"لا يبقى العالم كما كان بعد أن تُضاف إليه قصيدة جيدة"
ديلان توماس
من عليائه الشعرُ تنزَّل، فارداً جناحيه على امتداد الفضاء ووُسْع المدى، يعلوه الجمال والكمال والجلال والبهاء، يغسل وجه الوجود، ويُحيي موات الموجودات، يحضن الحائرين والعاشقين والمعذّبين والسائرين نحو الجمال. كُتِب بماء الذهب، وعُلّق على جدار الكعبة تكريماً واحتفاءً وتقديساً، فكانَ بدايةً للكلام والحكمة، وكان ديوان الإنسان والقبيلة، وحامل أخبارهم وأسرارهم وقصصهم ورحلاتهم وحروبهم. دوّن الأخلاق العربية، الكرم والوفاء، الشجاعة والإقدام، الانتماء للأرض وللديار، الحب والحسب، البيداء وصفاء الفضاء مع رحابته..تغيَّر الظرف، وجاء الإسلام بنوره ليضيف قيماً ويلغي أخرى، ويفتح للشعر آفاقا جديدة حيث ارتبط بالدعوة الإسلامية، فانخرط شاهراً كلمته، منافحاً عنها بالكلمة، ومسجّلاً فتوحاته وغزواته وآثاره قصائد. وتتعاقب العصور تَتْرى، يلاحق بعضها بعضاً، والشعر يسير جنبها خاضعاً للتغييرات التي يأتي بها كل عصر، ففي العصر الأموي ظهرت الخلافات السياسية والقبلية والمذهبية، وتحيَّز الشعر إلى الجماعات ينشُر أفكارها ويدافع عنها، ولبس لكل موقف وجماعة لباسها، وتنقَّل بين الفخر والوصف، وبين المدح والهجاء أو خاض في الغزل والخمريات والنقائض..
ثم أضحى عبّاسياً حين انفتح على الثقافات الأجنبية التي وسَّعت مجالاته وآفاقه، فجدَّد ألفاظه، ومال إلى المُحسّنات البديعية والألفاظ الجديدة تبعاً لتطور الحياة، فجاء الشعر رقيقاً في النَّسْج، ودقيقاً في التصوير، ومُزخْرفاً في اللفظ، ومتيناً في الصّنْعة..
وحين هبَّت رياحُ الأندلس، أصبح للشعر طعمٌ جديد وميزانٌ، وأحاطتْ به أَلْسُنٌ تنوّعتْ بين اللاتيني والقوطي والبربري والعبري، نما وتجمَّل حِسُّه وهو يصغي للآذان يصدح من المآذن، وللأجراس تدقّ في تناغم جميل. ازدان حَرْفه حين وصف المنتزهات والعمارة وانساب موشّحاتٍ وموسيقى وغناء..
ثم امتد إلى العهد العثماني حيث تدهورت الأوضاع ولم يتدهور الشعر، لأنه لسان الزمان والوقت، فنشأ البديع والتصوف والمديح والمراثي والملاحم.. ليصل إلينا مُزهِراً، جمع حول محرابه منَ العاشقين والحالمين والغاضبين والسّائرين نحو الحق والحب والجمال، يؤوبون إليه حِصنا حين تشتدُّ الأزمات، وتنقبِضُ دوائر التّوحُّش والقُبح على الإنسان، أو حين يرتاح القلبُ على أعتاب الجمال، فتتَّسعُ رؤاه، فيفرد جناحيه طائرا مُحلّقا مُنْشداً ركنا قويا ينسُج سر الكلام والبوح، أو يَسْرحُ حرّاً في فضاءات لا نهائية لوجودٍ يتّسعُ كلما اتّسع للحرف الكلام، شعراً حرّاً أو نثراً ينقل معاناة وغضب الإنسان، والسير به ومعه على صهوة السِّحر والجمال والدهشة مرة، والغضب والصراخ والمواجهة مرات أخرى..
هو الشعر، بكل الجمال والجلال والبهاء، روح تسري بين أسرار الحبر والحروف ترتُقُ ما انْفرط من العالم المظلم، تُعيد صيانة الحال إلى أحسنه، وتُطرِّزُ أجْنحة الجمال تفْرِدها على امتداد الفضاء واتّساع المدى، لتَجْرف القبح الذي ران على العالم والأرواح، كسرب حمام يُظلل عوالم الرغبة والدهشة والانعتاق، وتُجَدّد أستار الكلام كلما همَّ بالوُجْد شاعرٌ، وكلّما انفتح للبوح قلب أو سما بالروح في علياء الجمال عاشق، أو اقترب من ملكوت الحلم والخيال محبٌّ.
الشعر تاريخٌ وتأْريخه، الماضي والحاضر والآتي، الشعر اتساعٌ حين يضيق القول، وانطلاقٌ حين تنْحَسر جذوة الكلام، كلامِ العيون والقلوب، وحين يفتح القبحُ البئيس لسطوته مسارات، فيُنشئ الخنادق والمتاريس لصدّ كل استهدافٍ يروم الجمال والوجود والإنسان.
الشعر جرحٌ ينفتح على الألم الإنساني حين يسيل دما وحبرا يُلملم شتات ما انفكَّ من عُرى إنسانية الإنسان، ليسكُن حِمى الجمال ويقترب من الأسرار العلوية، يرتُقُ الجراح، ويفتح للعشق في القلب مسارات تموج بالنور تُنعشه، تغْسِله، ترفعه إلى مدارج الإيمان بقوته وسلطانه على التنوير والتغيير والتنبيه.
الشعر هبةُ الكلام وسرّه، به تزدان الأحْرُف ويستقيم الكلام، ويفتح للآتي غوايته، ويبسط بهاءه ودهشته ليفتح عوالم المستور والمشهود من عالم الإنسان المقهور والمُشيَّئ الباحث عن موطئ قدم راسخ. ألم يكن الشعر ديوان العرب؟ ألم يكُن لُغتهم وهويتهم، ألم يكُن تاريخهم وتأْريخ تاريخهم وأحوالهم؟ بل كان «الشعر ميزان القول»1 عندهم.
شيء ما يسمو بك، وأنت في لحظة صفاء كما في لحظة كدر، ترفع عن وجه الجمال خماره، أو تقارع القبح، شيء ما يؤرجحك بين العشق والدهشة، بين الحلم والخيال، بين الصفاء والنور لتُصغي لأنفاس من مروا من العاشقين والحالمين، ومن هم على قيد الفتنة، يحرسون فتنة الكلام وهي تُطرب أذن الزمان، فتقرأ دهشاتهم تميد فوق رؤوسهم وتحت أقدامهم، في محاربهم وفي ساحات حربهم، بين الكتب والصور والحروف العابرة للحلم والواقع، والأمل واليأس، والحب والكره، والجمال والقبح..
في العالم شيء من جمال مختبِئ داخل أسرار الشعر، لا يعرفه إلا عاشقي سحر الغواية ودهشة الولادة وفُجاءة البدايات، الشعر رواء الحائرين وسُقيا العاشقين وريّان العابرين إلى الجمال، ووهجٌ من ضياء يسافر في العروق كأنه ملاك من نور، تسلَّل إلى الروح يلِجُها برفقِ المحب، يحضنها بشوق مثل صديق قديم.
شيء ما في الشعر، يرتفع بك لتصغي طويلا، عميقا لأنفاس الوجود، وتراتيل العاشقين والحالمين السارجين سر الكلام، فَتُظْهِر القصيدة مفاتنها التي تأتي سكنا للروح وراحة للنفس، وتُزهر في الصدر والنفس مثل حدائق الياسمين، وتُعطي العالم أنغاما عُلوية على إيقاعاتها يمّحي الظلم والقبح والفُحش، لأن الغناء من الشعر، وهو سر الوجود ودواؤه.
ما عاد العالم كما أراد له الشعراء أن يكون، عالمٌ يُسَرِّحُ مسْجون الكلام من حناجر الواقفين على أُهبة القوْل، ويَسْرَح أنوار الجمال بين العاشقين في واحات القصيد، ويُسْرِجُ للآتي من زمن القول ما صار في عُهدة النسيان، ويجْلو عنه ما ران على جوانبه من طحالب وفُطر، ليُعْطيَ للكلام سرّه وسِحره، وللصور رونقها وجمالها، وللحياة معنى، لتُزهر رغم قباحات الإنسان.
كيف تدخل القصيدة، ويبقى قلبك خلف أضلعك جامدا لا يجري به العشق، ولا تُغريك الدهشة وأنت تتلو من الشعر ما يُخرجك من حلم إلى حلم، ومن سمُوّ إلى عُلُوّ، ومن صفاء إلى بهاء، ومن كمال إلى جلال، يقرّبك من سر الوجود لتقاوم التلاشي المتربّص بك، وتنبثق منك جذوة النور وشُعْلة الحب.
كيف تغوص في البيت والبيتين من القصيدة، دون أن تستوقفك الصورة أو الدهشة العامرة حد الامتلاء بالسؤال الأبدي الذي يعيد ترتيب الحياة وإنسانية الإنسان؟
كيف تخْتال عشقا في فضاءات الكلمات النّافرة، تبتعد وتقترب، من دلالاتها، دون أن يترك كل همس أو صوت في سمعك جمالا لا يفارق ذهنك لفرْط دهشته وفصاحته وجماله، ومن دون أن ترى دهاليز نفسك لامعة مُشرقة كأنها خُلقت للتّو، وكأن أحلامها وأمنياتها فَرِحَةٌ تصّاعد إلى السماء تُشيّعها أنوارٌ ملائكية، تُرافقها أجنحة من نورٍ وزهْر تودِعُها أسرار الملكوت لتعود إلى جوهرها وقد شُذِّبت وصيغَتْ في حال أطْهر، لِتعود إلى صدرك مرة أخرى نقية بهية.
الشاعر، هذا المرابط في تخوم القول ورباطات الكلام، هذا المريدُ، المنذورةُ حياتُه لِلَمْلمةِ شتات عالم لا يركن للسكون، على أُهبة الشعر، مُنطلقٌ دائما نحو المُطلق والكشف واكتمال الحب، وسمو الروح وطُهر النوايا لإيقاظ الضمائر، في تجاور جميل مع الأمل والألم، والجمال والقبح، والحُب والكُره وكل ما يبعث الروح في إنسانية الإنسان لتجديد صورته في علاقاته بالآخر وبالكون والأشياء.
للشعر، في حضرة الشاعر حين يتلو القصيدة، حين يتلو تراتيله، كأنه قُدّاس قدْسٍ مهيب، منه يتجلى البهاء، طعمٌ آخر، ينظر صوَرَها تتراقص في أعين المتلقين، فيُزهر الحرف داخله، ويدنو دُنوَّ العاشقين من الجمال، يلفه العشق فينسى العالم والمحيط، ويقترب من سحر القصيدة حين يُقَرّبُ المستمع من دهشتها، فتتولّد اللذة ويسقط ما بين الشعر والمتلقي من الحُجُب، وتحضر أنوار التلاقي سحراً بين النظم شعرا والصورة عيانا.
الشاعر، حين يتلو القصيدة، يُشعل مسافات التواصل والتواشج والتلاقي مع السامع العاشق، فتتوالد الصور في ذهن الشاعر كما خطّها أحْرُفا وكلمات، وفي ذهن السامع كما رسمها صورا وألوانا وأحاسيس.
الشاعر، حين يتلو القصيدة، يركبه "الجنون"، فيغوص في العالم حد نسيان ذاته، لتأتي القصيدة فتْحاً رغم غموض معانيها وصورها، وصوتا ينفتح على الجمال يتقرب من المعنى، يسير محاديا الوجود يأخذ منه سر الكلام وينثره على الأسماع وهي منبهرة دهِشَة، تغوص في المعنى أو تقترب منه، تُساءل ما تراكم داخلها، تصوغه صورا وأحاسيس، تقترب أو تبتعد من سر النظم الذي يُطرّز القصيدة، يغسلها، يُشعلها، يفرد أجنحتها لتطير خالصة نقية تقترب من الجمال، تسْبحُ فيه، منه تنطلق وإليه تعود.
الشاعر حارس الجمال والألم، صانع الدهشة والحب، يقاوم وحده، من يده تتدلى عناقيد الأسرار ومفاتيح العالم والحدائق السرية حيث ترعى كلماته وصوره وأسراره.
الشاعر، وهو يقترب من القصيدة يكتوي بجمرها حين يأخذ بناصيتها، كتابةً أو ترتيلاً، يسقي عطش الذات/الذوات التي تلتصق بالأرض، يمنحها أجنحة لترفرف عاليا، أو لترقص رقص المجاذيب في حضرة الجمال، حد تصببها عرقا لتتخلّص من شوائب الحياة، وفي الرفرفة والرقص دواء.
لا تسألوا الشاعر، لم يكتب القصيدة؟ لا تسألوه لم ينْظُم القصيدة؟
اسألوا الشعر، ماذا فعل بالشاعر؟
الشاعر في أقصى حالاته، بعيدٌ عن الأرض، قريبٌ من الخيال والجمال، حارسٌ يُبقي أبواب العالم والأشياء مُشْرعة، تنهل منها الذوات وتقترب، تعيد للوجود سره وللموجودات حضورها البهي، يُزوّق عوالمَ مالت يسارا نحو القباحات التي خالطت الإنسان وأبعدته عن تذوق الشعر.
الشاعر، ما يزال، في فضاءات الإيقاعات والصور والظلال، والأضواء والرموز يبحث عن انفجارها وإشعاعها وترصيصها لتظل الأشياء في ملكوتها نقية، ندية تحفظ للوجود أسراره وتفتح للإنسان إشارات النور يسير إليها مطمئنا سائلا، متسائلا، باحثا عن إشارات تعيد إليه ذاته وما ضاع منها في عالمٍ لم يعد عالماً للعيش والتعايش والوجود، بل متلاحقات من التعثر والانكفاء والجمود والانخناق.. والموت.
ختاما..
الإنصات إلى الشعر لتجاوز الآن بخيباته وقباحاته، وتحدّي لحظات النكوس، وارتياد مواطن الجمال، وفتح مقامات السؤال على مصراعيه، حول الإنسان والعالم.
الشاعر، حارسٌ بصيغة الجمع، يكنس تفاهات العالم، يُنبتُ أزهار الحب، يُثبِّت أوتاد الدهشة، يُسْرج اللغة رَكوبا للعاشقين والسائرين نحو النور، والباحثين عن ملاذ آمن تسكن فيه الروح لحظة، لتنطلق من جديد باحثة عن ذاتها لتخوض موج الحياة وهي فاعلة وسيدة مصيرها.
أبدا، ما كان الشعر صراخا في قصيدة، بل هو القصيدة والقصائد، ولا رُقعة في لباس الكلام، بل هو سيد الكلام، ولا كان قطرة في بحر، بل هو البحر حين يسكن أو يهيج، ولا كان قنطرة للعبور، بل هو العابر إلى ضفاف المعاني لحصد اليقين..
وأبدا، ما كان الشاعر صيّاد حكايا عابرة فاقدة للمعنى، ولا سائسَ كلمات تجتر ذاك الذي اتُّفِق عليه وألزم الألسن الصمت، ولا بهلوانا يساير وقته ضاحكا للقمر.. الشاعر قضية، تتجدد كلماته بتجدد تضاريس الحياة، تشتد حين اشتدادها، وتلين، وفي ليونتها قوة، وعينه على العالم والإنسان.