ذلك المساء، أخذ دشا باردا، فأحس على إثره بانتعاش رائق أنساه تعب السوق، انتقى ملابسه بعناية، وبعد ارتدائها، رش العطر على قميصه وخلف أذنيه، ثم خرج قاصدا المقهى.
جلس على الكرسي حيث تناول فطوره الأول بسلا، وعلى الكرسي الذي بجواره وجد جريدة مبعثرة الأوراق، وقد مسخت صفحاتها وصارت كورق الخريف الذابلة من كثرة الأيادي التي عبثت بها طوال النهار، أخذها إليه ونظم ورقها بروية ثم شرع بمطالعتها، منتظرا قدوم النادلة.
لو قُدِّرَ آنذاك لأحد أن يجلس قريبا منه، لسمع خفقان قلبه، لم يكن في الأصل يقرأ الجريدة، بل كان محتميا بها ريثما يهدأ روعه.
ترصد حركتها بين الطاولات؛ كانت مشغولة ومفتونة، ولاسيما فاتنة، وكانت المقهى غاصة بالرواد، خاصة في القاعة الداخلية، حيث احتشد الشباب استعدادا لمشاهدة مباراة من البطولة الإسبانية.
بعد مدة، ربما قصيرة، وصلت عنده، فتوقفت عند حدود الطاولة أمامه، مسحتها بخرقتها الصفراء، ثم استقامت، تنتظر طلبه.
ــ قهوة عادية رجاء.
لم يستطع رفع بصره؛ أحس كأنه آثم، أو أن لسانه لن يطاوعه للتحدث إليها فيما كان عازما، كاد أن يهرب لولا أنها جاءته بالقهوة، فوضعت الفنجان على الطاولة، ودفعته نحوه، أما هو فظل مثبتا عينيه في قلب الجريدة، وقد عزم على الفرار بمجرد مغادرتها.
ــ هل من شيء آخر؟
وضع الجريدة جانبا، وقال:
ــ لا، ولكن أريد محادثتك.
وضعت أمامه عشرين درهما وهي تقول:
ــ اقتطعت ثمن هذه القهوة من دفعك المسبق، ثم أضافت:
ــ أما الفطور، فكان صدقة مني.
التفتت مغادرة، لكنه تشبث بيدها وهي مولية:
ــ رجاء، افهميني، رجاء.
ــ أ أتيت بكذبة أخرى؟
ــ لم أكذب في شيء مما قلته، صدقيني.
ضحكت ضحكة مصطنعة وقالت:
ــ أنت من هنا، مشيرة بسبابتها إلى الأرض، وصمتت قليلا ثم أردفت:
ــ لست فاسيا كما ادعيت، لقد رأيتك، رأيتك مرارا. وأنت، يا إلهي! على من تحسب نفسك كاذبا؟ أنت بائع الهواتف المسروقة.
ــ مسروقة! لا، أنا أشتري الهواتف من عند الناس، وأبيعها مجددا.
ــ و من أين يأتي بها أولائك الذين يبيعونك إياها؟ يصنعونها؟ إنهم يسرقونها من جيوب الناس البسطاء ومن حقائب النساء، وأنت تعلم هذا، ويوما ما سيجرونك إلى السجن.
قالت هذا وهي تتنصل من قبضته، ولما أفلتت، ذهبت قاصدة قاعة المقهى الغاصة بالرواد الذين بدت منهم صرخة عارمة أعقبت هدفا سجله أحد الفريقين.
تركته غارقا في أفكاره؛ فتذكر حادثة الشاب الذي نشل الهاتف من جيب ذلك الرجل في السوق، وتعجب كيف أن حب الربح السريع والوفير لم يسمح له بالتدقيق في مثل هذا؟ كان كسب المال أهم هدف رسمه مذ عاد إلى السوق في اليوم الذي تلا حادثة الساعة.
يتذكر جيدا أنه في صباح اليوم التالي كان كالممسوس؛ يبحث عن كل ما يمكن أن يتاجر فيه، ولما رأى رجلا يحمل هاتفا ساومه فيه، وبعد أخذ ورد ابتاعه منه بثمن بخس، واشترى آخر من رجل غيره، فنظفهما ثم وضعهما على صندوق فارغ من ورق الكرتون، وباعهما في يومه، فجنى من كل واحد منهما مائة وخمسين درهما، وهذا المبلغ، وإن كان أقل من سابقه الذي جاء بالصدفة، إلا أنه كان أفضل مما كان يجنيه من عمله مع البنائين في فاس، دون احتساب التعب.
ناداها فلم تستجب، ولما رأى رجلا داخلا إلى القاعة الداخلية للمقهى رجاه أن يدعو النادلة إليه فأخبره الرجل بلطف أنه هو النادل الذي سيعوضها في هذه الساعة، وإن كانت عنده حاجة فسيلبيها له.
ــ أريد سيجارة.
ــ ضحك معتذرا، وقال: طيب إذن ستأتيك هي بها، فإني لم أستلم منها علب السجائر بعد.
ارتاح للفكرة وقد ضمن قدومها، وبعد هنيهة أقبلت عليه، وهي تخرج السيجارة لتقدمها له:
ـ وهذه، ألم تخبرني أنك لا تدخن؟ ألست كذابا؟.
أمسك السيجارة ويدها، فقربها نحوه ثم قال.
ــ وكيف آتي بك لو لم اطلبها؟ فأنت امتنعت عن سماعي. ابتلع ريقه وأضاف: أولا أنا لا أدخن، ثانيا، أريد أن أشرح لك بعضا مما التبس لديك ثم أنصرف.
ــ طيب، أتمم شرب فنجانك سريعا، فسأخرج بعد تقديم الحساب للنادل الذي سيبقى لليل وطريقنا واحد.
ترك يدها، فانقلبت قاصدة ما كانت فيه وهي تعيد السيجارة إلى مكانها، رفع الفنجان نحو شفتيه فرشف منه ثم وضعه وهو يراقب مشيتها، لقد عزم أن يفضي إليها بكل شيء، وفي الطريق وفى بما وعد نفسه؛ أخبرها كل شيء، تقريبا كل شيء، حدثها عن سبب هروبه من المقهى ذلك اليوم، وعن خوفه من الإغراء، وأسبابه الدافعة إلى ذلك.
وجدت هي أن المسالة لا تتجاوز كونه قد تأثر بقول ذلك الطالب، وأن بعض الصدف ربما قد عززت مخاوفه، فاقتنع هو بذلك، نسبيا.
ثم أخبرها عن الأبكم، وقد أقسم لها أنه كان يتحرى عن صاحب الهاتف قبل شرائه، وأنه عازم على ترك الهواتف وكل ما قد تأتي منه المشاكل.
ــ وفيم ستتاجر إذن؟ سألته، فجاء الجواب بديهيا كأنه كان معدا سلفا:
ــ في الأحذية المستعملة.
ــ التي تُسرَق من أبواب المساجد؟
ضحكا على الفكرة النكتة، وأكد لها عكس ذلك بالفعل بعد القول، ففي صباح اليوم التالي تخلى عن الهواتف والساعات التي كانت بحوزته؛ فباعها بثمن القرع كما يقال.
لما بلغا سور الحديقة التي على يمين الحي الصفيحي، توقفا، ولتفادي ضغط الصمت الذي هيمن عليهما، سألها وقد صارت العين في العين:
ــ أين تسكنين؟
ــ هناك، أشارت بأصبعها اتجاه الشارع، ففهم أنها لا تسكن في الحي الفقير.
ــ آه، فهمت الآن، وأنا كنت أعرض سلعتي هنا على الرصيف، مشيرا إلى الرصيف الذي يحد الحي إلى الشارع.
لوت عنقها في دلال كأنها تتوسد كتفها وهي فاترة عن ابتسامة خفيفة، ثم دفعت بأنامل يدها خصلات شعر تدلت من مقدمة رأسها وقالت:
ــ أسكن هناك، مع ثلاث بنات أعرفهن، السكن هنا في هذا الحي لا يليق بالإنسان.
ــ لكني أسكنه، ومن الناس المغلوبين على أمرهم عدد غفير هنا، لو اطلعت على قلوبهم لما رضيت لهم غير الجنة مسكنا.
أحست وكأنه قد انفجر عليها، أو أنه أحس بالإهانة، فحاولت أن تشرح له أنها فتاة، وفي السكن بهذا الحي مجلبة للضر والشبهات، فأكثر اللواتي يقطنَّه من البنات دون أسرهم يتعاطين للدعارة.
ــ اعذريني، أنا لم أدْرِ لهذا أمرا، أصلا أنا ناء بنفسي عن الناس، ولكن هذا الحي، مهما كان بئيسا، فقد قدم لي... كل شيء.
نظر إليها حتى ركز عينيه في عينيها وكرر: كل شيء.
ساد صمت وجفاء بينهما، وكان هدوء الليل كافيا ليسترجع لحظات من ذلك المساء:
في اليوم الأول، حين كان يطرق أبواب البيوت، باحثا عن غرفة للكراء، متحمسا بمدخوله الحاصل من ربح الساعة، ما قوى عزمه على الاستقرار. وقد فكر أن التجارة أنفع من العمل مقابل أجر زهيد، وفهم أن في الإجارة استنزاف للمجهود وقتل لروح الإبداع، لا يزال متذكرا كيف أن تلك المرأة التي قد تغضن جبينها وتقوس ظهرها، قد أدخلته بيتها كأنه ولد من رحمها؛ فاكترت له غرفة، ومدته بملاءة ووسادة، وفي الليل قدمت له صحنا من الأرز بالحليب.
عجوز تسكن وحيدة في حي فقير، وتتعيش من كراء الغرف، يناديها النازلون عندها: أمي، ولا ترد إلا بنعم يا ولدي، أإنسانة هي أم ملاك؟.
انتشلهم من الصمت صوت لهاث، وكان مصدره من خلف السور القصير المسيج للحديقة، فتتبع إدريس الصوت بأذنه وبصره، حتى رأى شبح شاب يستمني في الظلام، فانفجرت النادلة بضحكة أيقظت الشاب الذي تسلل بعيدا إلى أن اختفى في الظلام، فالتفتت نحو إدريس وقالت باسمة:
ـ أ مع هؤلاء تطيب عيشتك؟
عجز عن الكلام استحياء، تذكر أنه لطالما استمنى هو أيضا، والاستمناء ظاهرة طبيعية في السجن؛ فعادي أن ترى شخصا يداعب قضيبه، ثم يتهيج وهو يضيف البصاق فيحتقن الدم بوجهه، ثم ينهار وهو يرتعش لذة.
قد يمارسها أحدهم متخفيا تحت ملاءته، لاسيما حينما تنطفئ الأنوار فتتصاعد التأوهات، أو أمام الجميع، وفي أي مكان وزمان، خاصة في المرحاض، وما المرحاض أصلا؟: ثُقبٌ في أرض الزنزانة عند زاوية قرب الباب، وعليها حائط قصير حد الركبة به صنبور ماء صدئ.
طبعا لم يخبرها بذلك، بل ظل صامتا إلى أن سألته وهي تدفعه نحو كرسي إسمنتي:
ــ أأنت فاسي؟
ــ أنا فاسي باعتبار مكان ميلادي، وحَيَّانِي باعتبار أصل والدتي، فأخوالي من تيسة. أما باعتبار أبي، نظر إليها وقال بصوت خافت ومرتجف: "ربما بيضاوي"،
ــ ولكن، لماذا ربما؟
ــ لأننا لا نعرف أصله، كل ما حكاه لنا، هو أنه كان في خيرية بالدار البيضاء، لا أعرف حتى إن كانت أمه قد وضعته في الخيرية مباشرة، أو إنها ألقته عند باب مسجد، أو فقط عثروا عليه في الشارع، أو مكب النفايات أو...
ولما طاب لهما الجو، فإنه قد حكى لها قليلا عن أحواله مع أخواله، وعن أشياء أخرى، لكن، باقتضاب.
ــ إذن، كنت تعمل بيديك، وتكسب قوتك بعرق جبينك، كيف دخلت السجن؟ أ لأنك كنت تعاشر الطلبة؟ هل تأثرت بأفكارهم؟ هل وجدوا عندك ممنوعات؟
ضحك قليلا، فقد حاصرته بأسئلتها، ثم أجاب وهو ينظر إلى نجوم السماء:
ــ قطفت الورد من حديقة القصر الملكي.
وضعت يدها على خدها متعجبة من جرأته، وانطلق هو يسرد لها القصة كاملة، ولما انتهى من كلامه، أضاف: لقد كانت براءتي واضحة من كل ما حاولوا تلفيقه لي؛ ظنوني منتميا لتنظيم سري، فحسبوا أني كنت ناويا على زرع قنبلة أو ما شابه، هذا طبعا كما سمعت من فم المحقق. هل تدرين لم تمت إدانتي بستة أشهر؟
ولما لم تجبه، قال:
ــ ليس لأني كنت جانيا، ولكن لأني كنت معدوما، إنه الفقر، ما كان معي المال الكافي كي أعين محاميا، والمحامي الذي كلفته المحكمة لم يحرك ساكنا، ثم لأنه لا أهل لي، لكل هذا، ولنحس طالعي، ولغير ذلك مما لا علم لي به، فقد ثبتت علي تهمة تخريب الممتلكات واستهلاك المخدرات.
ــ ما كان على إسماعيل أن يخلي سبيلك وأنت في تلك الحالة! كان يعرف أنك... أهذه هي الصداقة؟!.
ــ كذلك كان، ومن أجل ذلك آليت على نفسي أن أعيش وحيدا، دون صداقات.
ــ ولا أنا؟ قالتها وضحكت.
ــ لا، أنت شأن آخر، أصلا أنا لست واثقا من نوع العلاقة التي بيننا، ثم أردف وهو يضحك:
ــ أنت، إني أرى فيك أمي.
ضربته على قفاه وهي تقول هازئة:
ــ جدتك، ولست أمك، أأنا في عمر أمك؟ هل أبدو كبيرة في السن؟ إنما هي آثار الزمن، لو كان الوقت كافيا لتسمع عني، لعذرت،
تحاملت متململة لتقوم من مجلسهما ذاك، لكنه استبطأها، فقد أغراه وشَوَّقه أن يسمع قصتها، فأقنعها بأن تبقى قليلا، وأن تحكي كثيرا؛ فالحر قائظ والشارع خالي، والناس لاهون في مشاهدة المباراة، ولا من ينتظر قدومها...
ضحكت هي من كل ما تعلل به، ووجدت في نفسها رغبة لسرد حكايتها، لكنها كما أخبرته حارت من أين تبدأ، ولأنه كان متشوقا لمعرفة المزيد عنها، فقد تعمد الصمت، دافعا إياها أن تبدأ من حيث شاءت.
تلعثمت قليلا، وسألته:
كم يبدو عمري من خلال ملامحي؟
ــ دقق النظر إليها مليا، وتتبع تفاصيل وجهها على ضوء القمر والنور المنبعث من مصباح بعيد، ثم قال:
ــ أظنك في الخامسة والعشرين.
فترت عن بسمة وقالت وهي تمده ببطاقة هويتها التي استخرجتها من صدرها:
ــ ماذا عن هذه؟
نظر إلى البطاقة، قلبها جهة الصورة، ثم قدمها لها:
ــ إني لا أجيد القراءة.
ــ كيف؟ والجريدة؟
ــ تلك التي كنت؟... في المقهى قبل قليل؟ ثم بابتسامة شيطانية:
"لقد كنت أخفي فيها ارتباكي".
ــ مني أنا؟ إنه لرائع أن أرى رجلا يرتبك لما يراني.
ــ لقد خجلت من نفسي، تذكرين تصرفي السيئ الذي قابلت به إحسانك؟.
ثم حاول جاهدا أن يشرح لها السبب الذي حفظته عليه من كثرة ما كرره تلك الليلة على مسامعها، وأقنعته أنها لم تفعل ذلك إلا لأنها رأت فيه صورة الأخ، أو الإنسان المحترِم، وربما المحروم، فمن السهل على المحرومين التعرف على بعضهم، ثم لأنه لم يكذب لما أخبرها أنه خارج لتوه من السجن، ولاسيما أنه لم يسئ معاملتها؛ ذلك أن أغلب من يأتي المقهى لا بد أن يسمعها كلمات غزل خشبية، حفظتها هي الأخرى من كثرة التكرار.
لم يشأ إدريس أن يفوته سماع حكايتها، فردها إلى الموضوع بسؤاله:
ــ من أين أنت في الأصل؟
أعادها السؤال لما كانت فيه، فقالت:
ـ أنا من منطقة قريبة من هنا، تدعى السهول، ومن سوء الصدف أو حسنها، فإن لأبي أيضا حكاية أقرب إلى قصة أبيك، إلا أنه ليس من الخيرية.
لاحظت أنه قد نكس رأسه، فأمسكت بيده وهي تقول:
ــ "لم أقصد إهانتك، صدقني رجاء"، ولما رأت دمعة تسيل على خده توقفت عن الكلام نهائيا، فأقسم لها أنه لم يبك تأثرا بحاله، ولكنه بكى من الصدفة التي جمعتهما، فقد كان يظن أنه الوحيد الذي يعاني بسبب أصله وماضيه الذي لا يد له فيه، ولكن بداية كلامها أنبأته أن لها ماض مظلم وتعيس.
أصر عليها أن تتابع، راجيا، وراغبا، ومستعطفا، وممسكا بيدها...ولوهلة وجدا أنفسهما قد توحدا بقبلة ودمعتين.
ــ لقد كانوا يدعونه الدكالي، جاء إلى السهول فلاحا بئيسا، ومات كما جاء، كنت حين وفاته في الخامسة عشر من عمري، وكنت قد نجحت حينها في سلك الإعدادي، وانتقلت إلى الثانوية البعيدة قليلا عن الدار.
زفرت من أعماقها، فاحتضنها بذراعيه قليلا، ثم تركها لتتم ما بدأته، فمسحت دمعة ساخنة نزلت من عينها، وتابعت حكيها؛ فكانت تتكلم وهي هادئة، وكان هو ساهما في مأساتها، ثم سألته على حين غفلة:
ـ هل تعرف ما هو "التفريق"؟
فاته في سهوه كثير مما كانت تقول، فوجد نفسه يجيب نافيا.
ـ إنه طقس جنائزي؛ فبعد وفاة الوالد ـ رحمه الله ـ كنا نذبح كل ليلة نعجة لتتلقفها البطون عشاء، وقد اضطررنا إلى بيع كبش لنوفر السميد والزيت وغير ذلك من اللوازم، وبعد انقضاء الليلة الثالثة، كما في كل جنازة، يأتي يوم التفريق، وهو اليوم الرابع؛ فخرجنا إلى القبر وقت الضحى وقد أخذنا معنا التمر والماء.
بللنا تربة القبر بالماء، ثم فرقنا التمر على من حضر، وقرأ خال أمي آيات قرآنية على قبر الوالد وهو يحتضنني. لم أبك عند قبره كأمي، صدقني، والله، والحق أني صدمت بوفاة الوالد فلم أبك على وفقده فلم تجد عيني بقطرة واحدة، ولكم كنت في أمس الحاجة إليها، لقد مرضت بعد يوم التفريق أسبوعا كاملا.
في الليلة الأخيرة لمرضي، وبينما كانت الحمى تقلبني على الفراش، فطنت بين اليقظة والغفلة إلى أن خالي لأمي، وهو فقيه، كان يتلو سورة " والسماء والطارق" على رأسي، ففهمت أني على فراش الموت.
ــ لماذا؟
ــ سبق لي أن قرأت في أحد كتبه أن من أسرار تلك السورة الكريمة أنها تخفف وطأة الموت على المحتضر. ضحكت قليلا، وأردفت:
ــ "عمر الكلب!"
وقابلها هو بضحكة خاملة، وضمة حارة على مستوى الكتف.
التفتت إليه لتتأكد أنه مصغ إليها، فقد شعرت براحة غريبة لما فرّغت عليه حملها، وبهذا أخبرته، ثم أضاءت هاتفها معلنة أنها لا تفصلهم إلا نصف ساعة من الزمن حتى ينتهي وقت المباراة، فتخرج الجماهير كالجراد من المقاهي، وهي تعرف طبائع شباب هذا الحي؛ إن انهزم فريقهم المفضل فإنهم سيعيثون فسادا، وكذلك إن فاز.
فهم مرادها، لكنه ألح عليها أن تتابع قليلا، فقد زاد شوقه لسماع القصة، ذلك أنه ربما كان يرى نفسه في كل معاناة.
ولأنها انهزمت أمام إصراره، فقد روت له كيف تدهورت أحوالهم بعد وفاة الوالد، وأنه قد خطبها رجل مسن فرفضته، وخوفا عليها من الأذى انتقلت مع أمها إلى سلا، فسكنوا أولا بقرية أولاد موسى.
اشتغلت أمها في غسل الأواني بإحدى المقاهي، وفي أوقات فراغها، كانت تشتغل في بعض البيوت، إلى أن تعبت، فتخصصت في خدمة بيت عائلة راقية بالرباط، ثم إنها صارت تشكو من صدرها في أيامها الأخيرة، ولاسيما جذر ثديها، لكن ظروف العمل وقلة ذات اليد فرضت عليها الصبر والتداوي بالأعشاب، إلى أن اشتد بها المرض فزارت الطبيب.
وما هي إلا زيارة، فصورة بالأشعة، ثم بالرنين، لتعرف أنها مصابة بالداء الخبيث. التفتت إليه وهي تقول:
ــ "لقد قتلها السرطان" وأجهشت بالبكاء.
احتضنها بين دراعيه، فأسلمت رأسها على كتفه وهي تجهش، ولما أحس بدموعها الباردة تنفذ عبر القميص قام من مكانه وأخرج من جيبه منديلا، ثم جرها من يدها لتنهض من على الكرسي، كل هذا وهو يمسح أسفل عينيها، ثم ترك المنديل في يدها لتكمل المهمة.
سارا في الشارع ببطء، فكان الصمت هو سيد الموقف. لقد فهم أن هذا الوضع الذي آلت إليه هو ما دفعها لتعمل كنادلة، وأما هي فقد كتمت أشياء لا يصح ذكرها؛ رأت أنه ليس من الواجب أن تخبره عن ظروف عملها، أو كيف كانت تجربتها الأولى.
ــ آسف.
ــ بل شكرا لك، فقد كنت في أمس الحاجة لهذه الدموع؛ هل تعرف؟ أن تبكي أمام شخص غريب، أن يحتضنك من لم تلتق به إلا مرة واحدة فتحس كأن الكون كله قد احتضنك بدفئه، صدقني، أنا لم أبك على ماضيَّ، فالماضي لا يستحق البكاء ولا الندم، ثم أردفت وهي تتلعثم:
فقط، ربما، لست متأكدة، أحسست كما لو أنه قد فاض من عيني الحنين إلى أشياء غامضة، لقد كنت غيمة جامدة، وأنت، أنت الذي أنصت إلي، باهتمام، ذلك الاهتمام والإنصات الذي حرمت منه منذ وفاة المرحومة، اهتمامك بقصتي وحياتي الغائبة عن الحضور في ساعة اللقاء، هذا هو الذي فجر هذا الحنين، وأنا ممتنة لك، فقد تخففت من حمل ظل جاثما حيث لم أك أدري.
كانا قد بلغا حدود سكة قطار الشوارع عند مفترق الطرق السفلي، وصار لزاما عليهما أن يعودا، فقد تركا مسكن كل منهما خلف، والمنطقة غير آمنة، خاصة تحت جنح الظلام.
اتفقا على أن يرافقها كل ليلة بعد انقضاء عمل يومها، على أن يحكي كل منهما للآخر ما تيسر، طبعا هي لم تحك له كل شيء، لكنهما تعرفا على اسم كل منهما وتبادلا رقم الهاتف وقبلات.
دق عليه أحمد الباب، فوجده منهمكا في غسل الأحذية البالية التي اشتراها أمس، أو ملء ما جف منها بأوراق الجرائد، والعرق ينز من جبينه.
ذلك أنه خلال عودة بعض المهاجرين المغاربة المقيمين بأوروبا، فإنهم يجلبون معهم سلعا، والتي تتضمن ـ في الغالب ـ متلاشيات وأحذية، فيتصيدهم الباعة في السوق ليشتروا كل ما عندهم، أو أقلها انتقاء الجيد منها، وحصل أن اشترى إدريس في حين غفلة من الباعة سلعة جيدة من مهاجر، وبثمن بخس. وبعد غسلها وتجفيفها كان يملؤها بأوراق الجرائد حتى تأخذ شكل الرجل في الحذاء فيستقيم بذلك ما كان معوجا منها. أما الجرائد فقد كانت تضمنها فاطمة مجانا، حيث كانت تجمع له كل ليلة جرائد اليوم الرائجة في المقهى.
ولهذه الجرائد وقع كبير في حياة إدريس؛ فأكثر من دورها في حشو الأحذية، قد علمته القراءة، وعرفته على أحمد، هذا الذي دخل بعد أن استأذن رغم أن الباب كان مشرعا، ولعلمك عزيزي القارئ، فأحمد أيضا من النازلين عند مي طامو.
حين يعرض إدريس سلعته في السوق نهارا، فإنه يضع فردات الأحذية على بساط مشمع أبيض، ويترك زوج كل منها في العلبة الكارتونية قرب الكرسي الذي يجلس عليه، ولتجنب تبادل الحديث أو النظر إلى الباعة جواره أو أمامه، كان يخبئ وجهه في الجريدة اتقاء وترفعا، ولأنه كان قد تعلم هجاء الحروف وتدوينها في السجن، فإنه قد بدأ في ضم الحروف إلى بعضها أولا، ثم مع مرور وقت قصير، أتقن قراءة الكلمات دون صعوبة، وما هي إلا أيام معدودات حتى كان يفهم المقال من قراءة واحدة، فأدمن القراءة.
وهو اليوم يقرأ الكتب إلى جانب الجرائد، وليس له صديق في السوق إلا أحمد، بائع الكتب القديمة، وهذا الأخير من محبي القراءة أيضا، ومن أجل ذلك فإنه قد تخصص في تجارة الكتب القديمة. ولما اطمأن إلى أن إدريس لا يخالط الآخرين، فقد تقرب منه.
دخل الكتبي فوجد إدريس غارقا في عمله، والعرق يتصبب من جبينه رغم جو الخريف، ولكنه، مع ذلك، كان سعيدا، للغاية، فجلس على طرف اللحاف ثم بادر بالقول:
ــ أراك منهكا في العمل،
التفت إليه من فوق كرسيه القصير، ثم مسح جبينه بظهر كفه ورد باسما:
ــ كيف كان أدائي؟ لقد اختطفت السلعة من بين فكوك القردة، إنها رائعة، لاحظ معي، لا اعوجاج مؤثر، ولا تمزيق أو غيره من العيوب، بعضها يحتاج قليلا من السائل المنظف، والبعض لا يحتاج إلا تقويما بسيطا بواسطة أوراق الجريدة التي تعمل كالقالب.
ــ إنك محسود، سمعتهم يتحدثون عنك، هل تعلم ما كانوا يقولون؟
"إن هذا الغريب يضيق علينا رزقنا" يعتبرون أنهم وحدهم أبناء هذا البلد، وأنهم أحق بما أخذت، يحلمون. التفت نحو إدريس فلاحظ منه فتورا وعدم اهتمام، ثم أضاف،
ــ لم تدعوك مي طامو بالفاسي؟ أ لأنك من فاس؟ لا بد أنك أنت من أخبرها بذلك، حقا إنها كثير التساؤل، ثم، ها إنك بطبيعتك الغامضة قد جعلتني مثلها.
التفت نحو إدريس ثانية، في زاوية نظر أقرب إلى المقابلة، منتظرا منه جوابا، ولما أبطأ عليه في الرد سأله إن كان مشغولا، فأجابه بسؤال خارج الموضوع.
ــ هل أحببت يوما يا أخي أحمد؟
ما إن سمع أحمد السؤال حتى قام من مكانه خارجا لولا أن إدريس قد ترك الحذاء الرياضي الذي كان يفركه بالفرشاة، وتشبث به بكلتي يديه، تماما كما يتشبث الطفل بجلباب أبيه. رجاه وحزره، وأقسم بأغلظ الأيمان أنه لم يقصد ما قد فهمه منه، مهما كان.
وبعد قرابة الخمس دقائق من الشرح تمكن من إعادته إلى مكانه هادئا.
ولما كان قد شارف على الانتهاء من عمله ذاك، فقد التمس من أحمد أن يعد الشاي بينما يجمع هو سلعته ويوضبها في الصندوق الكارتوني، وسأله إن كان يدرك سر وضعه الأحذية في الكرتون القوي بدل الكيس أو غيره، ثم أجاب بسرعة وهو يكشف له السر المهني:
انظر، إن الحذاء مهما كان نقيا، إن وضعته في كيس فإنه سيحتك ببعض، وينتج عن التزاحم طي واعوجاج، في حين أن هذه الصناديق تسمح للأحذية بأن تبقى على هيأتها.
وبعد أن عبر أحمد عن إعجابه بمهارات إدريس، وضع الكؤوس والإبريق على الصينية الصغيرة، وشرع يصب الشاي في الكؤوس ويعيدها إلى الإبريق إلى أن تشكلت رغوة عالية، تماما كما يفعل أهل الصحراء.
لما انتهى إدريس مما كان فيه، وجلس إلى جانب صديقه، كانت الساعة حينها تشير إلى الثالثة بعد الزوال، وأخبره أنه انشغل بالسلعة منذ عودته من السوق فلم يتغذى، ولذلك فإنه سيخرج ليجلب خبزا وبيضا، أو جبنا، أو ما إلى ذلك، لكن أحمد أصر على أن يأتيه بنصف ما تبقى له من الطاجين، الذي أكل نصفه في وقت الغذاء، على أن يمتنع عن الأكل ليلا، وأحمد في الغالب يكتفي بطبخة واحدة، يقسمها بين وجبتي النهار والليل، كما أنه لا يتناول في فطوره غير كأس شاي وسيجارة، ولا يأخذهما إلا إن يصل إلى السوق ويفرش كتبه.
أما الشاي فإنه من المدمنين عليه؛ يشربه في البيت وفي السوق، فلا تراه إلا وكأس الشاي معه، ما جعله ضعيف العود، هزيل البنية.
قبِل إدريس عرضه مرغما؛ إذ ما إن أنهى أحمد كلامه، ذلك حتى قام خارجا، ثم عاد بطبقه سريعا، فوضعه أمام إدريس وغادر متعللا بدخول المرحاض.
أكل إدريس من الطاجين، وشرب الشاي، ثم أخذ دشا، ولما انتهى من ارتداء ثيابه وهمَّ بالخروج كان صوت آذان العصر يتردد في الأرجاء.
مرَّ في طريقه بغرفة صديقه أحمد، وهي أضيق قليلا من البيت الذي يسكنه؛ ليس في سقفها إلا صفيحتي قصدير، وحائطها هو الآخر قصير نسبيا، ولما وقف بالباب، بدا له أحمد من جلسته كأنه ضائع في بحر من الهم.
أقبل عليه مستفسرا عما همه وغمه، وقد تجرأ على ذلك رغم إدراكه صعوبة مزاج صديقه، خاصة حين يقتحم شخص ما خصوصياته، أو لحظات سكينته، لكنه كان في رده غير أحمد الذي عرفه، إذ رفع رأسه وقال بهدوء:
ــ أحتاج خمسمائة درهم، وفي الحقيقة، كنت قاصدا إياك في شأنها، لكنني وجدتك وقد اشتريت السلعة، فلم أسألك، حتى لا أدفعك إلى ردي خائبا، ولا إلى خنقك.
ثم أردف وهو يخط بسبابته على الحصير ساهما:
ــ لا بأس، لا تحمل هما، لست في أمس الحاجة إليها، فقط، لا بأس، يعني، كل ما في الأمر، طيب، هناك رجل، سمِّه صديقي إن شئت، أخبرني أن شخصا ما، ربما لا تعرفه أنت؛ إنه يبيع المتلاشيات هناك، في الرحبة التي تشرف على أبي رقراق، والتي تسميها أنت هاوية الجحيم، وأنه كما بلغني، قد ساعد شخصا مهما، يدعى الدكتور، ساعده في تنظيف مرآب له، وقد عثر فيه على كمية مهمة من الكتب، وهي في حالة جيدة.
وقد قيل لي: بأن ذلك الدكتور ما كان يشتري الكتب لقراءتها، بل فقط كان يقتنيها للوجاهة، وأنا أريد الوصول إليها، إذ لا بد أنها في حالة حسنة، أقلها أفضل مما يروج في... ثم بامتعاض: سوق الكلب هذا.
ــ حسن، لا بأس، نخرج أخي أحمد؟
ــ نعم، فلنفعل، لقد وجدتني في أمس الحاجة للخروج من هذه الزنزانة، ولكن، أين نقصد؟
ــ إلى الرباط، ألا نستحق نزهة في الشوارع المبلطة؟ أم إنها حكر على أصحاب الياقات والمترفين؟ لطالما اختنقنا في هذا الصفيح؛ من السوق إلى الدار إلى السوق، أو في أحسن الأحوال إلى المقهى.
ــ فليكن وصولنا إليها عبر المراكب التقليدية إذن، نعبرها على طريقة القدامى، فقد قرأت في كتاب الموريسكي أن سلا سبقت الرباط في الوجود، وفي كتاب آخر أن العدوتين كانتا تتصلان بالعبارات والمراكب.
وذلك ما حصل،
لم ينس في الطريق أن يهاتف فاطمة، ويخبرها شارحا ومفسرا بأنه ربما لن يلتقيا ليلا، وهي بدورها تفهمت الأمر ببساطة.
في الطريق إلى حافة الوادي، تحدثا بشأن الكتب والقراءة؛ فاعترف له إدريس بفضله عليه، وأنه حمد لله معرفته، وما كان ليصدقه أحمد إلا لما أقسم له أنه تعلم القراءة من مطالعة الجرائد، وأن الأمر لم يتطلب منه أزيد من أسبوعين.
أبدى عجبه أولا، ثم أثنى عليه ذلك وهو يؤكد أن ذلك ما كان ليحصل لولا خفة بديهته، وأن قضاء الوقت الفارغ في مطالعة الكتب أفضل من قتله فيما لا فائدة منه، وأخبره هو الآخر أنه لم يتقرب منه إلا لما عرف خلوه من أي علاقة مع أولائك الضائعين في جحيم السوق، فلا يتقنون شيئا، سوى السرقة والنشل والنصب والاحتيال وتعاطي المخدرات والمسكرات، والدعارة. ثم اتجه إليه بالسؤال:
ــ وأنت يا إدريس أين تقصد؟
لم يفهم مرمى السؤال في البداية فظل صامتا، لكنه ما إن علم أن أحمد الوقور يريد منه تعيين دار الدعارة التي يتردد إليها حتى انتابته موجة من الضحك لفتت انتباه المارة، ثم حاول وهو يكبح ضحكته أن يفهمه أنه لم يتوقع منه مثل ذاك السؤال، وأنه لا يعرف ولا واحدة منها، ثم أضاف:
ــ ربما أنا واقع في الحب.
التفت أحمد مستغربا، ثم قال وكأنه لم يسمعه:
ــ الليلة، سوف آخذك معي إلى حيث تضيع دراهمي، ثم غمغم بكلمات غير مسموعة، لكن الواضح من ملامحه أنه كان جذلا.
بعد مضي لحظات من الصمت والترقب، قال إدريس:
ــ هل تعلم يا أحمد؟ لقد جعلتني أتشوق لهبوط الليل.
وضحكا عاليا.
دار بينهما حديث لذيذ أنساهما طول الطريق الذي قطعاه مشيا على الأقدام، ولما بلغا مصب النهر ركبا مركبا صغيرا.
اتخذا مكانهما في المركب إلى جانب ثلاث شابات، كان واضحا أنهن زائرات جديدات للمدينة، ذلك أنهن كن منشغلات بالتقاط الصور، الأمر الذي أزعج أحمد، ما اضطره إلى خفض مقدمة قبعته حتى غطت وجهه.
مساء، في ساعات الأصيل الأخيرة، خاصة قبيل المغرب، يخلق التقاء نهر أبي رقراق ببحر الظلمات مشهدا تعجز اللغة عن وصفه، فتتجمع طيور النورس لتشكل في طيرانها ما يشبه رقصة الوداع، كأنها تودع الشمس، ولكن الشمس المتيقنة بعودتها تلوح للطيور من الأفق الغربي وقد احمرت وجنتاها استحياء وخجلا، ولو كان لها الخيار لما فارقت سماء النوارس.
عدَّل أحمد قبعته لما كانوا نازلين من المركب جميعا، ثم قصدا الطريق عبر الكورنيش المحاذي للنهر والبحر، كانت المقاهي التي لا يدخلها إلا سمين الجيب متناثرة عبر مياه النهر، فترى المحظوظين منغرزين في مقاعدها، وهم يرشفون مشروبات ربما لا يعرفها هو، ولأنه لا يعرف إلا عصير بعض الفواكه والصودا والقهوة السوداء، فقد انشغل عنها بروعة العمران وضخامة البنية التحتية.
وما هي إلا دقائق حتى كانا قبالة باب الرحبة، فبادر هو بدعوة صديقه إلى زيارة المكان، وقبل أن يصعدا الدرجات، أخبر إدريسُ صديقَه أنهما قادمان لأخذ الكتب، وأن معه مالا كافيا وأكثر.
تمَنَّعَ أحمد في البداية، لكنه استسلم لإصرار صديقه الذي كان قد أخرج المبلغ المتفق عليه من جيبه، ودسه في جيب صدرية أحمد، ثم تحركا صعودا في الدرب الضيق.
كان بعض الباعة في وضع يخطئ من يصفه بالمزري؛ ملابس رثة، ووجوه محقها القهر والفقر، هي شفاه تدلت، وعيون ذبلت، وأجساد بريت...
أول واحد ممن بدا لهم بعد الالتفاف في الدرجات الأخيرة، كان شابا مكدد الوجه، يجلس خلف بساط نُشِرت فوقه بعض الأسمال، لمح بين يديه كيسا بلاستيكيا كان ينفخ فيه بين الفينة والأخرى، وبداخل الكيس قد وضعت مادة هلامية تستعمل كلاصق لإصلاح ما في إطار العجلات المطاطية من ثقوب.
اكتفى إدريس بالمراقبة من بعيد، وبين الفينة والأخرى كان يغض من بصره حتى لا يثير انتباه ذلك الشاب الضائع أو غيره، بدا من ملامحه أنه لا يتجاوز الثلاثين من عمره لكنه كان فاقدا لبعض أسنانه، وبعدما تجاوزاه، التفت نحو صديقه، فوجده يلهث وهو يجد في المشي، وقد اكتسى وجهه وضاءة، وبرزت سمات المسرة على ملامحه.
في المكان الذي تتسع فيه الساحة، تقف دكاكين سوداء، ضيقة، بعضها يعرض مأكولات شعبية أغلبها قطاني وسمك مقلي، وبعضها الآخر تتكدس فيه سلع لا يمكن فرزها، وعلى الأطراف انتشر أصحاب البسط، وباعة السجائر.
في الساحة أيضا بنات وأولاد، كبارا كانوا وصغارا، من مختلف الأعمار، ربما يظن البعض أن أسرا بكاملها تعيش في تلك الساحة، وفيها تتناسل.
اقتربت من إدريس فتاة مراهقة، ملابسها متسخة، وشعرها لم ير المشط منذ مدة، كانت تحك أنفها بينما تقول أشياء لا معنى لها، فصرفها أحمد ناهرا إياها، فانصرفت وهي تغني أو تسب، لم يكن واضحا منها لا الكلام ولا الملامح.
قصد أحمدُ أحدَهم، فلزم إدريس مكانه إلى جانب بسطة وُضِعت فيها أجهزة معطلة، وقد سمح له موقعه ذاك من رؤية الكثير؛ وكانت دهشته كبيرة لما رأى في ذلك السوق، رغم بؤسه، تجارة رائجة، ربما أفضل من سوق ساعة، حيث يسوِّق هو سلعته، وقد حدثته نفسه بتجريبه يوما ما.
دارت بين أحمد وذلك الشخص كلمات قليلة وإشارات كثيرة، وبعدها سمع الرجلَ ينادي من باب دار كانت خلفه على شخص يدعى "الطيب".
تراجع أحمد خطوات إلى أن حاذى إدريس، فوقف إلى جانبه، رجلا لرجل، طبعا لولا أن أحمد أقصر قامة، وظهره أميل إلى الانحناء.
ــ إنه هنا، سينزل، وأرجو ألا يكون مخمورا.
ــ إن كان ثملا، فأظنه سيكون كريما، سل صاحب التجربة.
ألقى كلامه هذا كالنكتة وضحك، فرد عليه احمد بابتسامة رزينة، ثم قال:
ـ إلا هذا الخبيث، فإن المال عنده أهم من أهله، وقد بلغني عنه أنه باع شرف زوجته، نعم، كان يقدم زوجته ويأخذ الأجرة، صدقني.
أظهر إدريس امتعاضه من الأمر، ما شجع أحمد فأضاف:
ــ لقد كان سائق تاكسي، وحدث أن ركب معه واحد من أصحاب العمائم، من أولائك الخليجيين ناشري الفساد، أخزاهم الله، لقد كان من زبنائه، وما إن يأتي إلى المغرب حتى يهاتفه ليكون سائقه الخاص، وفي يوم من الأيام...
خرج رجل أسمر من الدار، فعرفه أحمد وقطع الكلام، ثم اتجه صوبه وهو يقول لإدريس:
ــ إن للحديث بقية.
راقب صديقه وهو يصافح الرجل، ثم وهما يتبادلان حديثا قصيرا وخافثا، لم يسمح له موقعه من سماع ما دار بينهما، لكنه تحرك قُدُما نحوهما لما التفت أحمد إليه، وكأنه يناديه ليلحق بهما، فاتجهوا جميعا نحو باب الدار، وصعدوا سلالم ضيقة تكاد لا تتسع لأكتاف شخص واحد.
عند الالتفاف الأول من السلالم وجدوا بابا خشبيا مشرعا، فدعاهما للدخول بصوت مُحَشْرَجٍ، خرج من حلق جرحته كثرة المخدرات والكحول.
يتكون البيت من غرفة مغلقة، وصالة صغيرة، ومطبخ مكشوف على الصالون، ومرحاض لا بد أنه ضيق.
كان في الصالة صندوقان كرتونيان كبيران، فتحهما الرجل على مهل، فانحنى أحمد إلى واحد منهما وشرع يُخرج الكتب ويشمها. ضحك منه الرجل وهو يقول: هل ستأكلها؟ فأجابه بنبرة حادة أن "لا"، ثم عقَّب:
ـ ولكني أشم في الكتب رائحة نتنة نتجت عن الرطوبة، ورطوبة البحر تؤثر على الأوراق، فحتى لو لم تصفر أوراق هذه الكتب، فلا بد أنها ستتأذى بمجرد خروجها إلى الشمس.
قال هذا بلسان حادٍّ مما جعل إدريس يعتقد أنه سيتخلى عن الصفقة نهائيا. تغيرت ملامح الطيب، واكتسى كلامه نبرة طريفة، وأظهر منذ البداية أنه مستعد لخفض الثمن، ففهم إدريس أن المسالة تدخل ضمن تقنيات التفاوض التي يتبعها صديقه، لذلك ترك الأمور تجري كما شاء لها صاحب الحرفة.
راح يجول ببصره في البيت، فلفتت انتباهه لوحة موضوعة على الأرض؛ لقد كانت متسخة، فقصدها ومسحها بمنديل كان في جيبه، ثم تحسس اللوحة بأصابعه فوجد أنها من كتان مطلي بصباغة زيتية؛ تتوسط اللوحة امرأة، وهي تحمل قربة تبدو فارغة، وقد تدلى الثوب من أعلى رأسها، لكنه يكشف عن ثديها؛ يتوسط المقطع الجانبي للمرأة اللوحة من أعلاها إلى أدناها، وأمامها في زاوية اللوحة شمس كأنها تصارع السحاب حتى لا يغطيها، أما خلف المرأة، عند حدود ركبتها، فيبدو جمع غفير كأنه يتبعها على أرض صفراء قاحلة، لا يصل إلى أغلبهم من الشمس إلا ظل القربة ويد المرأة وتفاصيل وجهها وظلال السحب، كانت كأنها عملاق حاف القدمين يجر شعبا من الأقزام بحثا عن الماء، وكلهم منهك في السير بكد، تبدو وجوه أغلبهم مسودة لا ملامح لها ولا تفارق الأرض، وقلة قليلة منهم يتطلعون إلى الشمس فينعكس ضوؤها على وجوههم.
ــ هي للبيع، إن أعجبتك، رسمها فرنسي كان يعيش هنا، ولما توفي أفرغت السلطات البيت، ولكنهم تركوا هذه اللوحة، ربما كان يهوديا؛ اقرأ أسفل الصورة، إن تلك الحروف العبرية تعني "التيه".
انتبه إدريس فوجد أن الرجل كان يخاطبه هو، فشعر كأنه قد أمضى وقتا طويلا وهو يتأمل الصورة، رفعها فوق ليصل الضوء أسفلها، فبرزت حروف ملتوية تحت قدمي المرأة الحافيتين.
لم يستطع الرد، إذ تملكت الصورة كيانه من حيث لا يدري، فتسمر واقفا، وهنا تدخل أحمد لما رأى الذهول في وجه صديقه، ولأنه بارع في عمله، فقد أخذ الصورة دون أن يدفعا ولو درهما واحدا؛ على أن يتم احتسابها واحدة من الكتب.
تركا كل شيء عند واحد من الباعة في الساحة، وهو من معارف أحمد؛ على أن معرفتهما كانت على المستوى التجاري فقط، وكانت بينهما ثقة كبيرة وتعاون منقطع النظير:
فصديقه هذا، وهو رجل طاعن في السن، يتاجر في آنية النحاس القديمة وكل ما هو قديم، وغالبا ما يتعامل مع أصحاب البازارات والمتاحف، فلا يتكل على رواد الساحة إلا لجمع سلعته، وهكذا، فإن عثر أحمد على ما يصلح لصديقه فإنه يشتريه، وإن لم يكن معه مال فأقلها يهاتفه في شأنه، وكذلك فعل النحاس لما علم بشأن الكتب.
في الطريق أعاد أحمد لإدريس مائة درهم، مخبرا إياه أنه لم يعط صاحب الكتب إلا أربعمائة، واتفقا على أن ينفقا تلك الورقة النقدية في ذلك المساء.
ــ هل تعلم؟ لو اطلعتَ على الكتب لكنت قد فضحتنا، لقد حمدت لله انشغالك بالصورة، تلك ليست سلعة، إنها كنز، فيها كل ما سيروقك من الكتب؛ الروايات والقصص، وديوان شعر في الحب أيها العاشق...
ــ لا بد أنك قد قضيت زمنا ليس باليسير في بيع الكتب.
ــ منذ استقر بي الحال هنا.
ــ وليس معك مال؟ ولا أربعمائة درهم؟
ــ أفهم إلى ما تلمح، أنا لا أبيع الكتب لأربح، ولا لأضخم تجارتي، ولا حتى أتاجر لأبني مستقبلا، أنا فقط أقضي سويعاتي، وبعد موتي، لا بد أن أحدهم سيرغب في شراء الجنة بثمن قبر وكفن.
ــ عندي اقتراح يا أخي أحمد؛ أولا، أنا متيقن من حبك للكتب، ولكن، لم لا نجعل الكتب...؟، لا أدري كيف سأوصل الفكرة! أنا لا أريد أن أرغمك على جعلها ثانوية في حياتك، ولكن كما ترى، بإمكانك أن تبقى مع الكتب على أن تنوع مصادر دخلك، فالناس هنا لا يقرؤون، هم فقط يأكلون، ويتباهون باللباس والممتلكات الترفيهية؛ ساعات وهواتف و غيرها، أما الكتب فسلعة بائرة يا أخي.
ولكن هذا لا يعني أني أطلب منك إهمالها في كل الأحوال، أرجو ألا تسيئ فهمي،
انتشله أحمد من محاولات شرحه بكلمة صارمة:
ــ "ما اقتراحك؟"
وجد إدريس الطريق معبدة، فاقترح عليه أن يتعاونا؛ يضمان فرشتيهما وجهدهما؛ فيختص إدريس بجمع الأحذية والساعات والكتب وصنارات الصيد، وكل الأشياء الرائجة التي يرى أنها صالحة للبيع، بأن يطوف من أجلها الأسواق والسويقات المتناثرة في الأحياء المختلفة من مدينتي سلا والرباط، على أن يهتم أحمد بالبيع.
ضحك أحمد في قرارة نفسه، وقال له:
ــ سأخبرك بأمري الليلة، وبعدها سنرى إن كان ذلك ممكنا، ولكن دعني الآن أكمل لك قصة ذلك الرجل مع زوجته والخليجي:
من كثرة زيارات الخليجي للمغرب، وخدمة الطيب له كل مرة، تطورت بينهما علاقة ودية، ولطالما تبادلا النكت والمجاملات. في ذلك اليوم، وجد الطيب أن زبونه في مزاج رائق، ولما سأله عن السبب أخبره أنه قد ربح صفقة مهمة، طال الحديث بينهما في الطريق من المطار إلى الفندق وطاب، فأطلعه الخليجي على رغبته في امرأة مغربية ليقضي منها وطره تلك الليلة، على أن تأخذ هي عشرة آلاف درهم، ويأخذ السائق ألفا.
وما إن سمع الطيب الذي غلب الطمع على طباعه المبلغ حتى زاغ عقله.
ــ لا تقل إنه....
ــ والله، والمشكل العويص، بل والطامة الكبرى، والمصيبة العظمى، أنه في صباح اليوم التالي، جاء ليأخذها من الفندق إلى البيت لكنهما لم يصلاه.
ــ بألف مصيبة! ما حصل للديوث؟
ــ يقال، والعلم لله، لكنه خبر شائع، أنها ركبت إلى جواره، وما إن دارت عجلات السيارة حتى طالبها بالمال فرفضت، ذلك أنه طالب بثلثيه، ولما أصرت على الرفض تنازل وقنع بالنصف، وهكذا دواليك، ولكنها ظلت ترفض كل عرض، وتتعلل بأنها هي التي استحقت المال، فقامت قيامتهما.
ولما كان خصامهما شديدا، فقد أوقفهما شرطي المرور ليستوضح الأمر، وهناك فجرت زوجته القضية أمام الشرطيين والملأ.
ثم ختم حكايته بلسان ساخر:
ــ حينها جن جنون الطيب، فضربها... وعوض أن يأخذ المال الحرام، سجن بتهمة الخيانة الزوجية والتشجيع على الدعارة وغيرها.
ــ ولا زلتم تدعونه "الطيب"؟!... ذلك الخبيث !
كانت جولتهما في شوارع العاصمة قصيرة؛ فمع لا إله إلا الله من آذان العشاء كانا نازلين من سيارة الأجرة البيضاء، فحملا أثقالهما إلى البيت، ووضعا السلعة في غرفة أحمد، ولما شرع هذا في فتح الصندوقين والكشف عن الكتب كان إدريس يستعد للخروج لأجل ملاقاة فاطمة.
ــ لن تخرج يا إدريس، هل نسيت مخططنا؟
نظر إدريس إلى وجه صديقه، تأمله فوجده محبورا وسعيدا على غير عادته، فلم يشأ أن يعكر صفوته، فكر أيضا أن من حقه الاستمتاع، وخاطب نفسه مطمئنا:
ــ من يدري؟ ربما فاطمة هي الأخرى تخرج مع الرجال، وهذا مما لا بد منه، ولا شك فيه، لا يمكن أن تبقى...، وفي هذا الوسط، أبدا لا يمكن، فهي تسكن دون أسرة تردعها أو أقلها تراقبها، أضف إلى ذلك أنها تشتغل في المقهى، بين الرجال...
إنها كفاكهة التين؛ تلين قبل وقت نضوجها من كثرة الأيادي اللامسة، فما بالي بالتي تسمع من الكلمات العذبة والإغراءات ما لا يعد ولا يحصى... ، حتى لو عاشت مريم العذراء مثل هذه الظروف ما كانت لتحصن فرجها!
ابتسم للفكرة أولا، لكنه تدارك فاستغفر الله على ما وسوست له به نفسه في الأخير.
استغفر الله مرارا وتكرارا وهو ملتفت إلى كتفه الشمالي، كأنه يستعطف ملك شماله الذي يسجل السيئات، وهذا ما قرأه في كتاب صغير؛ قرأ أن لكل إنسان ملكان: فالذي على اليسار يسجل السيئات، والذي على يمينه مختص بتدوين الحسنات.
قرر أن يفاتحها في الأمر يوما ما، ثم تساءل:
ـ ولم هذا كله؟ إن علاقتنا سطحية رغم عمقها، فكلما تمعنت في حدود علاقتي بها، لا أرى فيها إلا وجها آخر لمعاناتي، الوجه الأنثوي، نعم تبادلنا القبل تلك الليلة، لكن، دون سواها. وها نحن نلتقي لأزيد من شهرين؛ بعد فراغها من العمل، تجدني أمامها كسائقها الخاص، نتمشى قليلا، ثم نتحدث في أمور عدة، لكنها لا تخرج عن إطار المعاناة.
أخذ اللوحة بين يديه بينما كان أحمد يرتب الكتب حسب نظام ما، نفخ عليها ليزيل الغبار العالق والذي لم يمسحه المنديل، ثم سأله عن المبلغ الذي يريده مقابل اللوحة، وما هي إلا أن نطق بالكلمة الأخيرة حتى قال أحمد:
ــ مليون سنتيم للمرأة في اللوحة، وألف درهم لي حلاوة.
تعالت ضحكاتهما عقب النكتة التي أُلقِيَتْ، ومنذ ذلك الوقت واسم الطيب رمز بينهما للتكنية على كل ديوث يبيع زوجته أو بناته، ويتعيش من مرق الخيانة.
ومثل هؤلاء موجودون بكثرة في ذلك الحي الهامشي، وفي غيره، وقد ساعده أحمد في ما بعد على اكتشافهم ورصد فعالهم المشينة؛ إذ ترى الرجل بشاربه الكث يرسل بناته أو زوجته قبيل المغرب ووجهها كاللوحة بالزينة والتبرج، ويتلقفها أثناء عودتها ليأخذ المال.
والأدعى للحرقة والأسف أن ذلك المال يعود عبر قاطرة القمار والمخدرات إلى جيوب الأغنياء الذين كانوا قد استغلوا تلك النسوة، فالمرأة التي تخرج لتلك الأغراض غالبا ما تقف في الطريق كأنها تنتظر أحدا، وهكذا تتصيد المكبوتين من أصحاب السيارات الفارهة.
سارا بين البيوت الوطِئَة في الظلام؛ فاخترقا عدة أزقة ضيقة، أزقة تفوح منها رائحة البول والعفن، وتوغلا في الحي الصفيحي كثيرا، وكلما زاد تقدمهما في الأماكن التي لم يسبق لإدريس حتى التفكير في الوصول إليها، زاد انتشار الروائح الكريهة.
توقف أحمد عند باب قصديري وطئ، يبدو الباب قصيرا جدا، ولكنه كان منغرزا في الأرض من الداخل، بحيث لا يمكن فتحه إلا بجذبه من قِبل سكان الدار. وإطار الباب من الخشب ووسطه من صفيحة من الزنك.
تساءل في نفسه عن أحوال هؤلاء في الشتاء، أو كيف يكون حالهم لما يفيض الواد الحار؟ والواد الحار، هو اسم قنوات مياه الصرف الصحي.
بعد طرقات خفيفة من كف أحمد، جاء الصوت متحشرجا تخبرهم صاحبته أنها قادمة.
فُتح الباب، فانبعث من الداخل ضوء خافت ورائحة ثقيلة؛ اختلطت فيها رائحة المرحاض برائحة مخدر الحشيش، وربما الخمر وغيره.
لما انفتح الباب أطلت امرأة في حدود الخمسين من عمرها، كان ذقنها مغطى بلحية خفيفة، وفي شفتها العليا سطَّر الشعر شاربا خفيفا عند حدود الأنف وكثيفا في الأطراف، ملامحها أميل إلى الذكورة أكثر، ولولا صدرها المتدلي لظنها الرائي رجلا.
تطلعت إلى وجهيهما فتعرفت على أحمد لما دعاها باسمها "يمنى" وصافحها، فدعتهما للدخول، علم من بعد أن تلك النظرات المتفحصة ليس الغرض منها معرفة الزبون بل تحريه إن لم يكن شرطيا سريا أو جاسوسا؛ فإن كان زبونا معروفا أو محتملا سمحت له بالدخول، وأما إن كان شرطيا فإنها تمنعه وتصيح بأعلى صوتها، وتلك إشارة كافية لتهرب البنات عبر السطوح.
انحنى إدريس وهو يتجاوز الباب، تفاديا لأي اصطدام مع العتبة القصيرة، ثم دلفا نازلين درجا طينيا. تبعا المرأة من خلف، فسارا بضع خطوات في ممشى ضيق ومكشوف بدون سقف كأنه زقاق، ثم دخلا من باب آخر، فوجدا نفسيهما في فسحة مغطاة بصفائح القصدير التي رصت فوق ثلاثة جذوع من شجر الصفصاف وعمودين حديديين كأنهما اقتلعا من سكة قطار، كان السقف قريبا من رأس إدريس، لا تفصله عنه إلا بضع سنتمترات وأقل من الشبر، ولو كان أطول قليلا لفرض عليه الانحناء... وكان المصباح الوحيد متدليا من الحائط المقابل، وفي الفسحة تجمعت قرابة الست بنات كما قالت رئيسة المبغى يمنى:
ـ مرحبا بك يا أحمد، أنت وضيفك، الليلة عندي ست بنات، فاختارا على أعينكم.
لم يستسغ في البداية تسميتهم "بنات"؛ فإن منهن من دنا عمرها من عمر يمنى أولا، ثم لأن لفظ بنت يطلق في بعض المناطق على غير المتزوجة، وفي مناطق أخرى على العذراء فقط، وكذلك لأنهن لسن جميعا إناث، كما سيعرف تلك الليلة، ولكنه ظل يدعوهن فيما بعد "بنات"، لأن صاحبة المبغى كانت تنادهم هكذا، وهو سبب كافٍ.
طالبتهم يمنى بالدفع مسبقا، وقد تكلف أحمد بكل شيء تنفيذا لاتفاق سابق قبل خروجهما من دار مي طامو، وفي لحظة، قرب إدريس فمه من أذن صاحبه، ووشوش فيها بكلمات، فحرك هو رأسه موافقا.
في تلك الأثناء، كانت قد قامت إحداهن بعدما أطفأت آخر ذبالة من سيجارتها، ففطِن إدريس بسرعة إلى أنها ربما تعتبر أحمد زبونا خالصا لها، لذلك تقدمت نحوهما بدلال، رغم أن خصرها كان أكبر من أن يساعدها على تبخترها، فأخذته من ساعده، وتبعها هو دون مقاومة.
بعد دخول أحمد وصاحبته إلى غرفة مظلمة، بقي إدريس وحده مدة، وقف حائرا، كالذي ينتظر قدَرا لا راد له، وللحظة ودَّ لو أن واحدة تقدمت نحوه، كيفما كانت.
لكن ذلك لم يحصل، فقد كن منشغلات في تدخين لفافة الحشيش، أما يمنى فقد دخلت المرحاض بمجرد تحصيلها المال في جيبها، وسُمِع صوت صفير بلبلها وأبواق أمعائها من الداخل.
تصبب جبينه عرقا، وكاد ييأس ويرتد على عقبيه خائبا لولا أن نهرتهن ذات الشارب وهي خارجة من المرحاض:
ــ فلتقم إحداكن مع الشاب
تعالت الضحكات وقالت واحدة من بينهن:
ــ هو لم يعين ولا واحدة!.
ثم قامت متوجهة نحوه، حتى إذ كانت بجانبه أضافت بدلال:
ــ من منا تريد؟ ما بك؟ لست في مقام الصلاة.
ثم انفجرت ضاحكة وهي تنزل بأناملها من خده إلى كتفه، وجعلت تجره نحو غرفة أخرى.
قد كانت لتبدو جميلة، أو أقلها مقبولة لو لم تتحدث فتكشف عن أسنانها؛ أسنان سوداء، وبعضها مفقود من كثرة التسوس، إنها في وضع لا يغري بتقبيلها، وما الجنس دون قُبَل؟
اعتذر منها بلباقة وهو متسمر في مكانه، ثم، ولتفادي الإحراج أشار إلى واحدة غيرها؛ تبدو نحيفة وشعرها الأصفر مصفوف بعناية، فقامت بعناية ودلال في حين قالت الأخرى وهي عائدة إلى مجلسها:
ــ هكذا إذن، وضح مبتغاك من البداية، وكنا سندلك على صوفي الجميلة.
دخلت به صوفي إلى غرفة ضيقة ومظلمة كالزنزانة، فنزع إدريس قميصه على عجل، وكذلك فعلت هي، كان نهداها صغيرين، ولكنهما مغريان وشهيان، تبادلا قبلا طويلة على الطريقة الأوربية، ولما بلغ به الهياج حدا لا يطاق نزع سرواله واحتضنها بذراعيه، فتمنعت قليلا، ولكنه أنزلها بحركة تحته على الفراش، تعنتت حتى تمكنت منه، فدفعته من فوقها وقامت، فأزالت سروالها وتبانها في الظلام، ثم تقدمت نحوه.
ما هي إلا همهمات وحركات سريعة منهما في عز الظلام، حتى قام وهو يصرخ كالملسوع، فجاء الصوت من الخارج ساخرا.
ــ ماذا هناك؟ هل انقلبت الأدوار؟
ثم خرج وهو يسب ويبصق ويصيح بأعلى صوته:
ــ إنها ليست امرأة، هذا شاذ،
عم الصراخ المكان، ثم خرج الشاذ بعده وهو في لباس داخلي نسائي، ولكنه كان فاقدا شعره الاصطناعي، فبدت مقدمة رأسه صلعاء، ذلك أنه ربما يكون قد جاوز الثلاثين من عمره، فثار عليه إدريس بالضرب والبصاق لما اقترب منه.
تدخلت يمنى وباقي البنات فنزعن الشاذ من يد إدريس، الذي كان قد أشبعه ضربا تحت نور المصباح بعدما أشبعه حبا في عز الظلام قبل ذلك بقليل، عاد أحمد أدراجه فزعا لما سمع صوت صديقه، إذ كان ينتظره عند الباب كما اتفقا.
ورويدا رويدا، دب الهدوء قليلا، لكن الرئيسة رفضت إرجاع المال لإدريس بداية، ثم، وبعد تدخل أحمد سمحت له بالدخول مع واحدة أخرى وهي تزمجر وتسب الرب والسلطات والمال.
بعد نصف ساعة، كانا في البيت عند إدريس، فتح هاتفه الذي تركه خلفه ولم يحمله إلى الماخور تفاديا للمشاكل، فتحه فوجد ست مكالمات فائتة وثلاث رسائل، وكلها من قبل فاطمة، لم يقرأ ولا واحدة منها، لأن أحمد كان يتحدث عما حصل، وكان يضحك على غير ما تعوده منه؛ كان الضحك يخالط كلامه ما جعله ينقطع عن الكلام أحيانا ليمسح دموعه، وفي تلك الأثناء كان إدريس منشغلا بنزع ملابسه الخارجية وترتيب مرقده، إلا أنه انفجر ضاحكا حين قال أحمد متهكما:
ــ لم تختلفا إلا في تحديد وجهة رأس القضيب، هو يريد منك طعنة من الخلف، وأنت تريد نزع أحشائه من القُبُلِ.
ثم أردف:
ــ هل تعلم؟ ذلك الذي دخلت معه هو نفسه الذي يغسل السيارات قرب سوق الخضر، ستجده في الموقف؛ بيده إسفنجة وسطل ماء، وهناك أيضا يصطاد زبناء له، منهم عدد جم، أعذرني يا أخي فقد نسيت أن أنبهك.
ــ ما ظننت منك هذا كله!، كل من رآك من بعيد إلا وحسبك درويشا، وأنت، ضربتك لا يثار لها غبار. لقد تورطت، لكن لا بأس، كان الذنب ذنبي، فأنا من رفض التي قامت لأجلي، ثم أضاف بنبرة خاشعة: أخشى أننا نرتكب خطايا لا تغتفر، إن الزنا من الكبائر يا صديقي.
ــ انس الأمر، إن الله غفور رحيم، وبالمناسبة لقد دخلت في الأخير مع التي رفضت في البداية! صدق فيك المثل السائر"لا بد لكل من ينفخ في اللبن أن يشتاقه".
ــ لقد كانت طيبة، أو، ربما بدت كذلك لأن الحشيش قد بنجها، لا بد أنهن لا يتعاطين المخدرات إلا لينسين الواقع، أو ربما ليتمكنَّ من التكيف مع الحياة في ذلك المبغى وظروفه، وروائحه التي تشبه ال...
أفٍّ، لقد سبق لي أن خرجت مع عاهرات، هناك في فاس، كنا نلقاهن في المقاهي، أو في بعض الساحات، وأحيانا كنا نسافر لأجلهن إلى مدينة الحاجب أو إيموزار، ولكن، مثل هذا العفن لم تر عيني قط.
ــ ظننت أني سأسعدك بهذا، كما أسعدتني بشراء الكتب. ولولا ذلك لما ورطت نفسي في هذا ال... ثم نظر إليه من تحت عينه، وتابع:
لم أذق مثل فرحة هذا المساء، إلا يوم سمعت خبر ولادة ابنة لي... ثم طأطأ رأسه، وسبح في صمت رهيب، ولم يشأ إدريس أن يزعجه فتركه كما هو، ثم أسند ظهره على وسادة، وفتح كتابا فغرق فيه ونسي كل شيء.
طالت مدة بقائهم على تلك الحالة؛ أحمد منكس رأسه على طرف اللحاف، و إدريس منغمس في كتابه، ولم يخرجهم من الصمت إلا رنين الهاتف.
لقد كانت فاطمة، فهمَّ أحمد بالخروج لو لم يمسك إدريس بيده وهو يرد على الهاتف، وما إن أنهى مكالمته معها حتى أطلع صديقه أنها خاطبته لتطمئن عليه لا غير، وأنها سألته إن كان قد قرأ الرسائل، فأجاب بنعم، رغم أنه لم يفعل.
ــ هل أنت واقع في الحب؟
ــ ربما، ولأجل ذلك سألتك ذلك السؤال قبيل خروجنا إلى الرباط، إذن وبما أنك قد فهمت الآن ما كنت أقصد، هل لك أن تخبرني؟
ــ بم سأخبرك؟ لا شيء يستحق، ولكن كن حذرا من لدغات النساء.
ــ قلت قبل قليل إن لك بنتا، ووعدتني قبل عودتنا من الرباط أنك ستحكي لي من أمرك، وها أنا ذا كلي آذان صاغية.
ــ سوف لن تصدق، وأنا بدوري لن أفتح باب جحيمي ذاك، أقلها الآن، وأرجو أن تعذرني.
عاد إلى أحمد شحوبه بعد أن أنهى كلامه، فقام من مجلسه، وخرج دون استئذان.
فتح إدريس الهاتف، وقد عز عليه الحال الذي آل إليه صديقه، فلم يشأ أن يزعجه بأي سؤال آخر، ولا حتى دعوته للبقاء، واطلع أول مرة على الرسائل:
"لو عدتم باكرا، أريد أن أراك" "غدا الجمعة، سوف أبقى في البيت" " نخرج معا غدا؟ إلى البحر إن شئت"
أغراه الخروج إلى البحر، ولأن السوق يوم الجمعة يَنْفَضُّ قبل وقت الصلاة، فليخرجا إذن، رغم أنه لم يخرج ولا مرة في حياته مع امرأة، وإنها لمغامرة لا بد ممتعة.
كتب رسالة قصيرة جدا" موافق، ليلة سعيدة" ثم تمدد في فراشه، فسرت فيه رعشة لذيذة، وغاب عما كان يقرأه؛ استرجع بخياله لحظات كان فيها بين أحضان تلك العاهرة، فآلمه اسم عاهرة، وخاطب نفسه ناهرا إياها:
ــ من أخبرك أن جدتي لأبي لم تكن كذلك؟ ربما حملته من أحدهم في لحظة متعة كتلك الذي قضَيت، أو في وقت شدة وحاجة كالتي تدفع أغلب الفقيرات إلى هذا العالم الوسخ؛ ومن يدري؟ لا بد أنهن لم يلجن هذه المهنة إلا اضطرارا ماديا، أو طلبا للمتعة، أو تيها بين العوالم، وربما لا هذا ولا ذاك، إذ لا بد أن هناك أسباب ودوافع أخرى، فما بال ذلك الشاذ؟ لقد كان... كأنه يستمتع، فلو كانت الفاقة هي الدافع، لا، لَا، محال؛ أعرف رجالا يخطفون قُوتَهم من أنياب الأفعى.
وتلك العاهرة، كم كانت رائعة؟ وجدت فيها غزارة الحب ومتعة الجنس ودفء الحنان، لقد كانت تتلوى من تحتي، وهي تتعلق بعنقي فلم أتطلع إلى أسنانها، لقد كنت غائبا عنها فيها، وكنا تائهين معا في دروب المتعة والظلام.
ولما تذكر هذا، عاوده الحنين فقام من مرقده، وقصد أحمد رأسا فوجده جالسا القرفصاء، لكنه لم يحدثه في أمره؛ ليس احتراما لمشاعره، ولكن لانشغاله باللذة التي تملكته تلك الليلة.
ــ أخي أحمد، أريد تلك العاهرة، الليلة، وأرجو أن تطلبها لي إن كان معك رقم هاتف تلك اليمنى؟ أو رافقني إلى الماخور رجاء.
ومن دون أن ينبس بكلمة، أخرج هاتفه، فأدار مفاتيحه بلمسات من إبهامه، وما هي إلا ثوان معدودة حتى كان الرنين يصل أذن إدريس فبدأ قلبه بالخفق لما سمع صوت تلك المرأة ذات الشارب قادما كأنها تتكلم خلف أذن أحمد.
ــ صديقي يريد نعيمة الليلة، أرسليها رجاء، إن لم تكن مشغولة طبعا.
ثم أردف بعد سماع ردها، والذي كان قد سمعه إدريس وتيقنه:
ــ قلت مائتي درهم؟
ثم هز حاجبه نحو إدريس، ولما رآه يحرك رأسه موافقا، أكد لها الطلب والموافقة على الثمن.
كان إدريس غارقا في سابع نوم لما دُفِع عليه باب غرفته بقوة، ففتح عينيه ليرى مي طامو واقفة عند مصراع الباب، وقد تكلل وجهها بأشعة الشمس فبدت أوداجها منتفخة من الغيظ، التفت جانبه متحريا فوجد المكان فارغا، لكن، كان من الواضح أن أحدهم قد شاركه الفراش، أو بعبارة أدق إحداهن، صحيح أنه ما من جريمة كاملة، ولكن الذي حيره أكثر، هو أنه قد صرف نعيمة مع أول انبلاج للنهار، وأن لا احد رآه، فمن أين بلغها الخبر؟
سألها متغابيا إن كان قد طرأ طارئ؟ فأجابته فورا:
ــ أنا لست غافلة كما تظن، وإن غفلت عيني، فالدنيا كلها عيون، ثم أردفت بحزم: اترك البيت آخر الشهر.
استدارت بعنف عائدة أدراجها، وقد تركت الباب مفتوحا، ثم عقبت وهي مولية ظهرها له:
ــ أنت ومعقوف الظهر صديقك. قالت كلاما كثيرا غير ذلك، ما أكثر ما قالت!.
وقف أحمد عند باب جاره عقب انصراف مي طامو كأنه كان خلفها، مما يدل أنها قد واجهته عينا لعين لما دعته معقوف الظهر، ولكنه رغم ذلك، لم ينبس ببنت شفة.
وقف عند الباب كاليتيم في خيمة العزاء، أو كأنه قد فقد شيئا غاليا، راقب إدريسَ وهو يصحو ببطء وكأن شيئا لم يحدث. لقد طغى على أحمد الإحساس بالذنب؛ فكان وقع الحادثة قويا عليه، لكن إدريس لمْ يُبدِ أي ردة فعل تجاه ما وقع، بل قال وهو يتثاءب:
ــ بالنسبة لي، لم يحدث شيء، فقط عجَّلتْ هي بما كنت أؤجله أنا، وأنا نفسي لم أكن مرتاحا هنا، ولطالما همَّني أن أقضي الشتاء في هذا الغار.
ــ هذا الغار قد احتضننا يوم كنا دون مأوى، أتحدث عن نفسي شخصيا، وأظنه ينطبق عليك أيضا، يجب أن نعتذر لأمي طامو، مهما كان حكمها الأخير، وهذا ما أنا عازم على فعله، الآن.
قال هذا وانصرف، وتأثر إدريس كثيرا بطيبة الرجل؛ أقلها ما زال في الأرض ما يستنزل رحمة الله.
سمع من غرفته صراخ مي طامو وتذمرها، فأيقن أن صديقه عندها، ومن دنو مصدر الصوت أيقن أنهما في المطبخ؛ كان صوتها عاليا ومجلجلا، أما صوت صديقه فلم يكن يسمع منه إلا هسيسا غير واضح، وهذا ما بلغه من كلامها:
ــ طعنتموني في ظهري، وقتلتم ثقتي فيكم، أنتم لا تستحقون
ــ ....
ــ هل تظنني غبية إلى هذا الحد؟
ــ ....
ــ وأنت أيضا! "الفقيه الذي انتظرنا بركته، دخل الجامع ببلغته".
ــ ....
ــ قم، اترك قدمي، كدت تسقطني، أأنت مجنون؟.
ــ ....
ــ لست أُمًّا لأحد، وبيتي ليس ماخورا.
ــ ....
ــ أخبر صديقك أن أمامه أسبوعا كاملا، أو يزيد، ويوم الاثنين المقبل سأحرق أي شيء أجده في غرفتي.
قام من مضجعه، وبعدما غسل وجهه أخذ سلعته ليخرج من غرفته قاصدا إلى السوق، لكنه تركها عند الباب وعاد، توقف قليلا، ثم تقدم نحو المدخل الذي يفصل الدار الداخلية عن البيوت المخصصة للكراء.
استجمع قوته ودخل؛ كان باب المطبخ أمام المدخل مباشرة مشرعا، فرأى أول ما رأى صديقه أحمد جاثيا على ركبتيه، ومي طامو واقفة.
حزمت رأسها بمنديل ملفوف ما إن أبصرته وصاحت فيه:
ــ أغرب عن وجهي، ولا تدنس بيتي أكثر!
ــ أنا سأخرج يا مي طامو، ثقي بي، ولن أزعجك بعد اليوم أبدا، أقسم لك بفضلك علينا، ولن يضيع لك من ناحيتي خاطر ثانية، وهذا كله فوق اعتذاري واعترافي بالخطأ، ولكن، فقط ودَدْتُ لو تسامحيني؛ سامحيني ليس لأبقى، بل لأرتاح من خطيئتي في حقك، إنه الشيطان، والإغراء يا أمي هو عمل الشيطان الذي أخرج به جدنا من الجنة، فما بالي أنا؟ كيف لي ألا أخطئ؟؟
ــ لديك أسبوع واحد، ولو كان غيرك، لو لم تكن أنت يا من اعتبرتك ولدي الذي لم ألده، ذلك الولد النجيب الذي لا يشبه في شيء هؤلاء التائهين في دروب الضياع، لو كان غيرك لكان مطرودا، وأغراضه في الخارج الآن.
أسرع مقبلا نحوها، فأخذ يدها وقبلها من الجهتين، نزعتها منه وهي تضربه على رأسه وتقول:
ــ على نفسك جنيت يا أكبر شيطان.
رجاها، والدمع من عينيه أنهارا أن تسمح لأحمد بالبقاء، فقد رأى في عينيه إحساسا بالضياع.
كان أحمد مستسلما في برْكته تلك، فقد كان كمن ينتظر قضاء قاصما للظهر، ولا رادَّ له، تلك الصورة التي بدا عليها مزقت قلب إدريس فألح في الطلب؛ قبل يدي العجوز مرارا، وبعد تردد وافقت على بقائه شريطة ألا يأتي منه في المقبل من الأيام فعل شائن.
هكذا اتفق الجميع، ولو كان في المطبخ ذلك الصباح غير الثلاثة، لأدرك من نظرات مي طامو، ومن نبرة صوتها أنها قد رغبت، من أعماقها، ألا يخرج إدريس من عندها، لكن أنفتها منعتها من البوح بذلك، أو من التراجع عن قرارها، والدليل الثاني على ذلك، أنها لم تصرفهما من عندها في الحال، وقد كان بوسعها ذلك؛ إذ كان يكفيها أن تدعو المسمى "بيدرة" وهو ابن جيران لها، قضى أكثر أيام حياته في السجن، بل وأكثر من ذلك، أنها قد دعتهما إلى فطور شبه عائلي ذلك الصباح نفسه.
ساد الصمت حين كانت السيدة منشغلة بإعداد الشاي، وحتى لما وضعت الصينية فوق الطاولة القصيرة، لم يكسر ذلك الصمت الرهيب سوى وقع خطاها من مكان إلى آخر.
توسط الصينية براد شاي من الحجم المتوسط، وحوله حامت أربعة كؤوس تشعشعت بالمشروب الساخن والساحر.
اجتمعوا على الفطور كأسرة متناغمة، وكأي أم مع صغارها خدمتهم بتفان وصمت ورضى. لأول مرة، كان أحمد يغمس الخبز في الزيت صباحا، أقلها منذ عرفه إدريس.
ــ ما أطيبك يا أمي طامو! قال إدريس، ثم أردف: لكم تمنيت، في لحظتي هذه، لو قضيت أشهري الأولى في ذلك الرحم.
رفع عينيه نحو وجهها ليتبين وقع كلامه، فوجدها واجمة، لم تجبه، وفي ظل الصمت أعادت الكأس الذي رفعته لتوه إلى مكانه من الصينية؛ ولم ترشف منه بعدها أبدا، بل ظلت تلوك ما كان في فمها من خبز إلى أن غادرا من عندها.
أخبره أحمد في الطريق أنها لطالما عانت من العقم، وأن كلامه ربما أثر عليها، وبعد ذلك بأيام، سيعلم أنها قد عانت في شبابها من السرطان؛ المرض الخبيث الذي أصاب رحمها، وأن تشخيص إصابتها وافق فترة حملها، ثم إن الأطباء قد خيروها بين العلاج والحفاظ على جنينها، فقاومت المسكينة ثلاثة أشهر، لكن حالتها تفاقمت لأنها كانت في مراحل متقدمة من المرض، ما اضطرها إلى التضحية بالذي سمعت صوت دقات قلبه عند الطبيب يوما، وبعد شفائها ما عاد بوسعها الإنجاب أبدا، فطلقها زوجها.