عادة ما تولد الفكرة من توتر الذهن أمام المدهش وغيرالمعتاد . يكسر حدث ما ألفة رتيبة مع وقائع غير متجددة, فيوقد الذهن شعلة تسري في المعاجم : حروف تلتقي وكلمات تحن إلى استوائها على رصيف العبارة. يلتقط المؤلف مسودته ثم يشرع في تحديد معالم كذبته المقبلة. قيل أن الإبداع يتطلب المواجهة ومناداة كل لون باسمه, حتى وإن تأرجح قوس قزح فوق رأسك كحبل يشتهي الرقبة ! لكن مشكلة حُسني أنه من صنف الرخويات, يكره رائحة الدم ولا يطيق الكتابة بشفرة حلاقة. كان في مقتبل خربشاته حين استدعاه "الباشا" ليُحدثه عن افتتانه بالشباب الذين يُعبرون عن انتمائهم بنضج, ولا يتهيبون العصي و البنادق المحشوة ببارود تالف.لم يعلق بذاكرته غير دوي الصفعة الأولى و سيل اللعنات التي اقتلعت أجداده من رحاب الفردوس لتلقي بهم في جحيم دانتي.
إنه اليوم في عنفوان خربشاته ,يتردد بين صالونات الفن متحينا فرصة الإدلاء برأي في لوحة رسام مغمور, أومزهوا بكشف ثغرات في تجربة قصصية لحسناء لم تستجب لنداء الغريزة ! وحده اليوم ناقد يحظى ببهجة الكاميرا وحفاوة الاستقبال. المسكينة أنيتا الغجرية تتابع عن كثب كيف يلقي بها جحوده في عتمة النسيان. أرملة مقامر فر بجلده من جحيم فرانكو ليصرف عمره في تهريب اللوحات الرخيصة و التحف المسروقة من غرف الأميرات. وحَدهما الدم الغجري وما تخثر في النفس من أنين "الكالديراري", تلك الرحلة التي نثرت العارفين بأسرار البرونز في أنحاء القارة العجوز. إنها اليوم تدين له بثراء حرك شهوة الطامعين في البلدة. لكن حسني أدمن طرق الباب حتى ولج ! تذكر إصراره على أن يكون ترياقا لوحشتها,وأبلغ في الحرص على أموالها من صيرفي يهودي. تصدر عن القلب تنهيدة وهي تتطلع لصورة حفل الزفاف. بدت يومها جذلى في ثوب أبيض أحال فارق السن بينهما إلى مزحة. حسني شاب طيب,أجل, لكنه لا يحفل بمن تطأه قدماه في رحلة الصعود إلى المجد. يرتمي في حضنها شاحبا كعود قصب, لكنه سرعان ما يسترد قواه الخائرة ليصفق الباب خلفه..ويرحل.
تتابع كل ليلة خميس مداخلاته على الشاشة.لا يمل من كيل التهم ورشق الجهات الوصية على القطاع. جرأته و انحيازه للمسارات الهشة أكسباه حضورا لافتا في أدبيات الموجة الصاعدة. أب روحي ؟ ربما, لكن حادثة الصفعة لا تزال كامنة في شقوق أحلامه المزعجة.حسني شاب طيب, أجل.. وسيذكر حتما أنها كانت مجاله الرحب للإفصاح عن مخاوفه,أنيتا هي التعويذة التي تشفي روحه المتورمة, وتمسح بيد حانية حبات العرق البارد المكورة على جبينه كلما قفز من سريره مذعورا.
يصر على أنها مجرد صفعة وتذكرة عبور من بدايات الطيش إلى نضج وواقعية تستوعب قواعد اللعبة. لن تمنحك جرأة البوح سوى مقعد خلفي في الذاكرة, فالشعوب هي الشعوب,قد تحمد لك صيحات في الوادي ثم تستسلم لخدر النوم اللذيذ. كف عن ملاحقة خيط أحلامه الواهي لينساب كالحية على بطنها في الردهة الموصلة إلى المجد. لم يكن لذرائعه وقع في نفس أنيتا المصقولة مثل سيف محارب,فللمجد مرقاة واحدة مستقيمة كظل سنديانة ,لا تمنح شرف الصعود إلا لمن خط بمداد الروح صدق انتماء للوجع الإنساني. يضحك حسني حين تحثه على أن يرفع رأسه بين الفينة والأخرى كي لا يألف الانحناء.ربما غاب عن أنيتا وهي تبدد الخوف الرابض في شقوق أحلامه,أن كاتبا من صنف الرخويات لا تأسره احتمالات السمو !