حدث هذا قبل سنة ونيف... كنت أمر من اللحظات الأخيرة في باريس، باريس التي يحلو لي تخيلها كعروس تعيش شيخوختها دون أن تنجب، باريس التي غابت فيها تقاسيم الآلهة، باريس بليلها الذي يأتي باكرا، ونهارها الذي ما إن يبدأ حتى يتبخر مثل شمعة الشعراء، المطار هو الآخر لا يقل أهمية عن هذه المدينة الغريبة، فضاء يتسع للجميع بجنسياتهم المختلفة، وأفكارهم ودياناتهم، الكل يسير وفق نظامها، حتى الأمريكيون الذين يؤمنون بقوتهم وبطولتهم وتفوقهم، يجبرون أنفسهم على احترام خاصياتها، لا يضحكون بصوت مرتفع، وكأنهم يتفادون نظرات الآخرين التي تحولهم إلى أبطال كرنفال في مدينة الأنوار، كنت الوحيد المنكسر هنا، أجلس مناجيا نفسي في إحدى مقاهي المطار، أنظر للساعة بين الفينة والأخرى، أتمنى أن تتوقف عقاربها كي أعيش أكثر مدة في باريس، بقدر ما أسمع نداء الضفة الأخرى، كان كل شيء يبعث على الانكسار بما فيه الانكسار نفسه، فجأة سمعت صوتا عبر مكبر الصوت يقول بلغة رسمية :
ــ نداء إلى المسافرين المتوجهين للدار البيضاء، ستتأخر الطائرة لمدة نصف ساعة بسبب عطل مفاجئ، نجدد اعتذارنا مرة أخرى... شكرا.
من خلال النداء تعرفت على المتوجهين للوطن الأم، سياح شقر بكاميراتهم وأفكارهم ونمط عيشهم، بعض المغاربة القلائل الذين يحبون العودة في فصل الشتاء، وأنا... كنت الوحيد الذي لم أجد لنفسي تصنيفا، شخص تائه بين الهنا والهناك، بجنسية فرنسية وحنين إلى الوطن، معلق بين السماء والأرض في خروج عن قانون الجاذبية، وتائه بين الفضاء الذي لم يستطع أن يلفني ولو لبرهة من الزمن، كما لم يستطع أن يحضنني، كان كل شيء يلبس لونا لم أره من ذي قبل، أو ربما كنت ضريرا وقد شفيت، وهاأنذا اكتشف العالم مرة أخرى، أكتشف العالم بتناقضاته الصارخة، بذكرياته الخجولة منها والشجاعة، وبابتساماته المسروقة أيضا... وكما كان منتظرا بسبب هذا الخبر غير السار، انطلقت همهمات المتوجهين إلى هناك، إلى جنوب المتوسط، الإفرنج يحسبون الدقيقة، والمغاربة يحسون أنهم فقدوا نصف ساعة كان لا بد أن يحيوها تحت سماء أكثر زرقة وصفاء، البعض اعتبر الأمر عاديا، في حين أن آخرين انطلقوا من خلفية متطرفة عندما أرجعوا سبب التأخر إلى تخلف يسكن الشرق ولا يبرحه، مع العلم أنهم كانوا متوجهين إليه للبحث عن سعادة ضائعة، أو فضول كبير للتعرف على أسرار نقلتها لهم كتب ألف ليلة وليلة وطوق الحمامة ونزهة الألباب، وبما أني لم أجد لنفسي تصنيفا قبلئذ، هاأنذا مرة أخرى أٌكرِّس هذه الفرادة البليدة، وذلك عندما أحسستني الوحيد الذي شعر بانتصار الزمن له، كانت هدية جميلة، لأول مرة يقدم لي شخصا هدية قيمتها نصف ساعة...! قالت امرأة تجلس خلفي لصديقتها بلكنة باريسية مصطنعة :
ــ ألم أقل لك بأن العرب قوم لا زالوا يعيشون قبل التاريخ، على الأقل علمناهم ما معنى التحضر، وهاهم اليوم يطالبوننا بتعويض مادي ورمزي لعهد الحماية.
كانت صديقتها تستمع بكل تركيز، وبينما همت بالكلام استدرت نحوهما، حدقت فيهما طويلا ثم عدت إلى شرودي، انتبهتا إلى التقاطي هذا الحكم، لكنهما لم تنتبها إلى منطق المعنى وهو سبب سفرهم إلى تلك البلاد التي قالتا عليها هذا الكلام الجائر. كنت أود أن أقدم لهما درسا في التاريخ، لكنني أردت ألا أشارك الهدية التي قدمها لي الزمن مع أي كان، تناولت سيجارة في محاولة لمشاركتها مع باريس والنصف ساعة المقدمة لي، تأملتها برفق، كانت آخر سيجارة لي في مدينة الأنوار، أغمضت عيني ردحا من الزمن وأنا أدخن بنهم، لم أستطع إلا التيه بعيدا عن هذا الفضاء لكن في ابتعادي هذا اكتشاف أكثر وضوحا من ذي قبل للمكان ولذكرياته، في حين أن رائحة باريس ما تنفك تتفوق على رائحة السيجارة، مرت أمامي كل الوجوه التي بنت صرحها: من هنا مر ديكارت وديدرو وروسو ومونتسكيو وموليير وبودلير، من هنا مر هتلر حيث أبان على عجرفة ألمانية مزدرية باريس، لكن دواخله كانت تقول عكس ذلك... لفظت ما تبقى من دخان السيجارة ثم قلت في نفسي :
ــ ومن هنا مررت أنا أيضا...
كان آخر نفس لي للسيجارة في باريس، نظرت للساعة مرة أخرى، فوجدتها تشير إلى الرابعة إلا ربعا، لم يتبق لي سوى ربع ساعة، حاولت استرجاع كل الذكريات التي قضيتها هنا، أيام الدراسة والتسكع في الحي اللاتيني... عندما حصلت على الجنسية الفرنسية في محاولة لمد الجسور بين الشرق والغرب... عندما عينت أستاذا محاضرا في التاريخ... عندما قررت تركها والعودة للوطن... عندما أهداني الزمن نصف ساعة إضافية كعربون على المحبة، وبينما أنا هائم بين ذكريات الأمس واليوم انتبهت إلى صوت السطندار مرة أخرى :
ــ المسافرون المتوجهون لمطار محمد الخامس، المرجو الالتحاق، ستقلع الطائرة بعد عشر دقائق... سفر سعيد وتقبلوا اعتذارنا مرة أخرى...
في الطائرة ألفيت رقم مقعدي إلى جانب المرأة التي كانت تجلس خلفي قبل قليل، ابتسمت بحس المنتصر لأنها كانت فرصة مواتية لإلقاء آخر درس لي في التاريخ، وكانت هذه هدية أخرى أتلقاها أيضا من مدينة الأنوار، بعدئذ أقلعت الطائرة متوجهة إلى جنوب المتوسط، نظرت للساعة مرة أخرى فوجدتها تشير على الرابعة بتوقيت غرينتش، ومعها ألقيت نظرة أخيرة على باريس، حيث لا زالت بثوب عرسها الأبيض وإن مر عليه حين من الدهر...