. بنت الحاج كعادتها تنتصب ببابها مزهوة في منامتها الحريرية ... ها بائع النعناع وراء عدله ... هو قارئ كافكا. كلما نفذت سلعته انطلق في اتجاه ( الجوطية ) باحثا عن رواية يتيه فيها، ولا يعود إلى تجارته إلا إذا أتمها بالكامل. الإسكافي الفقيه في ورشته يتمتم بآيات لا يتبينها أحد، يقبض على خيوط مشمعة بين شفتيه، وهو يضع الغراء على حافتي حذاء ... جماعة من المعطلين منهوكة في جدلها كالعادة، ولا تفارق كراسي المقهى سوى لاعتصام جديد. عند الساحة الفسيحة ضباب ينتشر ليلف المدينة ... ومن المرتفع الذي يعلوها كانت تتوزع أشلاء مندسة بين فجاج الأطلس، ورؤوس أصحابها سكرى ببانوراما الأشعار، والقراءات، وصيحات الإيديولوجية المنهارة، وبكثير من النميمة، ومشاريع مشرعة على خواء ... فقط بناءات من آجر وإسمنت ، و ) سماسرة ( بلا حدود ... المدينة هامش منغلق، عناد شقي، وحلم بعيد ... كنت قد اقتربت من المحطة، والساعة التي ميناؤها من حجر؛ يدنو عقرباها الحديديان في تثاقل من الخامسة مساء … فأي قطار يمكن أن يعيد وجهها الوردي المشع للمدينة ؟ !…
لا صفير ... تسمرت على مقعد إسمنتي، أسترد ملامحها الآبقة قطعة قطعة من الوجوه المسافرة، وأنتظر، فقد تأتي كالطيف إذ ينبجس بنفسجيا.