انخطاف أن اكتب عن هذه اللحظة الشاذة التي انتقلت كالزئبق من بين يدي. فكيف لي أن أعطي اللحظة حقها و أنا لا امتلكها؟ هكذا اعترف بتيهي في امتلاك أويقات من هذا الزمن المارد، الذي صير الإنسان مجرد فرد منعزل داخل عالم من الأشياء، مدعيا أنه امتلك أخيرا صيغة عالمة المستقل بذاته. فما هذا الضبط الذاتي الآلي؟ و ما معنى هذه السيادة المتزايدة للأشياء التي أصبحت حقائق ضرورية إنسانية ؟!
إنه غثاء، إنه جنون تجاه هذا الزمن الذي ندفع فيه الثمن غاليا من أجل القليل من كرامتنا.
ففقر اللحظة يشعل أنواري بلفحاته، تاركا خلفه رماد سنين الكفر، تاركا خلفه دمارا على دمار على ذل و عار... فلما لا تكون خطوطي سرمدية، معانقة غموض اللحظة العبوسية؟ فهي غنية في اضطرابها، مرتبطة في قناعاتها، مدهشة في ارتعاشها. إنها حالة هوس مجسدة بواقعية ساحرة. إنها جنون ذو نفحات مهدمة لمنابع الحب و الأمل. فكيف لي محاورة اللحظة المهزوزة و طوماهوك يمطرنا؟ و الجفاف و الجوع يرتديننا و الأقمار الاصطناعية ترغمنا على الخنوع لهذا السيناريو الجديد بعد أن عاينت تحركاتنا.
في هذه اللحظة المدقعة أشذب أوراقي اليابسة، و ما علق في ذاكرتنا من الطفيليات المضاعفة من فقد وضياع و عطالة مستديمة، مستعدا للشرور القادمة.
حاولت مرارا النظر إلى العمق، عمق اللحظة الآنية علي أجد عمقا أرسو عليه، فإذا بي أتيه، باحثا عن كل ما هو أصيل. فانتهى بي أمري إلى صعلوك أدبي، حاملا حقيبة أوراق مشتعلة بسحر الكلمة المحيرة، المليئة بأشعار رمادية موثوقة، نتيجة حياة قاسية، ماردة، قليلة الحنان، كثيرة الجنون. كأنها لعنة أو نزوة تلاحقني لأصب جم سخطي الفرح في رسائلي المتشظية، إلى اعز أصدقائي المعطلين المشردين.
أجل، و لم أجد في العمق عمقا، فكل ما وجدته كلام فوق كلام تحت كلام، أو كلام في كلام، في كلام داخل غناء من طين رفيع مكسر أمام باب دار السلام، أو بالقرب من قبة البرلمان. فيا سلام على حسن ضيافة أصحاب القرار الذين رموني إلى بحر التيه بدون قرار. فكيف لهذا الائتلاف الشاذ أن يطغى و نحن فطرنا على الفرح و النور؟
و أنا كالبجع اقتات من جوفي لأغذي أشعاري و لأمنح دما للحياة فينا بعد طول انتظارنا، و ضبابية أصحاب الحال.
و أنا كالطاوي، أتحرك في صمت، حركاتي أمواج، لمساتي إدراك، و روحي طواقة لبعث هذه القوى الكامنة اللامتناهية داخل هذا (المعطل) العاطل لغير المعطل.
أجل، لم أجد في العمق عمقا، فكل ما وجدته شظايا تبريرات منمقة لما نحن فيه من فقر، أصارع سموم الإعلام و الإشهار جاعلا اللحظة / الحالة موضع شك ما دمنا غير واجدين مناعة كافية لهذا التعطيل المنظم. أنفش أيام الراسة الجامعية، أتمرغ فوق الأرض أعثر على حقيقة طينتي. فدعوني أحتفل بأنشودة دمارنا و دمار فلسطين و لبنان، و دمار معنويات هذا الإنسان العاطل غير المعطل. فدعوني / دعونا نحتفل بقلقنا المشروع في كل الفصول، و في كل الأعمار نصارع اللحظة الشاذة بسحر الكلمة الخالدة : لا. لا لهذا الإقصاء. لا لهذا التعطيل.