للمواضيع والقضايا منطقها الذي تستمد منه فعلها، فتجعلنا نرشف بقوة إيحاءاتها، هذا ما يمكن قوله حول " الموت في لندن " للقاص المتميز " مأمون أحمد مصطفى "، التي تمتد على مساحة أرضية ساخنة تتراوح بين " أفعى من نوع آخر " وحتى يوم من أيام المخيم، الصادرة عن دار كنعان للدراسات والنشر " عام 2010، والتي حملت في مجملها إشارات ودلالات حميمة مثقلة بالمعاني التي أبرزها القلق، والوجع، ولذعة الاغتراب متكئة على وصف دقيق مشحون برصد أدق يعانق الأفق الغوغولي بشكل واضح، وما يعنيه جدل الأسئلة المبطنة المطروحة بلغة رشيقة دون رطانة، عوضت غياب الوطن، والبعد الإبعاد عنه بإعادة المعنى المشرق إليه، وان كان الفاعل في جملة النصوص افتقد الإحساس المادي بالمواطنة، رغم امتلاكه لرمزيتها التي حملت العديد من الوخزات، والشحن المتمكن وان كان بدون ادلجة.
منذ البداية تتداخل الصور والإشارات في قصته " أفعى من نوع آخر "التقليديه التي اجتاحت النص بقوة، وأيضا حالة الحلم التي استحضرت حنان الأم ووجعها كرائحة نافذة، لذيذة تتناقض مع أي رائحة.
" تنشق رائحة غير رائحة ملابسها، غير رائحة عرقها، غير رائحة أمومتها المعهودة، رائحة تفوح من مساماتها لأول مرة، مميزة، ذات نكهة خاصة، لم يستطع أن يحدد نكهتها بادئ الأمر، لكن لحظة أن هوت البندقية على رأسه، انتشرت الرائحة لتغطيه كله، رائحة تراب معذب، يضخ شوقا" ص8.
هذا التوحد الصوفي بين الأم الحلم الوطن عوض القاص فقدانه المادي باللغة، وإعادة المعنى إلى موطنه، وهي في بعض جوانبها تلتقي مع قصة " ولادة " التي تعبر عن تصدي الجسد المغلول للفاشية الصهيونية التي تلبس ما هو أسوأ من محاكم تفتيش القرون الوسطى، والتي لا يسفهها سوى صمود الأم الأرض الشجرة التي رغم العذاب لم ولن تنكسر.
" أنت لا تريدين أن تريهم انكسارك وتلهفك، وهذا أروع ما فيك هذه الليلة، كابري ما استطعت، اضربيهم بسياط صبرك، ودعي الألم يدمي قلبك دون أن يروه " ص 110- 111.
وإذا كان القاص دخل عمق ملامح علاقة الأشياء بأشيائها كمصطلح ابستمولوجي متميز جعل " النصية " في قصة " المدينة " ملاذا ينفي عن البطل الفرد المجموع الحلم شعور الاغتراب، فهو يقدم مسروديته حينما يبرز في إحساسه بالوطن المستلب مستوى من الإحباط.
كما أن الإحساس بالتناغم بين معطيات النصوص في الشكل النهائي بدأ يوهمنا بتشكيل عالم مفقود، هو لدى الكاتب تدليلا مباشرا على إحساسه ذاك الذي راح يكونه أو يعيد تشكيله من خلال بنائه الفني.
في قصته المدينة تتوحد المرأة بالمدينة المكان، تلبس ملامحها، لتشكل الجغرافيا المكانية طرفا أصيلا في بنيان العمل. فعالم النصوص ليس مجرد الإطار المكاني للحركة، لكنه احد العوامل الواقعية التي أخذت عالم النصوص إلى العالم العياني.
عناصر المكان هنا محدودة بدقة بالغة يحتضنها طوفان من التساؤلات، والنقاط البشرية، وفسيفساء الحياة " الكرمية طول كرم ".
" استبد جمالها بي، امتلكني، استثار روحي، شهوتي للحياة، دخل طوفان عارم بأعماقي، فأدركت يقينا بان هذه المدينة مزروعة بقلبي وعقلي، وانها حين تتعرى كل صباح لتمتص أشعة الشمس، إنما تتعرى لي، لي أنا، أنا وحدي ". ص28. هنا تتسرب طقوس الحياة من الجغرافيا لتخلل بنيان القصة، فتشكل عمقها الخفي، (الحياة اليومية المقهى حركة الشارع الحراك الحياتي الرجل الذي تتأسف المدينة لموته)، إنها الممارسات الداخلية التي تمتد من الموت (الرجل صاحب الكلب) وحتى الاحتفاء بالتفاصيل الصغيرة للمناسبات الإنسانية، (فسيفساء الحياة اليومية)، فلا يصبح الإنسان تجريدا أو تهويما أو تعميما، وإنما وجود يتفرس بعمق في التاريخ والجغرافيا دون أن يخضع الأول - في حالة القاص ورؤاه - للثانية.
من العسير دفع قصته " الموت في لندن " المهداة إلى لينا أبو الرب، بكلمة واحدة ( رومانسية واقعية ملحمية )، لكن من السهل أن نعترف بمدى الاتساع الهائل للتعبير عنها، وانسحابها على العديد من الأشكال والمستويات البنائية المحتملة، فالصراع النفسي الذي ينتاب أسرة مريض السرطان التائهة في صحراء الذهول التي لا اثر للسراب فيها، حيث غزو الغربة لهم، هي حالة مواطنة معذبة، ووطئ أكثر عذابا، إنها نسيج كياني متضاد، متناقض، ملتو أيضا ( والدقائق ثقيلة، تزحف كسلحفاة هرمة أعياها التعب، وأضناها المرض)ص55، وطن ينتابه العذاب بسبب التناقض الذي يعايشه، ويستقرئه الناس دون رغبة منهم، ( وبدأت بالتردد اليومي على ذلك الطابق، فاكتشفت معنى التناقض، عرفته عن قرب، كان واضحا جليا في الوجوه التي تنتظر نهايتها) المتناقضة بين النهنهة والدموع، وأحاديث المستقبل والموت.
هذا التحليق الحزين للمريض على سرير المرض ينتهي برؤية فادحة بين الوحدة والتوحد من جانب، وبداية العمل عبر نهاية رحلة سابقة للفشل، ونهاية أخرى ممتدة على طول جسد النص من الناحية الأخرى، وكأنها تشي برحلة أخرى نقيضة، شاراتها تحمل وجه الحرية والفرح والبراءة، فيما يضخ الجزء الثاني وجه العزلة والعجز.
(وفي عيني كانت آية وهي ترتدي ثوب زفاف ابيض، وحيدة، ليس هناك من يمسك ذراعها، وفي عيني أمها، صورة الدكتور مجدي وهو يتقيأ الدنيا تمسكا بها وخوفا من الموت، والموسيقا تصدح، واثنتان، اثنتان فقط لا تسمعانها، لا تحسان بنغماتها، آية وأمها). ص62.
تبرز قصته " تيه " منذ البداية ملامح القتل والترويع المعلق بالخوف الذي ينتابه، والذي يبرره العذاب الإنساني الذي يصفع الصمت اللاذع الذي توسوس به قصته " ضجيج الصمت "، بما تحمله من إحالات يثقلها الكاتب، يطلقها، ثم يرسلها للمتلقي ليصل إلى فضيلة الموت كقيمة حقيقية تذكره بوجودية " كولن ولسون " وأحيانا وجودية " سارتر" المطلقة.
في هذه القصة المتميزة، كراهية للانحطاط اليومي، وهجاء مر للابتذال، وسخط على السلبية والرذيلة، وعطش موغل في رغبته التمسك بالتحقق الإنساني الكامل، هو صوت الرفض من اجل الحقيقي، وصوت الهدم من اجل البناء الصحي، والنفي من اجل الإثبات، ولكي ينتقل الإنسان الحر من خانة المفعول إلى موقع الفاعل الجاد والملتزم ... (سأذكرك وأنت تبحث هناك عن شيء تأكله، ولن أنساك مطلقا، هل تدري أني سأفكر فيك عندئذ؟ ربما زرعت فوقك شجرة، ستغوص جذورها ممزقة أحشائك، ساحبة كل ما فيك غذاء لها) ص76. ليكتمل هذا المشهد بحالة غرائبية شكلت قفلة الحلم في هذا النص الجميل، مما يدفع باستنطاقات كثيرة متداخلة أبرزها السخرية من كل شيء ... (يضحك ملء شدقيه، نظرت ليدي فإذا بمعصمي ينزف، هو يضحك ومعصمي ينزف، هو يضحك ومعصمي ينزف ص77.)
في قصته " ضياع " يتقيأ الكاتب القيم البائدة التي تصدمه، ويصطدم بها، ويواجهها في كل مكان، رغم انه (يحاول أن يوجد الصلة بين وجوده، وبين هذه الرائحة، لكنه كان دائما يفشل، فالخليط " القيء " كما هو متيقن جزء منه، من ذاته، ومكون أساسي داخل تركيبته الصعبة)، انه الرفض المطلق لكل شيء، الرفض الذي يدفعنا للتساؤل فيما إذا (كان متقزز فعلا حين غيب الخليط في جوف المغسلة، فشل كعادته في الحصول على إجابة، فقط فشل) ص81. خاصة وأنه رأى (القيء يغطي مساحات الأفق كلها )82، (ويستجمع صورة المدينة وهي تغوص بعجز متناه في جنون عاصفة من القيء، لكنه فشل في ذلك )82.
الفرز المبطن هنا نوع من الخلاص، اتخذ شكل التأرجح بين الرمل ولزوجة الماء، هو خلاص، وفي نفس الوقت بحث عما يضفي هذا الخلاص، انه فرار الخلاص إلى الغربة والبعد عن الوطن، الغربة المرادفة للأنين، الألم والوحشة التي تحتضنها أشياء العالم، ولكنها في نفس الوقت شرط العثور على النفي الذي يمنح السكينة والوعي، والذي عالجه جدل الأسئلة:
-" فكر في هذا الأمر وسأل ذاته: ما الذي يربطني بهذا الوجود"85.
-" تذكر حلمه، وعاد من فوره ليدور في دائرة فراغ، داخل فراغ". 90
في قصته " ورم " ملامح حادة تجتاح المكان بتحفز مفترس، يدقق في تفاصيل التفاصيل، في محالة تلف المسافة بين الغربة والوطن تحت إبطها، لتصفع الاغتراب وحياة الغربة أو رقمية الإنسان، عبر حقن الحفيدة بتفاصيل المكان (الوطن المكان والمكان الوطن) ليسترجع التاريخ والتراب رائحته وصحته، لأنها الإيمان الحقيقي الذي يعانق رائحة الوالدين ( رائحة إيمان تتداخل وتشتبك مع رائحة أمي وأبي )103.
يتحدث الكاتب في قصة ولادة، عن التعذيب، ودورات الوجع التي لا تنتهي، ورغم أن الواقع الممارس في السجون أقوى من الوصف الذي ابتدعته القصة، إلا أن جمالية هذا النص برز في عمقه الصوفي الذي يعطي السجين عوالم جديدة من المعرفة والتأويل واستحلاب المعاني الجديدة وأبرزها " رؤية الله العودة إلى الله " 117، حيث يتحول السجين إلى قطعة من اللذة اللذيذة، اللذة المشحونة بالنصر الحقيقي، الذي يتقمصه، وهو يتقمص عظماء التاريخ في لحظة واحدة.
في نصوص هذه المجموعة تلمسنا ملامح عدة، دون إشارة فعلية للزمان والمكان بشكله المنفصل، فالحالة حضور وغياب يرفع راية، زمكانية، موحدة، ترفعها قراءة تأثرية لكتابة مغايرة تكشف قناعات هذه النصوص، ربما دون دراية من الكاتب ذاته، فالبطل في معظم هذه النصوص هو المكان الذي شكل هاجسا للكاتب منذ البداية، أكد ذلك الصور المكررة وتشابه المواقف الذي جعلها وكأنها قيمة واحدة مأخوذة بالحلم والحرية والعدالة الحقيقية، والتي حملت جملة من الأشواق والتوق الذي لا يمكن تحققه في وطن السادة والعبيد، والمستعمروالمستعمر، أو الحضور والغياب، فالبطل الواحد الذي يشكل عقدا لجملة النصوص محكوم بالعزلة المريرة، والوحدة الموحشة، والانكفاء، انه عدم القبول بالواقع الراهن، والعطش إلى الحياة الكاملة، ودوام الحلم بها، برغم عدم القدرة على تحقيقها.
في جملة هذه النصوص، نرى انها اتكأت على جملة من الأبعاد التي استطعنا استحلابها.
• 1- البعد النفسي:
في هذه النصوص برز الانفصال المفضي إلى الغربة نتيجة لازمة، ووضعية عامة بائسة تشمل كل شيء، وضعيته تقتحم الداخل الإنساني، فتصيبه بالانحطاط والخيبة والتشوه، وتحول الملكات الأساسية إلى زوائد مميتة تبعث على الاشمئزاز والتقزز، وتجعل الإنسان ينحط، يترهل، ويبتذل، وتنطفئ فيه الطاقة والحرارة، فلا تبقى وسط الزحام المختلط سوى الهمهمات، انه التواطؤ بين الرفض القائم، والقبول الدائم.. " تقدم طفل صغير، شق الحشود، فوجد المدينة تنظر إلى جسد مكوم فوق القيء، جثة هامدة لا حراك فيها، يعلوها الذباب والبعوض، وتنهش جوانبها الجرذان المنتشرة هنا وهناك في المدينة " 91.
• 2- البعد الأمومي:
يبرز البعد الامومي هنا في حميمية المكان، الذي يؤكد أن أزمة الكاتب هنا أزمة مكانية، فرغم تركيز الكاتب على الشخصية المهاجرة دوما، إلا أن مفردات النصوص وصور حالات أبطالها، تحول في غالبها بيننا وبين الشعور بان هناك غربة تباعد بين البطل ووطنه، بل إن هناك مناطق افتراق بينه وبين المكان، ذلك أن الحدث النصي يتشكل فيها بين جملة من الاستنطاقات للمكان والذاكرة معا كما في قصص " أفعى من نوع آخر" و " الموت في لندن "، ( لقد زرعت في رحمها حدثا لا يصنعه إلا الرجال )10، ( ولكني كنت واثقة، نعم واثقة، فانا اعرف بحاستي انك قادم، أنا أم، والأم تعرف كيف تتحرك الأجنة في الرحم )9.
• 3- البعد الموقفي (الوطني الاجتماعي)
ويبرز ذلك بشكل جيد في وصف النصوص لملامح الحياة اليومية في الأرض والوطن، وهنا صورة جلية لعمق الارتباط الوجداني للكاتب، فهو الغائب الحاضر، هو الثابت على الأرض وخميرتها التي تشكل العبر والصمود، وترفض الحياة الدوغماتية المتكلسة والرقمية، (ودار المفتاح بالقفل باكرا، نودي برقمه )11.
• 4- البعد الفلسفي الطقوسي.
هنا ملامح كثيرة شكلت جدل الأسئلة، وما تثيره من أمور برزت في قصته " تيه "، حيث يناقش الكاتب فلسفة التوحد، كعامل ايجابي، وليس كفعل مرضي، ربما ليهرب مما يعانيه كي يعيش عالمه الخاص والمفترض، كذلك حوار الأرواح، لقد وضح الكاتب كيف أن رؤيته لله أنقذته من عذاب المحيط والمزبلة التي يعيش فيها، والتي يشمها ويحس بها، وهنا يبرز التداخل الواضح بين هذا البعد، والبعد النفسي وكأنهما صنوان. (وجد نفسه يتنسم رائحة ما، وجلده متماسك، غير قابل للتساقط، لكن الرائحة غريبة، لا، ليست غريبة، هي معهودة، ولكن من أين تبعث بأنفاسها؟
وحين وضع رأسه بين كفيه، عرف مصدر الرائحة، فهو يجلس على مزبلة، تفوح رائحتها فتدخل بأعماقه، والديدان تزحف مزهوة على ساعديه وقدميه.
لماذا أنا وسط المزبلة؟
أجابته نفسه:
لأنك هنا تستطيع أن تشم وتحس).67
وأخيرا:
لا يسعنا القول سوى أننا استطعنا أن نتلمس من خلال هذه النصوص الإبداعية، وعبر سبيل بلاغي دون رطانة، الجدار الواقع بين الخاص والعام، وتفعيل مناطق الذاكرة بكثير من الحميمية التي تتواصل عبر إبداع المعنى من خلال إبداع الماضي الحاضر، الغياب الحضور، الفردانية والتوحد لكاتب لم يستطع خداع حواسه، وبهدف ترك المستقبل كفعل ورؤية بين يدي المتلقي. ورغم بعض الهنات التي تمثلت في الصور الوصفية لحالات العذاب اليومي التي يراها البعض أمورا تقليدية، ورغم اللغة الواقعية التي تجاوزتها قوانين الحداثة وتطور علم اللغة، رغم مناسبتها هنا لموضوعاتها المطروحة، إلا أن الكاتب نجح بشكل جيد وموفق في إبقاء الوطن كما هو دائما، الخيط السميك الذي يلملم أشلاء الكتابة والحلم الجميل، فالكلمة الموحية المتشظية، والجمل القصيرة المتدفقة والمتدافعة، عبر استاتيكيا النصوص، ظلت وظل الكاتب عبرها يصفع السخف والانحطاط، والرذيلة، رغم العديد من الانهيارات، وكأنه يرى ما لا يرى، وهو ما يحسب للكاتب بحق.
د. خليل حسونة