كان القمرُ لا يزالُ في مهده يحبو هلالاً، والنجومُ ترسلُ ضوءَها كنظراتِ عذارى من وراءِ خدرها، تُقتلُ في مهدِها، أحسستُ أني أريد أن أناجي البعيدَ القريبَ، ذهبتُ إلى خلوتي ومعبدي، أغوصُ في الظلامِ تارةً حين يغيبُ نورُ السماءِ، وتارةً حين أطبقُ جفوني تاركاً للروح ِتسبحُ أو تعبثُ في ملكوتِ خيالها.
شعرتُ بـــــ نسماتٍ ظننتها ضلتْ، فلا مكانَ لها تحت بردِ الشتاءِ، لكن انتبهتُ على زفيرِ حبيبتي، فهي تعرفُ أين تجدني حين تفقدني؟ تسللتْ إلى صومعتي التي أرددُ فيها صلواتِ الفكرِ والوجدانِ، كأنَ قلبَها شعر بما ألمَّ بي، فجاءتْ تُهدئ من روعه.
وبكبرياء الرجلِ قلتُ: من جاء بكِ تقتحمين دارَ خواطري وتغتالين خيالي؟
وأدتْ بسمةً على وجنتيها وكأنها تقولُ أعرفُ أنكَ سعيدٌ بمقدمي. وقالتْ: أيها الشقيُّ لماذا لم تأتِ بزوجتك تناجيها معك؟ قلتُ: ربما أحسستُ بمجيئك فجبنتُ، ثم إنك تكفيني كلَّ نساءِ الأرض. قالتْ: وهذه التي وراءك كم تكفيك؟ وماذا تسميها إذن؟ قلتُ: هي نِصْفكِ فقط.قالتْ: لا أفهمُ... متى قِيلَ بأن الزوجةَ نصفُ العشيقةِ؟ قلتُ :هي ثلثُ زوجةٍ وأنتِ الثلثان.قالتْ: لم أسمعُ من قبلُ بأن رجلاً تزوج بثلثِ زوجةٍ. قلتُ: ألا تقبلُ المرأةُ أن تكون نصفَ وثلثَ وربعَ زوجةٍ؟ قالتْ: بلى، نحن معشر النساء نكونُ أحياناً شركاءُ نقتسمُ الرجلَ حين يكون رجلاً، لكن لا أفهمُ أن رجلاً تزوج ثلثَ زوجةٍ. سألتُها: كيف يتزوجُ الرجلُ؟
أجابتْ: ربما قصةُ عشق.... مسحةُ جمالٍ، نزعةٌ إلى منصبٍ أو مالٍ، صداقةٌ أو تعارفُ أهلٍ، والآنَ أصبح للصحفِ والنتِ نصيبٌ.
قلتُ: ياهذه أنتِ لم تفهمي قصدي، إنما أردتُ ماذا يريدُ الرجلُ من الأنثى وما وسائلُ اختياره؟ قالتْ: الليلة لا أفهمك، دعني أسمعك أفضل. قلتُ :إذا تزوجَ الرجلُ بعينه فهذا ثلثُ زواجٍ. قالتْ :وأين الثلثان الباقيان؟
قلتُ: هما نصيبا العقلِ والقلبِ، ومتى نفضلُ الثلثَ(أقصد راحة العين) يضيعُ الثلثان .
قالتْ: أنت يا هذا تلوي الحقائقَ ما أخدعك! إنْ كان كلامُك صواباً فلا زوجة تزوجتْ ولا رجلٌ، أم أنتَ تريد أن تخترعَ زواجاً للعينِ وآخراً للقلبِ وثالثا للعقل؟ الآن فهمتُ وصيةَ الرسولِ عليه الصلاة والسلام... اللهَ اللهَ في النساء.
قلتُ: يا سيدتي ليستْ العينُ فقط هي التي تحكمُ أيُّ الشيئين أفضل؟ فللعقلِ رؤية وللقلبِ رؤية، وقد اختار ابنُ حنبل عند زواجه العاقلةَ العوراءَ وترك أختها الجميلة، وجلُّ مشاكلنا أن زيجاتنا لا تتعدى أنصافَ الزيجاتِ على أحسن تقدير، فراحةُ العينِ ثلثُ الصوابِ وراحةُ القلبِ والعقلِ الثلثان.
فأومأتْ بخبثٍ قائلة: وأمُّ أولادك أيّاً من الكسورِ نالتْ؟ قلتُ:هي ثلثُ زوجةٍ، قالتْ: وأيُّ ثلثٍ فضلتَ أنتَ؟ قلت: الحمد لله هم اختاروا لي وأحسبُ أني حظيتُ بثلثِ العين وثلثِ العقل وثلثِ القلب، قالت: خادعٌ أنت وزيرُ نساء، فإن كانت زوجتك ثلث زوجة فأين الثلثان الباقيان؟
قلتُ: هما معكِ أنتِ، فأنت لي ثلثا الزوجة، تعجبت! وقالت: بأي منطقٍ تقيس؟ وبأي جورٍ تعدلُ؟ ثلثُ زوجةٍ بعقدٍ ومهر ٍوشهودٍ وثلثا الزوجة دون عقدٍ ودون مهر وشهود؟
قلتُ: يا سيدتي العقدُ هذا تشهده ملائكةُ السماء والأرض، وفي بضعِ كلماتٍ يحلُّ حراماً ويحرمُ حلالاً، لكن لحفظِ النسل والماء واستقرار الحياة، وليضعَ الجسدَ والمادة والتراب في قيودهم لأنهم دوماً لا تحبون القيود، ولا يحتوي في بنوده إلا ما يمكن قياسه ووزنه مادياً، قابل للفسخ إن لم تأتلفْ الروحُ وينسجمُ العقلُ، لكن السماءَ بنا أرحم أو أشد قيوداً حين تمنحنا أولاداً من زيجةٍ لا تنال الرضا، فأكثر الأسرِ لا يقيمُ أودها الا أولادٌ جاءوا برغبةٍ أو بلا رغبة، وحين ينفكُّ رباطُ العقد نعودُ أدراجنا إلى ما فيه من ماديات، ولا نعيرُ اهتماماً الى ما نفقده معنوياً، ولا طبُّ الدنيا يصلحُ ما انكسر من مشاعرنا بل نزيدُ الطينَ بلة. أما زواجى منك حبيبتى فزواجُ أرواح لا تنفصلُ، عقدٌّ بميثاقِ أهل الجنةِ، وتشهده أرواحُ الملائكة ويسعدُّ به الملكوتُ من حولك. يا عزيزتي: فقاطعتني....إنْ كنتُ عزيزتك فبما تنادي أم أولادك؟ قلتُ لها: وقت الرضا يا عزيزتي، ووقت الغضبِ أنادي على ابنها فتفهم. قالتْ: ولماذا تساويتي بها ولستُ بعد زوجتك؟
قلتُ: إنك أنت زوجتي وأكثر، فمن نعمِّ الله علينا أن أطلقَ للقلبِ والروحِ العنانَ، ليتزوجَ القلبُ من يهوى وإن بعد، وتسكنَ الروحُ بالروحِ ولو كانت في أحضانِ القبورِ، كي يعوضَ الإنسانُ بعضَ ما يفقده فيمن يحبُّ ليحيا في جنةِ قلبه وفردوسِ روحه، ويستشعرُ معنى الجنة الأبدية موطن أبينا وملاذنا الآخر إن شاء الله.
قالتْ: هذه دعوةٌ للخيانةِ أنتَ صاحبُها لكن مغلفةٌ بثيابٍ من ظلٍّ.
قلتُ: حبيبتي ... للمادةِ قوانينُ وتبعاتٌ لا نتجاوزها مادمنا أحياء، أما القلبُ والروحُ فلا سلطانَ عليهما، ولا يحاسبُ ربي على خياناتِ الروح والقلبِ لأنهما من نفخته هو، فهما لا يعرفا الإثمَ ولا ينبتا في الأرضِ الفسادَ ما داما يحتفظانِ بعبق النفخة ويتحليان بسلامةِ الفطرة، فهما دوماً يرتقيان بصاحبهما، ويتحسسُ من خلالهما كمالاً ينشده، وأعتقدُ إن لم أكن جازماً أن كلَّ المخلوقاتِ يتزوجون في كل يومٍ وليلة حسب ميل قلوبهم وهدي أرواحهم، فهل معنى ذلك أن نتهمَ الجميعَ بالخيانة؟ ثم هذا الذى يتزوجُ اثنتين هل له سلطانٌ وقدرةٌ على قِسمةِ قلبه إلى أنصافٍ وأرباع وأثلاث؟ قالت: لستُ مقتنعة، كأنك تريدُ أن تحولَ الحياة كلها إلى كلمةٍ واحدة هي الحبُّ، قلتُ: وهل انتظم عقد الكون من حولك إلا بقانونِ الحبِّ؟ فلا تسمعي لأهل العلم فإنهم لا يفهمون، يحشرون عقولَ الناس بقوانينَ ونظرياتٍ ومسمياتٍ ما أنزل الله بها من سلطان، لكنها كلها قوانين للحبِّ في صوره وأشكاله، فكلُّ قانون أو نظرية تجدين فيها (البساطة والجمال وروعة التنسيق وتربط الأشياء الأشد اختلافاً)، أليس هذا هو نفسه معنى الحب؟ هل سمعتم بأن هناك حبّاً لا يتحلى ببساطة دخوله القلب؟ وجماله يظهرُ وينطق ويفضح صاحبه، ويجعله يعيد تنسيقَ ذاته من جديد، وأجملُ قصص الحب هي التي ربطت بين قلبين شديدي الاختلاف، فقانون الجاذبية يصورُ حالاتِ المحبِّ وحبيبه، فليست الأرض تجذبُ الأشياء نحوها، لكن الأرض تعشق أشياءَ فتجذبها نحوها. وقانون النسبية... وأن لكلِّ فعلٍ رد فعل مساوٍ له في المقدار ومضاد له في الاتجاه، هو بعينه شرحٌ مبسطٌ لحالة حبِّ، حين الوصلِ وحين الجفاء، حتى المد والجزر يمثل في حقيقته إقبال الحبيبِ وإدباره، وكلُّ التفاعلات الكيميائية والإنسانية مردودها الحب. يا سيدتى قانونُ الكون واحدٌ وهو قانون(الذى قدر فهدى) اللهُ قدرَ الحبَّ فهدى كل مخلوقٍ ليحبَّ على سجيته، ولا أحسب أن انفراطَ عقد الكون يوم القيامة ما هو إلا تباعد حرفي (الحاء عن الباء). فأسرارُ الحبِّ من أسرار الروح وعالم الغيب، وللمحبِّ سموٌّ ورقىٌّ يحولُ إنسانَ الطينِ إلى إنسان النور، وكأنه يقذف فيه بقبسٍ من قبسات النبوة تظهر في رقةِ قلوب العاشقين، قالتْ: وفي العشق أيضاً تسفلٌ وقبحٌ وانحدارٌ يُظهرُ الإنسانَ الطيني في أقذر الأثواب. قلتُ: ليس هذا في قاموس المحبين ولا ينتمي هؤلاء للعشاق.
قالتْ :سأرفع عليك قضيةَ مجونٍ، فأنت رجلٌ متزوجٌ، سأشهرُ بك فلا تدعي السمو، قد اقترفت جريمةً، تعشقُ من لا ثيابَ لها ولا جسدَ تراه، أنت تعشقُ صورةً في خيالك أوخريطةً وتفضلها على زوجتك، قلتُ: يا حبيبةَ القلبِ ونبضَ الفؤاد أليس الحبُّ هو تعلق النفس بالنفس؟ أليس العشق هو حلول الروح في الروح؟ أليس الحبُّ فلكاً يجذب روْحينا دون قصدٍ وعلى بعاد؟ إن بعدي عنك موتٌ فيه حياة، وبعدكِ عني حياة فيها معنى الموت، قالتْ : لكني عليك مشفقةٌ، أحبابى كُثرٌ، قلتُ: لا بأس وأتمنى زيادتهم..واسألي آل(ياسين)، فبهم( سعيدٌ) قلبى ، (خالدٌ) يشتعلُ، عقلى (ريانٌ)، فكرى (صِيامٌ) عن غيرك، نبضى( زهارٌ) في واحتك.
قالتْ: فأين مهري؟ لعلك لا تعرفه. قلتُ: أعرفه وأشتهيه، أعرف أن مهرك هو إراقةُ دمي على نحرك، تحت نخيلك ليثمرَ، وفوق صفرةِ وجهك كي يخضر، وعلى ثغرك لتعلوه ابتسامة،كي تسكنَ عينك يا غزة عن الدمع، فدمعك ياغزةُ يثمر شهداً.
وأنا حبيبتى غزة، وثلثا زوجتي شهد.