لا تجتمع في تفكيره أفكار غيره،سلوك ربما يحاذي الغريزة ،أو يلامس غاياتها ،لم أكن أجرؤ على اقتحام صمته ،لأنني كنت أعي جيدا أنه لن يجيبني ،أو قد يفاجئني بما لا أنتويه .
لم أكن أتصور أن في هذا العالم من لازال يفكر هكذا منفردا بعالمه،لا تؤطره جمعية حقوق الحيوانات،ولا جمعية مختصة في التنمية البشرية ،ولم يمس حركاته أو يغير منها جار و لا قريب .
بخطواته المتثاقلة ،عرفت سر هواه ،وتأملته كمن يتأمل صورة فيلسوف ينتظر من يصدقه،من يقتنع بنظرياته،وبحوثه الغريبة .
قلت :قد تجد من يجعل لها تفسيرا فيما بعد ،أما الآن ،فمنهم من يقول :
هذا الشخص لا يجد ما يفعله ،هرِم ،شاخ ، فوهن العظم منه ،وبدأت التخاريف تملأ حياته،وما تلك الأشياء التي يفعلها ،إلا مظاهر مما يفعله المشيب .
بنكهة التقاليد التي لا تتغير ،التي لا تغادر عالم الأشخاص،يتمسك بارتداء ذلك الجلباب الشتوي .
درجة الحرارة اليوم مفرطة ،الصوف بارد صيفا ،ساخن شتاء ،هذا حديثه عن الصوف المكون لجلبابه،لا يتكلم إلا نادرا،الصمت يكبله في متاهاته الغريبة،هو الآن على موعد مع مصادفة من نوع آخر،مع تفاعل من تفاعلات الأشياء والأحياء فيما بينها .
يحمل كيسا في يده ،يقطع المسافات التي تفصل حي الأغنياء، عن الحي الذي يحيا فيه كباقي كائنات الأرض، التي سخرت للإنسان،لكنها لا تستحق الحياة وهو بينها حسب قول البعض .
بعد نصف ساعة، يصل إلى المكان المعهود ،حيث يفرغ حمولته ، يضع فتات خبز هنا على الأرض،وهناك في ركن حيث يقبع المتسولون لساعات ،وهناك على سور حيث ينزل ذلك الطائر الأسود الجائع الذي يلتهم كل شيء .
بعدما يضع ما بيده، يعود في رحلة الإياب،كأنه يعد آثار خطاه المتجهة عكس خطواته الآنية ،وفي نيته أنه حقق المنشود .
كنت أرى السعادة بادية على محياه ،بما ألحظه من تغييرات طفيفة على ملامحه المتجهمة.
الناظر إليه وهو عائد من غايته اليومية الوحيدة ،كأنه عائد من معركة كتب له فيها النصر المؤزر.
البسطاء أناس اعتلوا عرش الحياة في بساطتهم ،في تفكيرهم ،في اعتناقهم حياة تختفي في حياة عادية، لكنها كانت حياة مِلَلٍ ونِحَلٍ شاردة تتنفس تحت الماء ، في سراديب تأويهم بخصوصياتها ،فتعنون ماهيتهم وتحدد غاياتهم .
وصل إلى الحي الذي يسكنه ،لمحه صغار الحي ،صاحوا وهم يجرون:
سِيدِي خَايْ! سِيدِي خَايْ!.......، تأبط بلْغَته المتآكلة على عجل ، وراح يطاردهم ، يجري هائما على وجهه،وهم يهرولون خوفا وهلعا ،من بطش لا يعرفون حدوده .