" أؤلئك الذين يحلمون بالنهار يعرفون أشياء تهرب عن أؤلئك الذين يحلمون بالليل" هل تصدق مقولة الشاعر الامريكي ادغار
الآن بو عما يمثله الحلم في السينما؟ وكيف تعاملت السينما مع الحلم؟
ومن أين يأتي الحلم؟
من هنا!
السينما هي فن الحلم، حسب سيغموند فرويد. وتتأسس في مجال بصري بطبيعتها، فهي غالبا تعتبر ك" مصنع للأحلام"، حيث المتفرج يلج في حالة ثانية لأناه التي تتماهى مع شخصيات الفيلم. أما السينما فهي تقدم العديد من الأدوار المتعددة: السينما فرجة، متعة، رابط بين العوالم المتخيلة والواقعية. وهي نسخة مصورة من الحلم بدون أن تفقد علاقتها بالواقع، لكن السينما تتعالى عن هذا الواقع لتقدم هذا المتخيل القريب من الانتظارات العميقة للمتفرج.
السينما والحلم: مصنع الأحلام
احتلت السينما مساحة شاسعة في إبداعات العديد من المخرجين السينمائيين بالرغم أن موضوعة الأحلام في الشاشة الكبيرة عادة ما تم التعامل معها على أنها وقائع موازية أو بديلة في محاولة لشرح الأبعاد المتعددة للحلم بطريقة أو بأخرى. فكما يقول أندري جايد " ليس هناك أدب جيد بأحاسيس جيدة" كذلك شأن السينما، وهنا يدخل علم النفس من البوابة الكبرى للسينما من أجل فهم الشخصية وميكانزماتها وكذا التلاعب بالجمهور والتعامل معه من منطلقات نفسية.
أغلب من يشتغل في قطاع السينما ينطلق من مسلمة أساسية أن السينما في طبيعتها وبنيتها هي " مصنع للأحلام". كما تجسده بطلة الفيلم " المرأة في النافذة" (1945). وهو ترجمة بصرية وتصور للمدرسة الانطباعية للمخرج الألماني فرانز لانغ، لكابوس مزعج، حيث تأثير النظريات النفسية لسيغموند فرويد حول الشخصية وتمثلاتها الجنسية والإحساس بالخطيئة، وأهمية تأويل الأحلام في السينما، وذلك في سياق تاريخي هو السينما السوداء الامريكية.
فإذا كان الحلم يشتغل وفق صور دالة فإن نفس الوتيرة تشتغل بها السينما لذا نجد هذا التقارب بين التيمات والانعكاسات التي يخلفها الحلم والسينما على بعضهماالبعض.
فالسينما تبحث عن إشارات اللاوعي المحرَرة من خلال المحددات الفيلمية " شخصياتها المتخيلة والأمثلة المتكررة والصراعات الكامنة لأبطالها و عمليات البناء السردي والثوابث الشكلية والحركات الفنية و الاستراتيجيات الفرجوية لسياق التلقي الفيلمي " . دون اغفال الاهتمام المشترك لما سبق ذكره من طرف محترفي الصحة النفسية ودارسي الفن السابع.
ليس عبثا أن نجد المخرج ألفريد هيتشكوك من أكبر صناع الأحلام بمجموعة من الأفلام القوية في هذا المجال، فقد حاول أن يؤسس للعلاقة مع الجمهور من منطلق مبدأ واضح: أن الجمهور يرغب أن " تمنحه المتعة، إنه نفس الشيء حينما يستيقظ من كابوس...". وقد سجلت السينما بعد هيتشكوك هذا التأثير القوي في صناعة الفرجة السينمائية انطلاقا من فيلمه " تذكار" (1945) حيث شكل لحظة تاريخية في بناء الشخصية النفسية في السينما. المُشاهد لهذا الفيلم يمكن أن يقع تحت تأثير علاجي للمريض حيث تظهر الانعكاسات النفسية لشخصيته، ويمكن تحقيق نوع من التماهي مع البطل. هذا الفيلم ينطلق من رواية نفسية عميقة .. تتحرى المخاوف الانسانية الطبيعية وتكشف زيف البورجوازية ويمتزج فيها الغموض بالإثارة. فيلم " ذكريات ريبيكا" يتحدث عن رجل ثري يقطن بقصره فَقَدَ زوجته "ريبيكا" في حادث غرق لتنتابه الكثير من الذكريات المزعجة والتي يسعى إلى طردها ولكن دون جدوى ...وهو تأسيس سينمائي مبكّر لرعب الأماكن وأهميتها وسطوة شخصية غير موجودة "ريبيكا" وعمق نفسي وسيكولوجي شديد و بذلك خلق الفيلم اثارة قوية في سيرورته الدرامية .
هيتشكوك ليس المخرج الوحيد الذي ربط انعكاساته السينمائية بالحلم، مخرجون أخرون متأثرون به من بينهم المخرج لويس بانويل الذي يقول أن " السينما هي حلم مًُنجٓزٌ " . بمعنى أن مخرجا ما يقوم بإنجاز هذا الحلم في شكله السينمائي.
السينما والحلم: العلاقة المعقدة
وجد العديد من المخرجين أنفسهم في صلب التفكير في علاقة السينما بالأحلام، وهي علاقة أكثر ثراء وتعقيدا وجموحا بمواضيع مثل " السينما ماكينة للأحلام" أو " الشاشة نافذة إلى اللاوعي" ، لذا نجد العديد من الأفلام تشكل الأحلام جوهر قصصهاوتتخللها بطرق مختلفة وأكثر ابهارًا.
فيلم أخر لا يمكن القفز عليه، شكل منعطفا في تاريخ الفيلم النفسي وهو "شارلوت هولمز العصري" (1924)والذي يكتشف و- يستغل - التواصل الأمثل بين السينما والحلم. في نفس السياق يبحر بِنَا فيلم " حلم الحب الخالد" للمخرجين هنري هاواي و بيتر ايستون (1935) حيث الأحلام عبارة عن مشاهد من دراما عاطفية ومن رغبة تكبلهاالقيود ومن حب يذهب أبعد من الموت، كذلك يمكن أن نستحضر فيلم " الساحر أوزو" حيث يتحدث عن سفر خيالي كله اندفاعات متهورة يمثل الحلم جوهرها.ويرى الكثير من المحليين النفسانيين وكذا النقاد أن أعمال ودي ألان ، تعتبر حالة نموذجية لسماته الشخصية في رؤيته السينمائية ، معتبرين أن فيلموغرافيته تمثل سيرته الذاتية والتي كان يهدف من ورائها التحرر من التوترات والمخاوف ولا تأكيدات للكوميدي اليهودي عبر أفلامه الكوميدية.
يتخذ الحلم كذلك في فيلم " طفولة إيفان" للمخرج الكبير أندري تاركوفسكي شكل حَلٍٓ حيث يظهر الطفل إيفان متحليا بالشجاعة والشرف في لحظة كان العالم محفوفا بمخاطر الحرب والبؤس والتراجيديا. ومثل الحلم هنا جزءا من الهروب من الواقع.
فيلم ينحو نفس المنحى " افتح عينيك" للمخرج أليخاندرو أمينبار حيث يدور هذا الحوار القصير والجوهري بين بطل الفيلم سيزار والمحلل النفسي:
- سيزار: أن تحلم معناه الكارثة
- المحلل النفسي: هذا حلم جميل، حديقة، أطفال يلعبون، فتاة تهواك...
- سيزار: لهذا حينما تستيقظ ترغب في الموت.
ومن أجمل الأفلام التي استحضرت فن الاستيلاء أثناء النوم على أسرار العقل الباطن فيلم " خيبة أمل " للممثل الشهير دي كابريو حيث البطل له قدرة فائقة على التحول إلى رجل له قيمة كبيرة في عالم التجسس ولكنه متابع من طرف العدالة وبالتالي فرصته الوحيدة هي الوصول إلى حياة عادية.
علاقة السينما بالحلم هو حديث عن أول فيلم سوريالي في تاريخ السينما من اخراج انغمار برغمان " الفراولة البرية" حيث الأستاذ بورغ ( من أداء فيكتور سوجوستروم) يحلم بحلم مزعج وليس من اللائق الحلم بجثة لذا كان عليه العودة إلى طفولته من أجل البحث عن السعادة والفرح. وهو شخص ينتظر الموت في نهاية حياته ويبرع برغمان في كسر أسلوب السرد الفيلمي وهو يخلط بين الحلم والرؤية والحقيقة. وهذا ما يذهب إليه الشاعر الامريكي ادغار الأن بو بقوله " كل ما نراه إذا لم يكن حلما، سيكون مجرد حلم داخل حلم". وهنا يمكن أن نستحضر فيلم "رغبة الحب " (1962) للمخرج جون هوستون الذي يتأسس سينمائيا وفق نظرية اللاوعي.
يمكن أن نتحدث عن حالة مميزة تظهر جلية في السينما السوداء في أمريكا الشمالية والتي تكشف في عمقها عن مجتمع مهمش، يعاني تحت البشرة، يظهر اللاوعي لمجتمع متشكك ومتشائم، ويصور بدقة عبر التحقق العميق في آليات التعامل للذهنيات داخل هذا المجتمع.
السينما العالمية: تاريخ من الحلم
لم تتوقف السينما عبر مسارها التاريخي من تقديم مجموعة من الأفلام اتخذت من الحلم موضوعة مركزية لها ومن بين هذه الأفلام نجد: " كابريا" (1914) من اخراج جيوفاني باسترون، " الطفل"(1921) للمخرج شارلي شابلن، " بسمة السيدة بودي " (1922) جيرمين ديالاك، " كلب أندلسي" (1928) وهو شريط قصير للمخرج الإسباني لويس بانويل، فيلم " هنري أبيتسون" (1935) اخراج هنري هوتاي، " زوار المساء" (1942) للمخرج مارسيل كارني،
" جمال الشيطان" (1949) للمخرج روني كلير، "جميلات الليل" (1952) للمخرج روني كلير، "ابحار السفينة "
( 1983) للمخرج الايطالي الكبير فدريكو فلليني، تم الفيلم العالمي الكبير الذي نال مجموعة من الحوائز واستقبل بحفاوة كبيرة من قبل النقاد" حدث ذات مرة بأمريكا" (1984) للمخرج الكبير سرجيو ليوني، " الأحلام الهاربة" (1984) للمخرج جوزيف روبين، فيلم " برازيل " (1985) للمخرج تيري جوليان، " لقاء " (1997) للمخرج روبير زيميكس، " عيون وايد المغلقة " ( 1998) للمخرج العالمي الامريكي ستانلي كوبريك، " من هنا إلى أحلامنا " ( 1998) للمخرج فانسو روبين، " غرفة السحرة " (2000) اخراج
كلود ميلر، "طريق مولهوند " للمخرج دافيد لانش "، " السقوط" (2006) للمخرج تارسيم سانغ، " علوم الحلم " (2006) للمخرج ميشيل غوردي، " حلم " (2008) للمخرج الكوري كيم كي - دوك، " السيد لا أحد" (2009) للمخرج
جاكو فان دورميل، " مُتخيل الدكتور باسوس" (2009) للمخرج تيري جوليان، " أليس في بلاد العجائب " ( 2010) للمخرج الأمريكي تيّم برتون. ولنفس المخرج " ادوارد بأياد فضية"، " لوفلي بونز" (2009) للمخرج بيتر جاكسون، " " طابو" ( 2012) للمخرج ميغيل غومز...
الحلم والواقع في السينما: المستويات المتعددة
هذه العينة من الأفلام التي انطلقت منذ بداية الحرب العالمية الأولى إلى يومنا هذا والتي لم تتوقف واتخذت الحلم بكافة مقوماته و أشكاله موضوعة أساسية للتعبير عن الكثير مما يسكن الذات البشرية من أغوار ومن تحديات. كذلك تبرز هذه الفيلموغرافية عن الأهمية القصوى التي منحتها السينما لهذه الثيمة بقصص متنوعة وطرق ورؤى اخراجية تسكن مبدعيها وممثليها ومخرجيها.
مما يستدعي طرح سؤال عميق، هل عالمنا هو نوع من الحلم الكبير؟ وهل توجد مستويات من الواقع داخل الأحلام التي تقدمها السينما؟
يقال أن الأحلام لن تكون حقيقية إلا إذا طالت واستمرت، ولكن لايمكن أن نقول نفس الشيء عن الحياة. بالنسبة لأرسطو يعتبر الحلم نوع من أنشطة العقل، إمكانية أن تصبح هذه الأنشطة واضحة وجلية في الحلم، وأيضا وسيلة لمعرفته مستغلا المستويات اللاشعورية التي تسمح بوضع أسئلة ميتافزيقية. كمثال أي نوع من الحلم والوهم، أو أنه توجد درجات من الواقع بدراسة الوعي في الحلم. عندما نحلم يكون لدينا الإنطباع أننا في الواقع، إمكانية مجابهة هذين الدرجتين من الشعور التي تقود إلى رؤية الواقع سواء برؤية خاطئة أو بوهم كما في الأحلام!
فالمستويات التجريبية للحلم تستطيع أن ترمز إلى درجات مختلفة من الواقع. مستوى يبرز حياة الشخص وهي تمر في غفوة من الحالم. وهذه الوظيفة تكشف أننا نوجد في قلب الحلم أو أننا في قلب الواقع.
هذا التماثل بين الحلم والواقع أو التماهي بينهما يعكس إلى أي حد استفادت السينما من علم النفس ومن مستويات الخطاب داخل هذه المنظومة بارتباط مع طبيعة الحال مع مستويات مختلفة من الواقع، وحتى حينما تقدم السينما المشاكل اليومية بالهروب إلى الحلم من الرقابة ومن الإكراهات المفروضة عليها وذلك قصد معالجة بعض القضايا الشائكة تحت غطاءات الحلم.
الأحلام الهاربة والأحلام المؤجلة
يحاول بطل فيلم " الأحلام الهاربة" للمخرج جوزيف روبين القبض على أحلامه لكنها تأبى الإمساك بها، فهل يمكن القبض على الأحلام كما على الجمر؟ بطل آخر في فيلم الشهير " حدث ذات يوم في أمريكا " يرغب البطل الامساك بتلابيب أحلامه الطفولية المتمثّلة في الحب والإخلاص والصداقة ولكنها تنكسر على شوكة المراهقة. فتتحول هذه الأحلام إلى أحلام مؤجلة يسعى البطل إلى تحقيقها.
غالبا ما تنحو السينما إلى تصوير الأحلام في أشكال وألوان ضبابية وقزحية، وأجواء رومانسية يسعى من خلالها المخرجون إلى احداث نوع من التقابلات . إن ما يحدث في الحلم هو صور للواقع وأن ما تنقله السينما بلغة شاعرية تجعل المتلقي ينغمس في بُطُون هذه الأحلام. في فيلم فرانسو وارد" من هنا إلى الأحلام" ينطلق المخرج بشكل عكسي، فعلى بطل الفيلم أن يجابه الواقع بشكل مختلف للانطلاق إلى الحلم.
علاقة أخرى نجدها في موضوعة الحلم ولها ارتباط كبير بعالم السحر والسحرة، حيث غالبا ما تقدم هذه النوعية من الأفلام الأبطال السحرة وهو يحلمون ويسافرون ويجبون البقاع ويتحولون إلى أشكال مختلفة يسعى من خلالها الحالمون والسحرة الامساك بالحلم كما هو الحال في فيلم " غرفة السحرة" للمخرج كلود ميلر.
من خلال الاطلاع على الفيلموغرافية السينمائية العالمية والاطلاع على قصصها العالمية في حقل الحلم، يبدو للمطلع طرق تبرير الأحلام وتقديمها وإعادتها في أكثر من مرة كما هو حال فيلم " أليس في بلاد العجائب" الذي قدم في أكثر من مرة وبأكثر من صيغة انطلاقا من سنوات الخمسينات من القرن الماضي إلى يومنا هذا. مما يستدعي طرح سؤال ماذا تعني هذه النوعية من الأفلام التي قدمت في أكثر من مناسبة وبأكثر من شكل بالاضافة إلى سهولة القصة كما بطلة فيلم "سندريلا" في أفلامها المتعددة، نجد فيلم " أليس في بلاد العجائب "، يستهوي المنتجين ماديا وكذا المخرجين بتقديمه بحلة فانتازية مع التقنيات الجديدة التي أصبحت تتوفر عليها السينما والتي تصور الأحلام في قوالب فانتازية تجعل المتلقي في حيرة من أمره وأكثر اندهشا من الدقة في التصوير والإخراج كما هو الحال في أحلام " هاري بوتر "، الذي يمتزج فيه الحلم بالفنطازيا بروعة القصة وأساليب تصويرها. نحن إذن أمام تقنيات جديدة تقدم عوالم لقصص ألفناها ولكن لم نألفها في أساليبها الجديدة التي تنحو نحو الإبهار والدهشة، ألم تكن السينما منذ عهد المخرج جورج مليس تسعى لتحقيق الدهشة والإبهار.
تبقى العلاقة بين السينما والأحلام أكثر تعقيدا وغنى وجموحاً، وتطرح أبعادا مختلفة لهذه العلاقة التي تحتاج للكثير من الدراسة والتحليل وسبر الأغوار.
عبدالله الساورة/ كاتب وناقد سينمائي من المغرب