قبل الطفوّ
قبل عبوري الشارعَ كان يشغلني التفكيرُ و الألمُ من سلوكِ جاري المرتدّ إلى غرائزَه الأولى التي اندثرتْ في النوع الإنساني منذُ عصورٍ موغلةٍ في القِدمِ، لكنّ جاري لا يريد أن يفهمَ ذلك مصراً على إنه مستوعَب ٌ جيد ٌ لحيوان ٍ ما ، ينثر قذارته كخنزيرٍ بري وعند هذه اللحظةِ و أنا أفكرُ بجاري صَدَمتْني سيارةٌ مسرعةٌ فشعرتُ للحظةٍ أنني طائرٌ وفي لحظةٍ أعقبتهَا شعرتُ أنني أتحيّز مكاناً فوق جسدي أراقبهُ بسكون .
الطفوّ
لم يكن ممكنا استقبال أية إشارة من أي نوع لأن كل إشارة صدرت كانت بلا زمن ، لم ترق إلى موقف روحي الساكنة المتوحدة ، لم ترقَ إلى اللحظةِ التي أقف في حضورها الآن أما اللحظة التي أتت للتو فقد سّبَقتْ تلك الإشارات دونَ هوادةٍ ، أشعر بثقلٍ فائقٍ و عدوانيٍ يهيمن على اللحظة الحاضرةِ الآن وليس قبل ذلك، يحولني ذلك الثقل إلى كيانٍ مرتجٍّ يضطربُ فيه السكون فأنقطع عن لحظة الثقل الفائق مسعفا حظورا داخلياً يتوقُ للخروج من كل لحظة إلى لحظة أخرى قادمة ، حاولتُ استشعار ماهيتي في اللحظة ولم استطع إكمال المحاولةِ لإن اللحظةَ التي أردتُ فيها ذلك مرت بسرعة وتركت روحي إلى لحظة أخرى ستفعل الفعل ذاته باللحظة القادمة تواً الغريب في الأمر أنني قادرٌ على إخباركم بهذا الذي يجري و كأنني عائمٌ فوقي دونَ تحيّز مكانٍ محدد إذ إنني الذي أخبركم بكل ذلك لستُ شيئا البتتة ولا أمثل ما يجري لروحي تحتَ وطأة هذه السكينة والوحدة، وهكذا فإن اعتياد الموقف و الشعور بالإندماج ومعايشته في صلبه و قبوله كما هو في لحظته بدا أنه الهدف الذي ترجوه روحي لكن الأمر يعسرُ أن يكون كذلك فقبل نضج القناعة بما أعايشه في لحظته تبدأ محاولة محمومة لأنتاج شيء مماثل للحظة التي أزاحت ما قبلها محاولا لفت انتباه جسدي المسجى في الأسفل مناديا عليه من فوق هذا الذي هو أنا ، لا أمثل منه شيئاً و إذ يعاني هو ما أصفه باعتباري المعزول عن موضوعه أراقب من فوق ٍ مطلقٍ ما يجري له دون أن أسعفه لأنني بالحقيقة لا أمثل إلا دوري دون زمن ودون مكان ولا مرور لحظة إثر أخرى رائيا تلك اللحظات اللاهثة حول جسدي مستوعبا بوضوح محاولة روحي لمسك اللحظة المنتجة تواً لكنها تبوء بفشلها الواضح إذ لا ترقى لمستوى الإندماج بها قبل فوتها و إزاحتها بعيدا من قبل لحظةٍ قادمةٍ تواً من مجهولٍ ما، تدخل أطراف اللاوعي و تغادره دون انفعال شيءٍ مثل الدخول إلى غرفةٍ لا سقفَ لها ولا قاع،و يستمرُّ لهاث اللحظات و مجاهدتها لبعضها بطريقة عابثة و على نسقها ومن خلالها حضرت ذكرى ذلك الببغاء الأخضر كما كنت أراه في طفولتي وقد وضعه الحاوي في دولاب يدور بفعل ثقل الطائرلا بإرادته أو إرادة الحاوي وكلما دار الدولاب نقل الطائر قدمه إلى قصبةٍ أخرى من الدولاب لتزاح هذه القصبة تاركةً مكانها إلى قصبةٍ أخرى قادمة ٍ يحط الطائر قدمه عليها وهكذا سيدور الدولاب ليبقى الطائر مجبراً على هذا المسير في دربٍ لا ينتهي حتى مشيئة الحاوي بإيقاف ذلك، ولما التقطت ذلك ضحكتُ أو خيل لي أنني ضحكت، ولم يكن ضحكي كما أنا هنا أراقب روحي وهي تسبح في سكونها المطلق إنما كان ضحك الذاكرة التي يعيش فيها ذلك الطفل في بعض تلك اللحظات اللاهثة المزاحة مدركا إنني كبرتُ بل وهرمتُ و أنا أراقبُ جسدي الذي يحاول امتلاك اللحظة و استيعابها لكنه يخفقُ دائما لقد ميزت ضحك طفولتي بإدراك صارم ذلك جعلني أنتبه إلى أنني و إن هرمت فإنني محض طفل يضحك في ذاكرتي بينما كانت روحي ساكنةً تحاول أن تستوعب اللحظة قبل انزياحها بتأثير لحظة أخرى ولا زلتُ أقاوم إغراءً فذّا بالضحك من ذكرى الببغاء
هبوط إضطراري
في صباح أحد الأيام انتبهت إلى أنني فوق سريري في المشفى أراقبُ مقبضاً معلقاً فوق رأسي يتحرك كبندول ساعة بدا لي أنه سوف لن يتوقف، قال الطبيب حمدا لله على السلامةِ كاد بالونكَ يطير لكن خيطك الواهي لم ينقطع و الآن أنت معنا فأهلاً بك وعندما قال الطبيب ذلك كانت تملأني الرغبة بالطيران من جديد فقد كانت ذكرى الطائر الأخضر أكثر بهجةٍ من حركة المقبض البندوليةِ فوق سرير المشفى وبدت اللحظات ساكنة تماما تدلق لسان زمنها وكأنها كائنات راسبة في قعر ما تنتظر من يحركها لكن دون جدوى فأنا الآن كسمكة أخرجت من الماء لزمن طويل وقد أعيدت الآن لوشلٍ في القعر.