هل ترتكز الثقافة العربية على مقومات فكرية وقيم يجعلانها تمضي في بناء مشروع حضاري، يرتكز على أسس الحرية والعدالة والمساواة للإنسان العربي، أسوة بتلك الشعوب الحرة التي اكتسبت ثقافة حقيقية مؤثرة، بعد أن استطاعت الإنتصار على قيودها بفعل انحيازها للقيم الإنسانية العظيمة، وأصدرت تشريعات ودساتير هدفها الحفاظ على كرامة الإنسان، وتعزيز حقوقه الأساسية، تستمد قيمها من مبادىء العيش الحر والبناء السليم للأمم وإنجاز التطور الحقيقي ؟
الجواب بظني لا، لم يكن الأمر كذلك، ولم تستطع الثقافة العربية أن ترتقي إلى مستوى هذه المهام، وندلل على ذلك بانعدام القيم الإنسانية التي لايتحلى بها معظم المثقفين العرب مما لا يؤهلهم للمشاركة في بناء مشروع العرب الثقافي، ولذلك غاب النموذج والمثال و لم نسمع عن مناضل عربي إن كان زعيماَ سياسياً أو مفكراً تنويرياً يدعو إلى شعارات الحرية ويناضل من أجل تحرير الإنسان العربي من قيوده مهما بلغت التضحيات، كما فعل غاندي في الهند على سبيل المثال لا الحصر ، أو كما فعل مانديلا في حالة جنوب افريقيا، أو كما فعل العديد من رموز الفكر والسياسة في اوروبا والولايات المتحدة من أجل تحرير شعوبهم من الإستبداد والظلامية. للأسف لانجد أمثال هؤلاء بيننا في الواقع العربي الراهن، بل على العكس فإن أغلبية أهل الفكر والثقافة هم من يدعمون الأنظمة الاستبدادية العربية ويصفقون لزعماؤها، رغم علمهم أن هذه الأنظمة فشلت في صناعة الإنسان على مدى عقود طويلة، ونجحت في قهر الإنسان العربي ومسخه وإبادته نجاحاً باهراً .
حسناً، لقد سقنا هذه المقدمة الضرورية كي نتمكن من الإطلالة على المشهد الثقافي العربي الراهن قبل أن نستعرض أسباب الأزمة، ونحاول الإحاطة بالعوامل التي أدت إلى هذا الإنحدار الثقافي ، فنحن جميعنا نشعر بالسخط والغضب على كل ما تعرضه علينا وسائل الإعلام ،المقروءة منها والمسموعة والمرئية, في الصحافة , في السينما , في التلفزيون , في الإذاعة،وفي المواقع الالكترونية، من أعمال أدبية وثقافية وفنية هابطة، تأخذنا الدهشة حين نرى هذا الكم الهائل حولنا من الانحطاط الفكري والأخلاقي على مستوى القيم والمُثل.
نتحدث هنا عن تهاوي الشعر، وانقراض المسرح، رداءة الموسيقى، هبوط الأغنية، قلة القراءة إن لم يكن انعدامها، إلى العديد من مظاهر الانحطاط والأزمة الثقافية في العالم العربي .
وكنتيجة للتحولات الكبيرة في نمط المعيشة للمواطن العربي، فقد أصبحت علاقتنا بالمعرفة علاقة لا قراءة ولا أهمية لكل أوجه الثقافة المختلفة الفكرية منها والروحية، وبات الشباب العربي يتحصل على المعرفة من الموبايل والفيديو كليب، وهو الشكل الأوسع للتفاعل الثقافي والاجتماعي بين شبابنا، وهو تفاعل لاينتج عنه إلا مزيدا من التشويه الفكري والاجتماعي لهم،وهو إضافة إلى ذلك تواصل أظهر كل عيوبنا الأخلاقية والاجتماعية وعقليتنا القبلية، وعكس نمط تفكير الإنسان العربي.
في سعينا لإلقاء بعض الضوء لفهم أسباب هذا الانحطاط، لاشك أننا نبحث أيضاً عن التغيير وإزالة هذا الواقع، بيد أن أية جهود بنية التغيير دون وعي وإدراك لحجم وعمق هذه الإشكالية لن تثمر. فمالذي يجعل الثقافة بمكوناتها المتعددة منحطة، وما الذي يدفع بأنماط المعيشة وبالحقوق الأساسية للبشر ومنظومة القيم إلى الانحدار ؟
إن الإجابة الموضوعية على هذه الأسئلة - ما أمكن ذلك - ليس هدفها الحصول على السلام الفكري وإطفاء نار الحيرة، بقدر أهمية طرح أسئلة أكثر وأعمق وأشمل من أية إجابات قد نصل إليها، فحين نستطيع تحديد الإحداثيات الصحيحة لهذا الضياع، نكون قد وضعنا أول حجرة في حائط الخروج من متاهة هذا الانحطاط .
من يدقق في خارطة الاعلام العربي بكل أشكاله، ويقرأ الأدبيات السياسية العربية، اليمينية منها أو اليسارية، ويتابع التحليلات الفكرية لمنظري الثقافة والفكر العربي، سواء في اللقاءات التلفزيونية أو المنتديات الثقافية أم في المقالات اليومية أو الاسبوعية في الصحف والمجلات ، وينظر الى المزاج الشعبي العام، يخلص الى نتيجة مفادها أننا نعيش في مرحلة انحطاط ثقافي هائل، فهذا الركام من التلفيق السياسي، والتضليل الثقافي، والترقيع الفكري،والنفاق الاجتماعي، والتسطيح في التحليل، والهذيانات اللغوية، والخطب الحماسية، واستغفال القارىء او المشاهد، واطلاق التهم بالعمالة جزافا، واستسهال الأحكام ،واستعجال النتائج، وتشويه الآخر بتعمد أو عن جهل به، وحوار الطرشان بين الأفرقاء، هي الصورة الأبرز في المشهد الاجتماعي والسياسي والفكري في العالم العربي اليوم.
-;-وإن جاز لك أن تسأل عن أحوال الثقافة العربية اليوم فهي غارقة في ذاتها، ثقافة نرجسية، عنصرية، تعتمد على تفسير مسطح للنص المقدس، ثقافة تدعي بانها ثقافة خير امة أخرجت للناس، ثقافة لا تبتعد كثيراً عن الثقافة الأخرى المعادية لها، فهي لا تبتعد عن الطروحات الصهيونية التي تعتمد على النص العبري، المقدس أيضاً، في ان اليهود هم شعب الله المختار، وان العرب هم خير امة أخرجت للناس. ثقافة ممسوسة بهاجس المؤامرة، فالكل يتآمر على العرب، أوروبا وأميركا، والسوفيت سابقاً، والفرس، والبربر، وقبائل أفريقيا، والاكراد، دعاة حقوق الانسان والمجتمع المدني، دعاة الدفاع عن حقوق المرأة والأقليات الدينية، بل كل من يدعو للاحتكام الى العقل.
ثقافة مصابة بالحول المزمن وبعمى الألوان، فهي لا ترى سوى الأبيض والأسود، بل أنها لا ترى سوى الأسود، ثقافة لغوية، لا موقع للعلم، والبحث العلمي فيها، ثقافة سياسية تافهة، لا تنظر أبعد من أنفها، ثقافة مريضة، صماء، لا تسمع من يحاورها، بل لا تدرك سوى ما تقوله هي، ثقافة مصابة بحمى العداء للغرب ، رغم أن جميع أموال هذه الدول موجودة في بنوك غربية ، و قادتها يتوسلون رضا الدول الغربية في الغرف المغلقة، بينما يناصبونها العداء في المهرجانات والاحتفالات، واذا مرض أحد من وزرائها أو زعمائها، او أحد من أبنائهم فليس هناك سوى المشافي الغربية والأطباء الغربيون، بل أن طغاتها الذين خلعتهم الدول الغربية أو الولايات المتحدة لا يحلمون سوى بمحاكمة في محاكم الغرب، فهي أرحم بهم من أبناء جلدتهم، ورغم ذلك نشتم الغرب و أميركا ليل نهار بنية إقناع الشعوب بأنها دول ذات انتماء وطني .
ثقافة عربية تدَّعي أن الدول الغربية تسعى لتدميرها، وتدمير تراثها، وتقاليدها، وأصالتها، بينما لا تعترف المؤسسات التعليمية العربية والجامعات العربية إلا بالشهادات الصادرة من الدول الغربية والولايات المتحدة، ثقافة تحافظ على لباسها، بينما معظم ادوات الزينة للمرأة العربية تأتي من الدول الغربية ومن الصين واليابان وأمريكا، اقلامنا، طاولاتنا، وسياراتنا، دواؤنا ، أثاث غرف نومنا ، بل وسلاحنا الذي نشتريه لنحارب به الغرب يأتي من الدول الغربية نفسها، حلمنا وكابوسنا وحياتنا وموتنا مرتيطان بالغرب ، نتبجح بالعداء للغرب وجل حلمنا أن نحصل على جنسية إحدى الدول الغربية ،المصيبة بظني أننا نجهل الغرب، نجهل الثقافة الغربية والأمريكية ، نجهل مكوناتها، وكتابها و مفكريها وفلاسفتها وتاريخها .
لكن هل هو الحنين إلى الماضي، مايفسر حالة السخط التي نشعر بها الآن بسبب مانرى وما نقرأ ؟ الماضي ليس البعيد، حين كانت وسائل الإعلام تقدم متعة أكثر وفائدة أكبر، وهل هو شعور يبدو صائباً ؟، أم أن الإنسان مسكون بغريزة الرفض لكل ماهو جديد، وبالتالي ترتفع قيمة القديم لأنه أصبح سلعة نادرة .
فهل يبرر- على سبيل المثال- عدم تواصل المبدعين في الواقع العربي وندرتهم في كافة الميادين العلمية والفكرية حالة الإنحطاط الثقافي ؟
الجواب بظني لا، دعونا نتأمل فيما هو أوسع وأشمل، فإن فعلنا فإننا سوف نلحظ على مساحة شاسعة أسباب ومبررات هذا الانحدار، ونظن أن بعض هذه الأسباب هي أسباب مرضية تحتاح إلى معالجة، وبعضها الآخر نعتبره من الأمراض التي تصيب أية حالة نمو، وبالتالي هي أمراض ضرورية كي نصل في الحالة الثقافية إلى الصحة والعافية .
لغاية الربع الأول من القرن العشرين، كان التعليم ينحصر على أبناء الطبقة الحاكمة وأبناء الذوات، ولم يكن في مقدور الشرائح الاجتماعية من أبناء العمال والفلاحين وعامة الشعب من ارتياد المدارس والجامعات، وكان يقول ابناء الصفوة الذين احتكروا التعلم أن الماء في النهر إذا تُرك يتدفق من غير ضوابط فإنه سوف يغرق ما حوله من الأراضي، لذلك فإن الجدوى الحقيقية من فائدة الماء تكون في ضبط النهر.
وفي المقابل، تعالت أصوات عدد من المفكرين المتنورين تدعو إلى إشاعة التعليم وتعميمه على الجميع، وعدم حرمان أحد من حق التعلم، وأن العبرة تكون في اتساع قاعدة التعليم ، التي سوف توفر حاضن حقيقي للإبداع.
وبذلك احتدمت رحى معركة نظرية بين المفكرين لاختلافهم حول هذا الأمر، استمرت ردحاً من الزمن إلى أن جاء وقت أصبح فيه التعليم متاحاً لكافة أبناء المحتمع ، ثم تحول ليصبح تعليماُ إلزامياً ومجانياً في معظم الدول العربية ، وفيما بعد تحولت القضية إلى نقاش حول معالجة وإصلاح عيوب التعلم ومنظومة التعليم، وهي لاشك عيوب ومشكلات تعكس قصوراً في إتمام رسالة التعليم، وليس في الرسالة ذاتها .
إلا أن اتساع دوائر التعليم بسبب انتشار وسائل الإعلام ، ابتداء من ظهور المطابع الحديثة التي رافقها ازدياد هائل في أعداد الصحف والمجلات والدوريات المطبوعة، وكذلك الكتب الدراسية والمناهج التعليمية، ثم ظهور الإذاعة وانتقال الأخبار والمعلومات المسموعة غبر القارات، ثم ظهور دور السينما ودخول شاشات التلفزيون إلى كل بيت وما حمله هذا التطور المهم من وصول المعلومة إلى كل إنسان وهو يجلس في منزله، ثم ظهرت الأقمار الصناعية وصحون الإلتقاط ، ثم نعم العالم بالشبكة العنكبوتية التي جعلت العالم قرية صغيرة.
كل وسائل الإعلام هذه تصل بمضامينها إلى كل الناس، وتخاطب كافة الشرائح الاجتماعية، وكافة الفئات العمرية ، وكافة السكان من حضر وريف، إنها تخاطب كافة المستويات العلمية، حتى من لايعرف القراءة والكتابة .
هذه التطورات العلمية التي تقاطعت مع اتساع التعليم، لاشك نتج عنها ارتفاع نسبي في مستوى التعليم ، وفي مستوى الوعي الاجتماعي-نسبياً- لدي غالبية الناس ، وبالتالي أحدث هذا الأمر ارتفاع في مستوى المعيشة في معظم البلدان العربية، فحصل تفاعل عميق ومثير، من خلال أقبال الناس على شراء الكتب وقراءة الصحف وارتياد دور السينما ، ومتابعة الأعمال التلفزيونية، فأصبحت مصادر التثقيف من صحيفة وكتاب وبرنامج تلفزيوني وفيلم سينمائي، محكومة باعتبارين الأول: أن الجمهور الأكبر من المتلقين أصبح من الناس شبه المتعلمين، وبطبيعة الحال فإن وسائل الإعلام تفضل هذه الشريحة ذات الأغلبية العددية في العالم العربي، تفضلهم على أن يكون جمهورها ومتابعيها قلة من المثقفين والمتعلمين، وذلك بسبب عقلية التاجر التي تحكم أصحاب هذه المنابر الثقافية الذين هم أصلا في غالبيتهم العظمى أناس يديرون أعمالاً وليسوا أصحاب مشروع ثقافي، وبالتالي كان من نتيجة هذا الوضع أن انتشر الإنتاج الثقافي والفني والأدبي الهابط الذي يخلو من أية قيمة فكرية أو علمية أو ثقافية .
العامل الثاني الذي حكم مصادر التثقيف : هو أن تعدد واتساع وازدياد وسائل الإعلام بكافة فروعها، حولها إلى شيئ يشبه ماكينة تبتلع كل مايرمى لها، ماكينة لاتتعب ولا تشعر بالشبع وتطلب المزيد دوماً .
فلنلاحظ ماحصل، الصحيفة في البلد الواحد أصبحت مجموعة صحف تطبع وتوزع مئات الآلاف من النسخ اليومية، بل أنه في الولايات المتحدة الأمريكية يبلغ متوسط بيع وتوزيع الصحف اليومية ذات الشأن العام حوالي ستين مليون نسخة،والقناة التلفزيونية أصبحت آلاف القنوات، وصل عددها في العالم العربي إلى 1294 قناة فضائية فقط في نهاية العام 2014 ، ووسائل الإعلام نهمة وتحتاج إلى طعام بشكل متزايد، تحتاج إلى إنتاج فني وثقافي، فأخذت وسائل الإعلام هذه تتلقف كل مايصل بين يديها من أعمال، ولأنها كما أسلفنا مؤسسات تتعامل بعقلية التاجر فكان عليها أن تقبل بالثمار المتعطنة إلى جانب الثمار الناضجة الزاهية ، وذلك بسبب أن سوق الطلب أكبر كثيراً من العرض . هذا الأمر ساهم في وصولنا- إلى جانب أسباب مهمة أخرى- إلى حالة الانحطاط الثقافي، ولكن في ظني أن هذا العامل وتأثيره في هذه الحدود التي ذكرناها يكون علة من العلل التي ترافق النمو، وذلك لأنه ما من شك في أن مستقبل الإنسانية وازدهار البشرية وتطورها مرتبطان بتوسع رقعة التعليم وازدياد أعداد المتعلمين، ومرتبط أيضاً بتعدد وسائل التخاطب الثقافي، وبالزيادة المضطردة لكافة وسائل الإعلام، وبالتالي فلابد لنا من أن نتوقع هذه الظواهر والأمراض التي تلحق بالجسم الثقافي كله والعمل على رصدها ومعالجتها في حينه حتى نصل إلى العافية .
فماذا حصل خلال مرحلة النمو؟
إن الأسئلة الفلسفية والفكرية الكبرى والهامة قد تحولت من كونها متعة للحراك العقلي والمعرفي وتنشيط للذهن عبر الاتساع والتنوع والتعدد في المشارب الفكرية، إلى التسطيح البليد في تفسير الظواهر والاشياء، وتم دفع الثقافة إلى مساحة اللون الواحد الذي لايقبل مشاركة ألوان أخرى معه، وقد طال هذا التحول الخطاب الديني ومذاهب ومعتقدات الناس، وبدلاً من أن يكون الفكر الديني ينعم بالحرية في الحركة والتطور خارج ضوابط وقوانين قصور الواقع الراهن، فقد تم تقزيم هذا الفكر الديني حتى يتلائم مع ضحالة الواقع بتشعباته و الاقتصاديةتناقضاته الدنيوية، بحيث اختلط هذا الخطاب الديني مع غيره من الشعارات السياسية المرحلية، ومع مفاهيم متعددة أخرى على الصعيد الوطني والقومي، وتشابك حتى مع الخطط الاقتصادية في العالم العربي، ولكم أن تتخيلوا ما الذي نتج عن هذا الخلط العشوائي والامتزاج بين عناصر فوضوية.
وكذلك تحولت الفنون المختلفة من النشاط والفعل الروحي والوجداني العميق، من شيء له بهجة التصوف، إلى سلعة تتحكم بها قواعد السوق والاستهلاك، وأصبح المطلوب سلعاً خفيفة تخاطب الحواس لا الفكر، ولاتترك أي أثر بعد استخدامها، حتى تتيح مجالاً لسلع أخرى تنتظر أن يتم استخدامها واستهلاكها، وهي سلع ومنتجات أكثر رداءة من سابقاتها وأكثر سطحية،وهي بضائع تعمل على إجراء تحول عميق في معايير تقييم مايعرض من منتجات ثقافية وفنية وفكرية، تحول المعايير من النوع كمقياس أساسي، إلى مفاهيم تعتمد معيار الكمية ثم الكمية الأكبر التي تخدم الاحتياجات الاستهلاكية للناس وإعفال الفكر والروح.
ومن جهة أخرى فإن القيم والأخلاق قد تلوثت وبهتت وغابت أو انزوت في العديد من المجتمعات العربية، وظهرت بدع وصرعات ثقافية غريبة عن محتمعاتنا، وكثر الجدل واتسع حول بعض المفاهيم المفاهيم التي كانت موضع إجماع فيما مضى ، واستولدت عشرات التفسيرات للوطنية والقومية، وتم محاربة القيم الإنسانية التي كنا نتشاركها مع العالم أجمع، وتم اعتبارها زندقة وفعل ينتقص من الولاء للوطن وينزع الإنتماء عن من يعتقدون به، وبالتوازي تم محاولة -ومازال- جر الأمة إلى الحزبية والطائفية والمذهبية والتعصب الفكري والتشدد الديني، وشاعت ثقافة التكفير والخروج عن الجماعة،والدعوة إلى الجهاد، بالرغم من أن دنس الإحتلال الصهيوني في قلب القدس الشريف منذ عقود ولم يستجر حمية هؤلاء صراخ اثكالى ولا دموع اليتامى بعل الاعتداءات اليومية من الصهاينة على الشعب الفلسطيني- على سبيل المثال لا الحصر-، وبدأت ثقافة النبش في الماضي تعبيراً عن عجز مواجهة أسئلة الواقع، وحاولة استحضار قوالب نمطية جامدة للدلالة وتحجيم الآخرين وتكفيرهم إن اقتضت الحاجة .
إذن فقد تفرقت الأمة الواحدة إلى مذاهب وطوائف وفرق وقبائل لاتعد ولاتحصى، وكل منها تعصبت لأفكارها وكفّرت البقية، فغابت لغة العقل ولغة الحوار، وحل محلهما التناحر والتقاتل ، وتم توظيف الدين للحط من قدر الآخرين، فانقسم المجتمع الواحد، فانغلقت بعض القوميات والأقليات على نفسها نتيجة تجاهلها وتجاهل حقوقها، أو نتيجة لخشيتها من عدم قدرتها على الاستمرار في مواصلة طقوسها المعتادة، مما جعل االشرخ واسعاً بين أبناء البلد الواحد، وانتشر الجهل بكل تجلياته بين شرائح واسعة في المجتمعات العربية، وأصبحت هذه الفئات الداعم والممول الرئيسي لكافة حركات التعصب والتشدد، ترافق ذلك من سوء حظ الأمة، انفصال النخب الفكرية والثقافية عن المجتمع انفصالاً شكل شرخاَ بين هذه النخب وبين عامة الناس، فغاب الدورالذي كان يجب أن تقوم به هذه النحب وغابت معه مسؤوليتها .
وحتى تكتمل الصورة - بظني- علينا أن نلتفت ونستعرض بعض الأمراض الثقافية والظواهر التي قد تستفحل، وقد تصبح مزمنة - هذا إن لم تصبح بعد - من أجل توحيد الجهود لمعالجتها، لأنها تسبب خطورة شديدة على مجمل الجسم الثقافي برمته، وربما تقضي عليه إن تأخرنا في المعالجة، أو أخطأنا في التشخيص، وسوف نحاول هنا أن نذكر أبرز هذه الظواهر.
أولاً- المباشرة وفوراً في تحسين وإصلاح العملية التعليمية في الوطن العربي، بشكل يلحظ تبديل فلسفة التعليم من مجرد عملية تلقين وحفظ واستظهار المعلومات غيباً من غير فهم، إلى عملية تكوين وبناء شاملة للطلاب وتنمية وتحريض مقدرات وإمكانياتهم، فقد أدت المناهج العقيمة إلى القضاء على التفكير الذاتي وعلى قتل الإبداع، وإلى تضخم أعداد الظلاب الذين يتخرجون من الجامعات بشهادة دون أي تحصيل معرفي حقيقي، وهذا الأمر ساهم في تحجر عقول الطلاب والمدرسين على حد سواء. علينا تطوير التعليم بما ينهض في الأساس على تنمية قدرات المعلم وشحذ مهاراته وصقل إبداعه، والأهم منحه كافة حقوقه المالية والمعنوية حتى يتفرغ تماماً لتعليم الطلاب، ولايضطر إلى العمل كسائق تكسي في مهنة موازية، وتطوير الإدارات التعليمية، وتقوية العلاقة بين المؤسسات التعليمية والمجتمع، وربط التعليم بخطط مستقبلية على كافة الصعد ، والكف عن سياسة التجريب والارتجالية في هذا الميدان المهم ، علينا الإسراع في هذه الخطوة واعتبارها إحدى خطوات تطوير أدواتنا الثقافية مما لها من انعكاس ايجابي على مستقبل المجتمع .
ثانياً- زيادة الإنفاق على مراكز البحث العلمي، في الدول العربية التي قامت بإنشاء هذه المراكز وبقيت كأماكن وظيفية يلتقي فيها أصحاب الشهادات العلمية العليا، حين لاتجد الدولة مكاناً شاغراً لهم - ياللسخرية-، والعمل على تفعيل هذه المراكز وتنشيطها لتكون رافعة التطور المستقبلي ، والمباشرة في إحداث مراكز بحث في الدول التي لم تفعل ذلك بعد .
لقد كان العرب- ومايزالون- بعيدون عن المشاركة في الإنجازات التي حققها عصر الصناعة، لهذا السبب استمر العرب في استيراد المنتجات والبضائع من الآخرين، ولم يشاركوا أيضاً في الأبحاث الذرية، وليس لهم أية مساهمة في علوم الفضاء، واكتفوا بأن يكونوا جالسين على المدرجات ويتابعون مباراة يجهلون قوانينها ، والسبب الرئيسي وراء هذا الابتعاد هو عدم إنفاق المال على البحث العلمي وكانه رفاهية غير ضرورية .
ولكي ندلل هلى أهمية الإنفاق على مراكز البحث العلمي فإننا نسوق بعض المعطيات والأرقام الصادرة عن هيئات دولية، فالولايات المتحدة تنفق 400 مليار دولار على الأبحاث العلمية سنوياً، الصين تنفق 300 مليار، اليابان 160 مليار . أنا إذا أردنا النظر قائمة الدول وترتيبها في الإنفاق على البحث العلمي من حيث احتساب نسبة الإنفاق من الناتج القومي لهذه الدول فلاتتفاجأ إن كانت اسرائيل على رأس تلك القائمة، اسرائيل التي تنفق حالياً 4,2 في المائة من دخلها على الأبحاث والتطوير، وهي نسبة تبلغ أكثر من 9 مليار دولار سنوياً، تليها كوريا الجنوبية 3,74 من دخلها بماقيمته 55 مليار دولار، بينما في الدول العربية - ياللعار- فإن نسبة إنفاق الدول العربية على البحث العلمي تبلغ 0,3 من دخلها القومي !!
ثالثاً-البدء بالإهتمام بقطاع الترجمة، فالابحاث الدولية تُظهر ضعفاً ووهناً وعدم كفاءة في السعي إلى المعرفة واكتشافها في العالم العربي، وهنا تظهر قلة الترجمة كمؤشر على ذلك، فبينما يتم ترجمة عشرات آلاف الكتب سنوياً في الغرب، لايتم في العالم العربي سوى ترجمة 3000 كتاب،ولم يعد خافياً أهمية الترجمة كونها أحد أهم أدوات التبادل الثقافي والمعرفي، وتلعب دوراً مهماً في بناء الجسور بين الشعوب، وردم الهوة بينهم،وتبرز في هذه المرحلة أهمية استثنائية لترجمة الآداب العربية إلى اللغات الأجنبية، لما تحمله من مضامين ثقافية وحضارية خاصة في ظل الوضع الراهن حيث ترتبط صورة العربي بالعنف والتشدد، فالعرب قديماً كانوا أصحاب رؤى عميقة حول أهمية الترجمة، لذلك نلاحظ أن أهم مراحل الحضارة العربية، هي المراحل التي اتربطت بالاهتمام بالترجمة واعتبارها جزءاً من النظرة السياسية والعلمية والاستراتيجية الشاملة للدولة .
رابعاً-التخلص من ظاهرة تعليب التجارب وتسطيحها، فكثيراً من المثقفين العرب والمفكرين يميلون إلى نزعة تبسيط التجارب العلمية والثقافية والحضارية والمعرفية لنا ولغيرنا من الشعوب، ويقدمون لنا أنماط الحياة في قوالب جاهزة معدة مسبقاً، فنظرتهم للتراث مثلا توحي على أن تراثنا العربي بكافة مكوناته عبارة عن مجموعة من الصناديق والكتب والرموز والقادة، وكل مانحتاجه في الحقيقة أن نقوم فقط بكشف الغطاء عن هذه الصناديق واجتراع الحلول، وكأننا لانهتم بالعنصر الزمني الذي يؤكد معنى النمو والتطور ولايلغيه كما يرى هؤلاء ، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ينظر اصحاب منهج التعليب إلى الحضارة الغربية أيضاً كما لو كانت كيان واحد ومكونات واحدة تصلح لكن الأماكن والأوقات، ويتجاهلون الاختلافات المهمة التي تنشأ من اختلاف الأمكنة والأزمنة وتعاقب العصور، فلا يمكن بحال نقل تجارب الآخرين نقلاً ميكانيكياً لايأخذ بالحسبان ماتتعرض له النظريات والنظم في حال تطبيقها ونقلها من الورق إلى الواقع ، وفي حال نقلها من بيئتها إلى بيئة أخرى ، ماتتعرض له من تغير وتبدل في مكوناتها ومفاعيلها . ومن سوء حظ هذه الأمة أن هذا المنهج الصبياني قد وصل إلى الخطاب الديني، فدعاة العودة إلى الشريعة الإسلامية السمحاء، ينظرون لشعاراتهم من خلال تقديم التجربة الإسلامية كمنتج جاهز للإستخدام الفوري، دون أن يلحظوا جملة المتغيرات الكبيرة والعميقة التي شهدها المسلمون والدول الإسلامية، وعلى كافة مناحي الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشرعية أيضاً والتي لم يكن لها شبيه في عهد نشأة الفقه الإسلامي الذين يريدون هؤلاء أن يعيدونا إليه .
خامساً- تنتشر في الساحة الثقافية العربية نظرية الأحادية، وهي ليست نظرية جديدة، لكن مفاعيلها السلبية بدأت بالتبلور والتأثير على قطاعات واسعة من المثقفين خلال الثلاثة عقود الأخيرة، وهي نظرية لاتؤمن بالكلية في نظرتها التاريخية للأحداث، وتقر بدلاً عن هذا بفلسفة التخصيص والتجزيء، ولاترى الأحداث في سياقها التاريخي على أنها تراكمات بينها ترابطاً عضوياً ويحكمها قانون واحد لايتجزأ وهو التاريخ العام للبشرية.
إن من أبرز النتائج الكارثية لهذه النظرة الأحادية أن انقسم المفكرين في العالم العربي، بل انقسم جيلاً كاملاً بين فريقين ، الأول انحاز إلى الماضي على اختلاف عصوره، ورأى أن الطريق الوحيد أمام العرب هو العودة إلى ماكان يفعله الأجداد، وإلى أنماط الحياة السابقة في الاقتصاد والسياسة والحكم، وفريق آخر اختار الحاضر الراهن، واختار الأفكار المعاصرة وأشكال الحياة الحديثة، ورفض رفضاً قاطعاً كل ما له صلة بتركة الماضي، بينما الحضارة العربية بل الحضارة العالمية الإنسانية هي نتاج مكونات متعددة، ساهمت في صنعها شعوب مختلفة وأجيال متعاقبة وثقافات متنوعة، تأثرت فيما بينها وأثرت في بعضها البعض، وكان من الممكن أن يشكل هذا التنوع مصدراً للثراء المعرفي والغنى الثقافي، بدلاً من تحويل الساحة الثقافية العربية، إلى ميدان حرب بين أنصار السلفية وأنصار الحدثة، وهي معركة سببت وماتزال بؤس لكل مكونات الأمة العربية باسرها، فالنظرة الأحادية مرض يجب الانتهاء منه، فهي نظرة تنم عن جاهلية ضيقة، ولاتقبل بوجود الآخر،فهي أوضح تجسيد لمقولة -من ليس معي فهو ضدي- وهي بطبيعة الحال نظرة لاتعبر عن فكر متحضر يسعى للتطور.
سادساً-هناك ظاهرة أخرى مهمة تشكل واحدة من معيقات التطور الثقافي، وهي قضية عدم وضوح الأهداف في الحركة الثقافية العربية بالرغم مما يبدو ظاهريا عكس هذا الاستخلاص، فإن الثقافة وحركة الفكر الإنساني بشكل عام تكون قادرة على النمو والتطور بمقدار اقترابها وملامستها لأهداف واضحة ومحددة، فالتكوين الثقافي لأي مجتمع لابد من أن يضع نصب عينيه معالجة مشاكل المجتمع، فمن المهم جداً أن تشعر كافة شرائح المجتمع بأن الحركة الثقافية تخدم مصالحها وتقترب من همومها، فإن شعر الناس أنهم جزء مهم من المشروع الثقافي السياسي والاقتصادي الاجتماعي يصبحون مواطنين فعالين، لأن الثقافة تخدمهم وتحقق مصالحهم، وبذلك ينخرط الناس في عملية تغيير الواقع بهدف تطوير وتحديث المجتمع ، وهكذا تتم التحولات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الكبرى لأسباب تنبع من قناعة الناس والمجتمع وحاجاتهم المادية والمعنوية ولاتفرض قسراً عليهم.
إن مهمة الفكر والثقافة هي مهمة مزدوجة كما نراها، السيظرة على الطبيعة وتفسير الظواهر الطبيعية بشكل علمي، ومحاربة النظريات الغير علمية، وبناء المجتمعات البشرية وتطورها ووضع الخطط والآليات وفق مناهج علمية محددة من جهة ، ومن جهة أخرى القيام بتنظيم العلاقت الاجتماعية الانسانية ، والعمل على إشاعة الحريات العامة، واحترام حقوق الإنسان، وتحقيق قيم العدل والمساواة، وقيادة مشاريع التنمية الأجتماعية والاقتصادية بما يحقق رفاهية الفرد، فماذا نفعل نحن في العالم العربي إذا كان التخلف المنتشر في بلداننا والجهل والنسب العالية من الأمية والتسرب من المدارس يجعل من المهمة الأولى للفكر والثقافة مهمة غاية في الصعوبة، فإن التقدم المادي والتطور التقني يمكن أن يصيب المهمة الثانية للفكر في مقتل، ففي مجتمعات مثل مجتمعاتنا، يعيش فيها التخلف مع بعض التقدم جنباً إلى جنب، تبرز ضرورة ملاحظة نوعين من القيم، قوانين الحركة والتطور والتقدم المادي، وقوانين تنظيم نوعية العلاقات الاجتماعية بين الناس،لأن أي فكر لايؤدي إلى خدمة قيم أخلاقية محددة مثل احترام قيمة العمل بحد ذاتها، وضرورة اتقان العمل اياً كان نوعه، واحترام المواعيد ... الخ هو فكر متخلف يعيق التطور الفكري ولايخدم الثقافة، ومن جهة أخرى فإن اي إنتاج فكري وثقافي لايلحظ ولايأخذ بعين الأهمية قضايا جوهرية مثل قضايا الحريات العامة، وفصل السلطات عن بعضها، وضرورة احترام القوانين وعدم تجاوزها، هو فكر عبثي يهدد التطور المجتمعي، ومن هنا يمكن ملاحظة الأهمية الكبيرة لمعالجة هذه القضية ومقاربتها بواقعنا العربي الراهن، بدلاً من أن نستهلك طاقاتنا الفكرية في تغذية روح العراك والجدال بين الفكر ونفسه .
سابعاً- عدم ممارسة النقد والنقد الذاتي، وذلك لأننا شعوب انفعالية وعاطفية بالفطرة والتربية والسلوك، ولدينا نزوع نحو التفسير الغيبي للظواهر من دون الالتفات نحو الأسباب والمقدمات التي تؤكد عليها التعاليم الدينية، ومعظم الشعوب العربية تعاني من ذهان لايرى الأمور إلا في اتجاهين، إما أنها أهداف سهلة التحقق، أو أنها أهداف مستحيلة، وكذلك من الأسباب التي تعيق النقد في الواقع العربي، الأنانية والفردية والعدائية والميل إلى المبالغة في الأشياء .
إن عملية النقد هي عبارة عن مراجعة مستمرة للفكر والثقافة بهدف التقويم والإرتقاء، ولكن في العالم العربي كثيراً ما ينشغل البعض بتوجيه النقد للشخص وليس للفكرة، فيتم التشهير بالأشخاص وينشغلون عن الهدف الرئيسي .
إن مهمة النقد الفكري والثقافي هي إعادة تنشيط حيوية الفكر وتصويبه وتطهيره من الأخطاء والإنحرافات والخروقات وكافة أشكال الفساد والتعطن الفكري، وإعادة بناء وضياغة الثقافة بما ينسجم مع واقع الحياة، ومن دون عملية النقد والمراجعة فإن الفكر والثقافة تتحول إلى فعل رتيب وممل ثم يصيبها الجمود والتحجر ثم الإنهيار.
وفي غياب التفكير النقدي تغيب الصرامة في النقد وتطغى المجاملات في المشهد الفكري والثقافي، وتحل سياسة اللف والدوران حول الأفكار، ويؤدي إلى التخندق الفكري وظهور النزاعات وانتشار فلسفة التبرير الغير علمي في مواجهة النقد الحر الذي هو شرط رئيسي من شروط الديمقراطية الفكرية التي يجب أن تلازم المشهد الفكري والثقافي في الدول العربية .
لقد ارتبط النقد بعصر التنوير والمبادئ التي رفعها في التحرر والتقدم، وهذا شكل بداية مرحلة جديدة برز فيها الدور الهام للنقد ودوره ووظيفته في تطوير المعرفة الإنسانية، وحينها تم حمل شعار أن كل شيء ينبغي أن يخضع للفحص النقدي لرفضه أو قبوله، ومنذ ذاك الوقت اكتسب النقد قوته الحقيقية في تطور المعرفة ونقد مضمونها وليس شكلها .
إن ممارسة النقد لمحاولة فهم الفكر ومن ثم فهم العالم ومحاولة تصويبه أو تغييره، يقوم بتحقيق تهيئة الوعي الجمعي والفردي بأهمية دورهم وفاعليتهم في إعادة الإعتبار إلى الذات المنكسرة، واستنهاض الطاقات والمقدرات الإبداعية الكامنة لكشف مواضع القوة والضعف وتحريض الناس لرفض مايكبل حرية الفكر والثقافة وتقدمهما، فالنقد هو جدل العقل وممارسته تستوجب تأهيل الفكر لممارسة النقد للذات وللآخرين بحرية دون ضغظ وإكراه لأن جوهر النقد هو الحرية .
ثامناً- التخلص من التبعية بكافة أشكالها وألوانها وأنواعها وعلى كافة الأصعدة المتداخلة والشائكة، فما التبعية إلا عبارة عن مجموعة من العلاقات السياسية الاقتصادية الفكرية تشكلت تاريخيا وتدريجياً بعد انتهاء فترة الإستعمار المباشر في بلادنا، تهدف إلى الحفاظ على الأنظمة السياسية المتخلفة التي تدين بالولاء للغرب، ومحاربة اية محاولات من قبل أطراف حركات التحرر التي تسعى نحو تحقيق استقلال وطني حقيقي لبلدانها، ومحاولة سلخ شعوب المنطقة عن هويتها الحقيقية وانتماءها وعزلها عن تاريخها وعن واقعها أيضاً ومحاولة هدم حضارة هذه الشعوب من الداخل .
ولعل الأسباب الحقيقية لهذه التبعية الثقافية لدى العديد من النظم والأنماط وكذلك المفكرين هو الاغتراب عن الذات والقطيعة مع المكونات المضيئة في تاريخنا، ومن ثم وقوع النخب الفكرية والثقافية العربية في شراك الاستشراق وتبني موقف الغرب المشوه من المشرق ومكوناته ، وهو أمر وصل بالبعض إلى تأييد الوصاية الثقافية والعلمية من قبل الغرب على بلداننا .
الملاحظ أن الرعيل الأول من مفكري النهضة لم يتسنى لهم معرفة الظاهرة الاستعمارية على حقيقتها، ولكن في مرحلة الجيل الثاني مثل جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ، تبلورت مخططات الغرب، ولكن المقاربات التي أجراها هؤلاء النهضويين العرب من الجيل الثاني والثالث كانت مقاربة أيديولوجية وليست معرفية علمية، لأنهم كانوا منشغلين أكثر في تعبئة الجماهير واستنهاض الهمم من أجل زج طاقات الشعب في معركة التحرر والاتسقلال .
وبعد عدة عقود من الاستقلال ، تقف الثقافة العربية على مفترق طرق، بعد الكثير من التجارب والأحداث، فقد تعمقت إلى حد كبير الأزمة الثقافية وباتت أكثر تعقيداً، وبعد أن ثبت أن الاستقلال لم يكن ثابتاً ولاكاملاً ، وفي عصر عبور القارات، يتعرض الفكر العربي للتحديات القديمة الي يعاد إنتاجها من قبل الغرب المدعوم بسيظرة القوة الاقتصادية والعسكرية والسياسية، ونجاح وطغيان الثقافة الغربية على الثقافات الأخرى لايعني ابداً تفوقها الأخلاقي على ثقافتنا العربية التي تراجعت في مختلف العلوم لغياب القاعدة المادية العلمية .
تاسعاً- أزمة الحوار فقد غابت عن المشهد الفكري والثقافي في الوطن العربي ثقافة الحوار، فمعظم المفكرين والمثقفين انقسموا في شلل ومجموعات فكرية عصبوية ضيقة، وتقوقعوا على أنفسهم بدلاً عن القيام بدورهم الأساسي في أن يكونوا في الطليعة في نشر ثقافة الحوار وفي التصدي للمهام الثقافية والاجتماعية، والكثيرين منهم للاسف أظهروا نرجسية فكرية وتعالي واتسم تعاملهم مع الآخرين بالنظرة الفوقية، الأمر الذي ساهم في عزلهم وانعزالهم بدلاً عن الأنفتاح على الآخرين وثقافتهم ومحاورتهم والقبول بالاختلاف الذي هو سنة الكون .
ترى معظم المثقفين والمفكرين يرددون أن تعدد الآراء والمواقف والنظريات دليل غنى حضاري، وحتى الخطاب الديني يؤكد على أن الاختلاف هو خير ورحمة للأمة، لكن من النادر أن يجري أي حوار باللغة العربية بين أي اثنين من دون تنابذ بالألقاب وشجار وصراخ، فإذا تبنى أحدهم موقفاً من أية قضية من القضايا الفكرية أو الثقافية أو السياسية، حتى أصبح صدره ضيقاً بكل من لايشاركه موقفه ويبنى رأيه ، وتصبح القضية الرئيسية هي عبارة عن معركة لتصفية الخصم، والنتيجة استنفاذ طاقة الجميع، وإحباط المتحاورين، وتحويل النقاش إلى جدل أفكار تدمر بعضها البعض، بدلاً من استخلاص قيمة الحوار بموقف ثالث بدلاً من استمرار الدوران في حلقة يوحد فيها فقط الفكرة ونقيضها.
وتعود الأسباب الحقيقية لهذه الإشكالية إلى أن معظم الأنظمة السياسية العربية هي أنظمة استبدادية تمارس القهر والقمع وتغيب عنها مفردات العدالة الاجتماعية والحرية، وهذا الأمر يشكل تربة مناسبة لبروز ظاهرة التسلط ونمو الأنا الفردية بمفاعيلها المتعددة مما يشكل بيئة ينمو فيها أشخاص يميلون إلى النزعة الديكتاتورية ذوي الرأي الواحد والموقف الواحد الغير قابل للحوار أو النقاش، اي أن التسلط السياسي يشكل أحد أهم أسباب تراجع واضمحلال ثقافة الحوار بين مكونات المحتمع لأن الحوار والتحاور كسلوك اجتماعي يسعى فيما يسعى إليه بلورة الوعي الجمعي يتناقض مع السلوك الفردي .
عاشراً-الإبداع ، فقد أفلسنا إبداعياً أو على وشك،كلنا نلاحظ غياب الإبداع عن مختلف المكونات الثقافية والعلمية، وأصبحنا نعاني من النمطية والتقليد والتكرار والنقل، وكذلك غياب الإبتكار والتجديد في شتى المجالات، وذلك كنتيجة حتمية لغياب المبدعين العرب . إن أزمة الإبداع في الفكر والثقافة العربية مرتبطة بالظروف العامة التي تحيط بالأمة العربية، فالإبداع لايكون ولايتحقق إلا إذا سقطت الأسباب التي تعيقه وتمنع تحققه، ورغم الطابع الفردي للإبداع بشكل عام إلا أنه يحتاج إلى توفر شروطه المجتمعية، فحين يقف الواقع أمام معالجة واحترام حرية الإنسان وحقوقه في الفكر وفي التعبير يبدأ الإبداع في الظهور . إن الإبداع كإنتاج حر للخيال والعقل ، يتطلب الوعي والمعرفة ويشترط الإرادة الحرة فلا يتبلور إلا في أجواء ومناخات الحرية والديمقراطية، ورغم وجود بعض المبدعين في المشهد الثقافي والعلمي، إلا أنهم أشبه مايكونون فلتات قدرية نمت وترعرت وسط كم كبير من القهر والقمع في مجتمعات عربية في معظمها لاتقبل إلا بالتوافق الكامل مع شروطها وضوابطها وموروثها الثقافي والاجتماعي، وأية محاولة للخروج عن هذه المسلمات يعتبرونها نوع من الهرطقة وتكال تهم الإنشقاق والزندقة لمن يتجرأ على الوقوف في وجه هذا الجدار الأصم .
إن غياب الإبداع كان سبباً رئيسياً ظهور فئة من المتاجرين بالثقافة والفكر والفنون بمعرفة سطحية للقيمة الحقيقية لأي منتج أبداعي ، فقاموا في إغلاق الأبواب في وجه المبدعين الحقيقيين بشتى المجالات، وبذلك وضعوا كل العثرات أمام الإنتاج المثمر والمتميز والحقيقي الذي يمنح المتلقي الفائدة والمتعة، وقاموا بالترويج للأعمال الإبداعية الهابطة التي تحرض فكراً ولاتخدم أية قيمة أخلاقية أو معرفية ولاتمنح أية متعة ،فانتشر الفن الهابط، والأدب الهابط، والموسيقى الهابطة .
أخيراً : إننا نحتاج بشدة إلى عملية إنعاش ثقافية شاملة تعيد إحياء الخصوصية الثقافية العربية، بما يضمن التخلص من حالة الإنحطاط والردة في المشهد الثقافي، وبما يلحظ سؤال المستقبل الذي يؤشر على حيوية ثقافتنا وقابليتها للتطور وقدرتها على الإبداع الذاتي والاستنباط المعرفي لمواجهة جملة المشكلات التي تواجهها، وتضع حداً لحالة التراجع الفكري والعلمي لإعادة استنهاض مقدرات الأمة، وهذا لايمكن تحقيقه إلا بتقوية الجدار الثقافي على أسس متينة، ليكون هذا الجدار قادراً وجاهزاً لاي موائمة تفرضها التطورات التاريخية بين الانفتاح على العالم وعلى ثقافاته المحتلفة ، وبين شروط وضوابط الحفاظ على خصوصية الثقافة والحضارة العربية .
وهنا يظهر الدور الهام والمفصلي للمفكرين والمثقفين في التجديد وإحداث ثورة فكرية داخل المجتمعات، وأن يكونوا في طليعة النهوض ، وعليهم أن يلعبوا الدور الرئيسي في الحراك الفكري والثقافي والاجتماعي التي تشهده بلدان المنطقة، وعدم الركون إلى حالة الركود في بعض الدول الأخرى التي تؤدي إلى أن تتأسن الأفكار وتصبح عرضة لنمو البكتريا وتكاثر الجراثيم فيها ، وهذه هي الوظيفة الحقيقية للمفكرين والمثقفين .
إننا جميعاً بلا استثناء مسؤولون عن الفكر والثقافة وعن هذه الحال من التردي والإنحدار التي وصلا إليها،والعمل المضني بهدف جسر الهوة بين الأمة ومستقبلها وبين الإمكانيات والطاقات التي تختزنها الأمة، وذلك بهدف النهوض الحضاري عبر وعي وإدراك الذات وتحرير قدراتها عن طريق العلم والفكر والمعرفة والنقد .
لقد حان أوان استيقاظ الأمة العربية من سباتها، وذلك لن يتحقق إلا بإعادة التصالح مع أنفسنا،وإعادة الاعتبار إلى كافة العناوين الفكرية والأسئلة الثقافية، وإعادة صياغة الوعي الجمعي لأبناء الأمة بما يحقق الإنحياز إلى مكونات الثقافة التي تنتج قيماً ومعرفة تدفع بشعوب المنطقة إلى مصاف الأمم المتقدمة،واالكف بشكل نهائي عن هذا الخواء الفكري والفراغ الثقافي والدجل العقائدي الذي استشرى في جسد الأمة .