ليلة انطفاء الضوء - فارس السردار

شكل العرض
  • أصغر صغير متوسط كبير أكبر
  • نسخ كوفي مدى عارف مرزا

أنفاسمرة أخرى؛ أفتح باب الغرفة المفضي إلى الممر المعتم، الذي تعبث به أضواء الشارع الخلفي، التي استعارت بهرجة عيد رأس السنة ولم تفلح، فبدت الأضواء المتسللة بألوانها.. شاحبة، متعبة. متسلقاً درجات تآكلت بفعل التقادم تنتهي بي إلى سطح الفندق حيث دورة المياه. لقد أصبح قدح الشاي الذي دفأت به صدري دلواً. للمرة الثانية تلفحني هذه البرودة، وتمتص كل ما اكتنزته من دفء في سريري بعد أن أحكمت تغليف جسدي. لم أتصور أن ليلة في بغداد يمكن أن تجعلني اهتز إلى هذا الحد. لم تتطابق عقارب الساعة على بعضها. لا زالت السيارات في شارع السعدون غير مكترثة بالوقت. أو ربما قد لا يعني رأس السنة لهؤلاء السواق شيئاً. لكن.. لماذا لم أساعد رائد والتزم بواجبه ما دامت ليلة رأس السنة ليلة لا تملك إيقاعاً لها في نفسي؟.. كما أني لا أستطيع الاستفادة منها بالذهاب إلى الموصل والعودة إلى الحلة. لماذا اقضيها هنا وحيداً؟!. لماذا أريد تجريدها من بهائها الذي اخترع لها؟.. هل أنا حاقد عليها….؟.

كان الإدرار المتدفق بقوة.. يوحي فعلاً بأنني قد شربت دلواً من الشاي، أما البخار برائحته النفاذة فقد أكد أن البرودة قد تجاوزت حدودها. لملمت جسدي وتركت الباب يئز ورائي واندفعت مهرولاً إلى الغرفة. الآن رائد يتلقى أوامر الدورة الاعتيادية من ضابط الخفر. كم حاول أن يرشيني!.
ـ سأجلب لك غداً ريوك؛ كاهي.. علبة حلويات.. استلم الواجب عني قد التقي  بها هذه الليلة. قد تراقصني..
ـ هل ترقصون كما يحدث في الأفلام؟



ـ  وعند انطفاء الضوء سأقبلها… لا تحرمني الفرصة.

ـ  وانأ سأقبل مَن هنا؟!.

(تأمل الوجوه وتلفت) ـ صديقك محمود.
ـ  حسناً.

ـ حسناً ماذا؟.
ـ عليك أن تهتم بواجبك، سأنزل إلى بغداد.
ـ  إلى الفندق؟.

ـ  نعم إلى الفندق. أريد شراء بعض الكتب من ساحة التحرير وربما من المتبني، سأمر هناك أقضي بعض الوقت أتصفح البسطات، أجلس في بعض المقاهي ثم أذهب إلى السينما ثم أصعد إلى الفندق… أقرأ قليلاً وأنام.

ـ وليلة رأس السنة؟!.
ـ  إلى الجحيم … أنا لا أعرفها. ماذا تعني سنة جديدة سوى أيام رتيبة أخرى وأوامر، ووجوه متعبة؟!.. السنة الجديدة هي لحظة وقوف الحرب. غداً أجيء لأستلم الواجب من جديد.. يوم تافه يهرب من عمري، ربما ستحييه هذه القبلة التي تتوقعها، لكنها قد لا تحيي الذي بعده والذي بعده.. وباقي أيام السنة نتمرغ أنا وأنت في التراب.

ـ  اللعنة عليك وعلى الكتب التي تقرؤها. إذا ذهبت إلى بغداد سأحرق دولابك وكل كتبك.

ـ سآخذ كتبي معي لأبيعها كي أوفر لي ثمن الفندق والتسكع.

لقد قسوت عليه.. لا أدري لماذا تحولت الدعابة إلى حقيقة وتصلبت بالأمر؟… أنا أيضاً بحاجة إلى هذه الأجواء. أريد أن أرى انطفاء الضوء ودفء تلك اللحظة.. وربما دبقها. الحلة ليست بعيدة لكنها مجتمع ريفي مثلنا لا تضع كثير اعتبار لهذه الشكليات، كما يفعل أهل بغداد. لكنني هنا أوصدت باب الغرفة وأتدثر بالعتمة والبرد وتلك القبلة التي جعلتني أتلبس القسوة، لم أقبض عليها بالرغم من أنني الآن في قلب بغداد.. ماذا كنت أظن؟.. هل أن أية أنثى في العالم يمكنها أن تفكر بالارتماء على صدر جندي باطمئنان والسماح له باكتشاف لحظة حب.. حتى وإن كانت تلك اللحظة انطفاء الضوء..؟. تسكعت في شارع النهر وتشربت عيناي من جمال عيون المها المتنقلة بين الرصافة والجسر. ركبت الباص ذي الطابقين وأكلت همبركر أبو يونان، اشتريت كتبا.. بغداد جميلة كعادتها، تصدمك بالدهشة والأضواء الراقصة، تصنع عرساً تتجلى ذروته في أبي نؤاس حيث شهريار مستلقي هانئ البال وشهرزاد تتلوى وهي على موعد مع الذبح إن لم تدرك بحكايتها حافات الصباح. لحظة الحرمان هنا أكثر عنفاً. بعد قليل تستلقي عقارب الساعات باستواء متوازن وتحقق الانطباق الرياضي كمتجهين.. كثيرون هم الذين عبؤوا ساعاتهم أو تأكدوا من توقيتها. هذا الانطباق العمودي يومض بدلالات جنسية.. لا أدري متى استلقى هذا المعنى، ولماذا تتصدر ليلتي هذه الإيحاءات.. أهذا ما يفعله طيف الأنثى في زمن الجندي؟.. اللعنة على البسطال والبيرية وسجائر السومر.. اللعنة على النهضة والعلاوي. كم مضى من وقت مذ هجرت هذه المدينة، وارتميت في قيم الطين والبداوة.. في هذا الوقت، هناك في القاعة التي تتسطر فيها أسرة الجنود بشكل متوازي ومتقابل، أبقى أنا وصلاح عريف الكيمياوي ابن السعدية يقظين والقاعة تغط في نوم مغرق بالشخير، أصوات لسمفونية رعوية قادمة من أعماق تاريخ لا يعرف أكثر من الأكل والجنس والثأر والتنقل. هو يتصفح مجلات (الدستور) و(الوطن العربي) وبضعة بوسترات لفنانات تركيات وإيرانيات تتسلل معه كل إجازة من كلار. وأنا أزرع عيني بين صفحات لكتب جاءت أسطرها لتنتحر في هذا الإسطبل. أغلب الأحيان يتطلع أحدنا للآخر دون حتى أن نتنفس، أو نقلب أبصارنا في الشعارات التي وضعها (التوجيه السياسي) على جدران القاعة لحشدنا وتعبئتنا بالروح المعنوية.

لم تهدأ الحركة في الخارج وأنا لا أملك ساعة. منذ دخلت الحرب تركت ساعتي هناك في غرفتي مع الحاسبة الإلكترونية وبعض كتب الفيزياء.. لابد من الاحتفال. لماذا أشعر بأني سرقت هذا اليوم من رائد؟. لماذا شاكست هذا البغدادي الجميل الذي دائماً كان يتوهم بأنه أحاط بكل شيء علماً، فيتعالى ثم يعود لينحدر سريعاً تحت مخالب كلمات (سالم ناصرية) التي لم ترحم شمالياً ولا جنوبياً وبقيت أثيرة في النفس قريبة منها.. ربما لأنها كانت تمر على الجرح وتنحني أمامه دون أن تجعل منه سلماً للتسلق. لم يختلف الإيقاع في الخارج وليس ثمة عيد. أفتح ديواناً شعرياً، أتصفح أوراقه، أقرأ، أهدأ.. وأمر على الفهرست.. تذبل في عيني الصورة ويبعثر شعاع صباح الجنود، يغرق في أطباق الشوربة والشاي المصنوع على عجل، ووجوه النساء يتصيدن الرزق في آخر ساعات الليل (عيني خوش كيمر). حلة محاويل، نفر واحد، حلة محاويل. يوم آخر كالأمس لم تتغير ألوان الأشجار وحراس البوابات منهمكون بالتفتيش. الدرب إلى الوحدة موحل وطويل وساحات العرض تغص بخيول من كل الأجناس وعصي الترويض تلوح بأيدي ضباط الصف.. لم ألمح رائد. أسأل محمود وهو يتبختر بوشاح عريف الخفر. رائد مجاز قايضني منذ الأمس ومضى..

  

تعليقات (0)

لاتوجد تعليقات لهذا الموضوع، كن أول من يعلق.

التعليق على الموضوع

  1. التعليق على الموضوع.
المرفقات (0 / 3)
Share Your Location
اكتب النص المعروض في الصورة أدناه. ليس واضحا؟

مفضلات الشهر من القصص القصيرة