في غمرة الغضب رمى سلة الأسماك بعيدا، تمازجت السمكات الصغيرة برمل الشاطئ، اتسعت حدقات عينيه و تحولت إلى جمرات متقدة، نظرات أشبه ما تكون بقذائف من اللهب، تسارعت دقات القلب و اتسعت فتحات الأنف المفلطح ، امتد البحر أمامه جحيما أزرقا ، بحرا من الدم و المخاط، لم يعد يسمع سوى هدير الموج الصاخب يدندن في أذنيه الحمراوتين...
اللعينة،القحبة سأذبحها ذبح الشاة...
سار على طول الشاطئ بخطى متسارعة تكاد تكون هرولة ، تتناثر حبات الرمل عند قدميه، يتطاير الشرر من عينيه و قبضتاه مطبقتان على صنارة الصيد، الطريق ظلام، تعتمل في ذهنه آلاف الأفكار القاتلة، سيناريوهات مختلفة لجريمة القتل التي سيرتكبها بعد قليل..
" سيشدها من عنقها و يطبق عليه الخناق حتى تتخبط كسمكة أخرجت من الماء فتموت، سيضربها بقبضة الصنارة على رأسها حتى يفور الدم متجلطا من فمها ، قد يقتادها إلى الأكمة الصغيرة خلف البيت ثم يذبحها و يرميها في النهر جثة هامدة ككلبة نافقة ، أو ربما كان سيضربها بقبضة يده على رأسها حتى تنزف كنافورة ماء في ضريح هادئ، سيخنقها إلى أن يصبح لونها أزرقا كالبحر، حتى تطفو رغوة الموت على شدقيها الملطخين بأصباغ الفضيحة و العار..."
كل ما فكر فيه ساعتها هو إنقاذ شرفه الذي لطخته ابنته العاقة، هي و أمها مسئولتان، سيذبحهما معا ...و تكاد أوداجه تنفجر ، يتلاعب شيطان أزرق بخلاياه الدماغية، مارد من عهد سليمان يتلو آيات الغضب و النار داخل جمجمته الساخنة، يحس بموج المحيط كاملا يصطخب داخل هذه الجمجمة المتهرئة بملح البحر ...
"لماذا يا ربي لماذا أنا ، عبدك الفقير إليك ، لما هذه الفضيحة أمام أهل القرية، أين سأذهب و كيف سأقابل الناس و بأي وجه ..."
مازال الطريق بعيدا و سورة الغضب تخبو شيئا فشيئا، الغضب الأحمر كجمرات مشتعلة يتحول إلى دموع ساخنة تسري بين شقوق البشرة المشققة ، بكى و هو يقطع الطريق بين صخور الشاطئ، كان البحر يئن و يشكو عذاباته لرمل و صخور الشاطئ و النوارس اكتحلت بصمت الأصيل آذنة بسقوط ضوء الشمس ليحل الشفق الأحمر محله...
نزلت دمعة وحيدة أعقبها سيل من الدموع، في غضون ثوان قليلة اخضلت لحيته البيضاء الوقورة بماء العينين ، انكمشت قسمات الوجه المفجوع والألم يسري كمصل بطئ نحو القلب ، عبر الشرايين و عبر الأوردة...
كان جالسا عند صخور الشاطئ يصطاد قوت يومه حين جاءه صبي من صبيان الحي يخبره أن ابنته ضبطت غارقة في الفضيحة رفقة أحد شباب القرية...
هدأ الغضب، تراجع كالجزر شيئا فشيئا، لاحت بيوتات القرية الصغيرة من بعيد، أخذ يحسبها الآن بدم بارد بعد أن استقرت دقات قلبه و عاد إلى وجهه لونه الطبيعي...ما الذي حصل بينهما أيمكن أن تكون قد ...؟؟؟؟
رحماك إلهي فلتلطف بحالي...
كيف سيدخل الحي ، نظرات الناس ستأكله ، ستمحصه الأعين، ستمسح جسده من رأسه إلى أخمص قدميه، سيتهامس الشيوخ و يضحك الصبيان و ستوشوش النساء كعادتهن ، ثم ماذا ؟ سيتمنى لو تنشق الأرض و تبتلعه، سيتمنى لو تنزل يد إلهية من خلف الغيوم فتحمله و تمضي، قبل أن يصل إلى مدخل الحي تمنى العجوز أن يموت، تمنى الموت من كل قلبه، برغبة صادقة رغب لو تذوب عناصر جسده في المجاري المائية القذرة للحي الفقير، ستظل وصمة عار على جبينه إلى أن يموت، ما الذي سيقوله أهله "الدراوش" الذين لا يملكون سوى الشرف و أكواخ صغيرة مسقفة بالقزدير و الطين... سيتنكرون له و لابنته و زوجته، لن يتزوج أحد ابنته الباغية، سيصبح عارا على القبيلة، سيحتقره الجميع، سيشمت البعض و يتأسف البعض... وكل شيء سينهار في غمرة الحسرة و التوجع...
شعر بالخوف و الحقد و المرارة التي صعدت نكهة حارة إلى حلقه، شعر برغبة في القتل ثم شعر بالضعف ثم بكى...تباطأت خطاه المتعثرة و تقزّمت حتى كاد يتوقف، قدماه مثقلتان كأنه يمشي في طريق مليء بالوحل أو طريق غارقة في الزفت الأسود الساخن، أحس كمن يسبح في مخاط لزج، تخترق رائحة الزفت الكريهة أنفه، تتسلل ذراته إلى إلى قلبه فتسري مع مجرى الدم، يغوص و يغوص ، يغرق في بحر الزفت، بل في واد كبير من الدم الخاثر الدافئ، يغطي الدم آخر جزء من رأسه ليختنق رويدا رويدا حتى لا تظهر منه إلا قبعة الدوم...
وقف عند ممر الحي الطويل الذي يفصل بين خطين متوازيين من أعشاش القصب الممتدة كأسراب النمل، "براكته" هناك في أخر الممر ، راعه منظر الناس متحلقين عند باب كوخه الصغير، عادت دقات القلب لتضطرب، لترتفع، تورمت أحداقه الغارقة كحفر كبيرة، تغيرت زرقتها إلى أسود قاتم، أخذت يداه المعرورقتان ترتعش، عاد نهر الدم الخاثر من جديد ليجتاح الممر الوسخ المليء بالحفر و بمياه الصرف الصحي... و القلب، القلب كعصفور يرفرف بين الضلوع، ارتفعت الولولة و الصراخ النسائي، سقطت أول دمعة، الدمعة الثانية و الخطى وئيدة نحو المصير، اشتم رائحة ما، رائحة قديمة عرفها عندما كان صغيرا، رائحة قاتلة موجعة، رائحة أقوى من طعن المُدية، أشبه ما تكون بروائح المستشفيات، انقبض الشريان و الصدر، ارتجت الضلوع و سرت رعشة قوية في أوصاله الهرمة....
"لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا حول و لا قوة إلا بالله ، إن إلى الله و إن إليه راجعون، استغفر الله العظيم ....
ارتخت قبضتاه، سقطت الصنارة فخر راكعا على ركبتيه فتهاوى شقاء السنين الماضية، تهاوى الصبر و تهاوى القلب كصخرة تتدحرج من هاوية سحيقة، ما من مكان للدموع ، جفت مآقي العجوز الطيب، أحس بكرة من اللهب تنزل نحو كبده فتشويه، تؤلمه، تعذبه، جحظت عيناه الطيبتان اللتان طالما شعتا عن قناعة و رضا بقضاء الرب ، و دمعة أخرى و ألم، ماذا جدبت الصنارة هذه المرة غير الموت، غير جثة فتية من بحر الدم و الفقر و العار و الألم....
كانت ابنته الصغيرة، باكورة العمر، شقاء الليالي ، ثمرة الكفاح الطيب، كانت مسجاة أمامه على الأرض، يسيل الدم من جروح شريانها الأيسر، يختلط بتراب الأرض العارية من الإسمنت و بحصير الدوم المتلاشي، و الشفرة ملقاة هناك بعيدا و الأم، الأم ذاهلة لا تتكلم، كمد الفاجعة أخرس لسانها فلم تبك و لم تصرخ، كأنها صنم برونزي أو شيء متكوم في زاوية الكوخ الصغير، كل تلك الأحلام البسيطة و الصغيرة التي تقاسموها على مائدة العشاء اندثرت كدخان تطاير في الريح، كل الابتسامات و الأماني البيضاء تنتحر أمامه الآن، تترجرج أركان الكوخ بضحكتها الصغيرة و هي تركض لتستقبله راجعا من البحر فترتمي بين ذراعيه و تقبله على خده، كل الليالي التي سهرا معا على مرضها و بكائها ترجع الآن كشريط سريع في ذاكرته المتعبة ، الآن هي ليست هنا لقد انتقلت إلى عالم آخر ، بعيدا عنك انتقلت أيها الشيخ الهرم، بعيدا عن الموت المتكرر في حياة البؤس و الخوف و المذلة ، كانت روحها قد رحلت و جسدها الصغير بين يديه، جسدها الصغير بين ذراعيه تعصرانه برغبة الأبوة الحارقة في نفخ الروح و إعادة الجسد إلى حالة الحركة ..لكنها كانت قد رحلت ...
ألوى على صدره الحسير بكف راعشة، تلمظ مرارة الموت، كانت تلك رائحة الموت التي اشتمها قبل وصوله، تلك الرائحة التي عرفها يوم رآى والده لآخر مرة، لملم ما تبقّى من هيكله الخرب، وقف على رجلين أشبه ما يكونان بشراعات سفين مخرومة، توجه إلى خارج الكوخ...
الناس يواسونه، النساء تواسين الأم، يلغون و يلغين بكلام لم يعد يسمعه، عاد هدير الموج إلى أذنيه صاخبا قويا، يسمع ارتطامه بصخور الشاطئ، تتهاوى صروح النفس و الناس و الزمن، يتبعثر اللفظ قاصرا عن الصمود أمام طوفان الحدث..
كان وحيدا يأكل على طاولة الخشب الصغيرة، الأم ماتت بحسرة الوردة الذابلة أسبوعا بعد رحيلها، الأكل ليس أكلا، النوم ليس نوما، الكوخ لم يعد كما كان ، صمت أزلي يعصف بجدرانه المتآكلة....
بعد أسبوع: شاهدوه يجري حافيا بمحاذاة الشاطئ، لحيته البيضاء استرسلت حتى لامست صدره الضامر، كان يصرخ بأعلى صوته حتى تهتز أسماله البالية فوق جسده المتلاشي...
بعد شهر: شاهدوه على عتبات مسجد يستجدي الخبز و بعض الدراهم...
بعد سنة: كانوا يحملون نعشه إلى مقبرة القرية الصغيرة، حادت النوارس يومها عن مسارها و رافقت الجموع إلى مثواه الأخير، تلبدّت السماء يومها و تهاطل مطر غزير، و أبرق الجو فانفض الناس بعد أن دفنوه ... لم تبقى سوى الكلاب الضالة تجول في زوايا المقبرة الهادئة التي يغسلها المطر و يغسل معها ذنوب الموتى....