أقفُ نافراً أمامَهُ، أيّها السيّدُ أنا غاضبٌ، ومزاجي سيئٌ جداً ووجودُنا في هذا الوضعِ يتمخّضُ عن خطرٍعلينا نحن أعني الإثنين أنا وأنت فقط، ها أنت قد أغاظكَ خطابي ولجأتَ إلى تصَنّع الضَحِكِ الكاذبِ، كلّما ادعيتَ أمراً فَنّدَتْهُ الوقائعُ فأنتَ الذي كنتَ تبحثُ عنّي وما بحثتُ عنك يومًا، جلستَ تخططُ بخبثٍ وتهرفُ ليلاً ونهاراً تُذلّ نفسَك لكلّ مُتكبّر وتستسيغَ الصَغارَ من أجلِ أن تعثرَ عليَّ وإنْ تَعَثّرَتْ خُطاك وإنْ ملأَ أنفَكَ الترابُ ويومَ حصلتَ عليّ ووضعتني في جيبك، مع الكثير من أمثالي، أسكتَتْ رائحة جيبِكَ رنيني ورنينَ الصحبِ معي، كنتُ أشمّ عفونةَ شحّكَ حتى استبدلْتني مُجبرًا بحاجتكَ التي كانتْ عند مرتزقٍ خفيفِ الظلّ نذرَ أن يرمي أولَ ما تتناولَهُ كفّهُ إلى البحرِ اتقاءً لشرّ (بوسيدون) .
وها أنا تتلقفني الموجةُ وتفقدني البهجةُ بالخلاصِ وعيي فأغيبُ دهرا طويلا أفترضُ أنني قضيتهُ على ظهور أفراسِ الموجِ تلعبُ بي لعبتها بين مدٍّ وجزر ثم شملني السكونُ كما يشملُ كل شيء ومضى زمنٌ لا ريبَ أنّهُ زمنٌ طويلٌ لا أتذكرُ شيئا منه وقد كنتُ فيه راقداً رقودَ أهل الكهف لا أعلم شيئا عن الزمن الماضي لكنني أدركُ أنني قد لبثتُ زمناً طويلاً أسكنُ القاع بين الحصى وأذكرُ تلك اللحظةَ التي كنتُ فيها هابطاً من لجة الموجِ وصخبِهِ، رضيتُ بكل ما حصل، كلما ضاق الصدرُ تذكرتُ أول هبوطي إلى قاعِ البحرِ، تلك المسافةُ ما بين الرعشةِ الأولى التي سببها ذلك اللقاء غير المتوقع بسطح الماء، أذكر ذلك النوع من السعادة وأنا أستقبل برداً فريداً، ليس مثلَ بردِ شتاءٍ في علبة، حتى استقر بي المآل بين حصى القاع، ،رضيتُ بعد ذلك بنظراتِ تلك المخلوقات التي استهجَنَتْ وجودي بين أشيائِها، عَدّتْني مُتطفلاً أو بالأقل غريبا، تُبَحلِقُ فيّ العيونُ ثم تتجاوزني بصمت وهل ثمة ما يقال هناك وقانونُها احترام الساكنِ حتى ينفر ، رضيت بطحالب البحر وهي تزحف علي وعلى سرير الحصى الذي أنام عليه مثل أي ملكٍ منفيّ، كلما ضاق صدري أتذكر تلك الكفوف الحانية التي تقلبت بين أصابعها زمنا طويلا قبل أن أشمّ رائحة شِحِّكَ الخانقةِ، تلك الشفاهُ التي قبّلتني على الوجه والقفا بينما كنت تدفنني بعيدا عن العيون، وكنتَ آنذاك تحرصُ عليَّ حرصَك على نفسِك، أما الآن فقد زحف علي الطحلبُ وأسكتَ بريقي، وبرغم ذلك كنتُ قانعا بما لدي من السكينة اعتبرتُ ذلك البساط الطحلبي دثارا يليق بالموقف ويصدُّ نزقَ الأخطارِ المحدقةِ، أسمعُ أنين الموجِ وهو يبثّ إلى الساحلِ شجونَه، أسمعُ صراخَ الحيتان وهديرَ أسرابِ السمكِ المفزوعِ من صولاتِ عتاةِ البحرِ وسباعِه، أي عذابٍ هذا وأنت تسمع كل هذ الأنين لجثامين الغرقى قبل وليمةِ البحرِ التي أعدها لقبائله المنتصرة، رضيتُ بكل هذا قبل أن ينتشلنْي هواةُ اللّقى والآن أنا بين أيديهم أتعرض إلى العذاب بين سوائل حامضةٍ ومحكٍّ خشنٍ، أحبتني الطحالبُ الملتصقة بي فقاوَمَتْ وراوَغَتْ لكن المقاشط والمحكّات أقوى، ها أنا أدعكُ بقوة، تفركني الأنامل وتمسحني المماسح وتمطرُ علي مذيبات الكلس، وكلما أزيلت طبقة من غطائي الطحلبي تنتابني موجة رعاش ورهج حتى أجبرتُ على البوحِ بما لدي، واستقر بي المقام في زجاجة الزجاجةُ كأنها ناووسٌ تشرف من خلاله العيون ولا أشرف عليها، أستعيد سكوني رويدا رويدا وبالرغم من حصانة المكان وانتفاء احتمالات الأخطار إلا أنني أحنّ إلى ذاك الشعور البكر حين تخلصتُ من رائحة الجيوب و التقيت الماء وهبطتُ إلى القعر ......
مصادفةً كان هذا الحديث يسمعه واحدٌ من الثلة التي ترتاد المتحف، بعضهم لم يصل إلى شعوره غير هسيس واهٍ وبعضهم كان أصماً بيد أن الواقف في الأمام الذي سمع كل الحديث راح يبكي متأثرا وظل طوال اليوم ينشج و راحَ الوافدون يلملمون ما تناثر من دمعهِ على بلاط المتحف، بعضهم أخفى تأثره وراح يتسائل : ماذا أصاب الرجل؟ مالذي يبكيه أمام قطعة نقدٍ ذهبيةٍ قديمة؟ -هيه ماذا تقول؟
- أقول إن الأهواءَ شتّى أيها الجليل ولو تسنى لك الطلول على القلوب لعلمت سبب بكائي، أنت قد اختلط عليك الزمن في هذه الزجاجة، تظنني ذلك الرجل صاحبك وأنا الذي أنفقت كثيرا من المال لأصل إليك، أي بؤسٍ أن يتوقف التفكير عند لحظةٍ من الزمن تلك التي لا يستطيع الكائن تجاوزها، يبقى حصيرَها وأسيرَها واقفا لاينظر إلى الزمن وهو يمضي تباعا، بكائي كان إشفاقا عليك وأنت لا تريد مغادرة لحظتك وأنا الذي ظننتني كالأوابد قد بدأ الزمن يلسعني بسوطه يحث قدمي على عبورك وعند ذاك لن تكونَ إلا من الماضي الذي تنفس لكي يفصح لحاضري عن لحظته الميتة، لست معنيا بدموعي التي تناثرت، وحق لهم التقاطها فالدموع هذه الأيام نادرةً مثل االلآلئ.