سنبحث في السّحر بدءا من المادّة المعجميّة ثمّ محموله الاصطلاحي حتّى نقف على أهمّ خصائصه ووظائفه، وذلك في إطار دائرة علائقيّة ركناها الأساسيّان النّبوّة والشّعر.
ولمّا كان أصل اهتمامنا هو الحداثة الرّومنطيقيّة، فإنّنا سنحاول تفسير انعطافة الخطاب الرّومنطيقي نحو الخطاب السّحري، وجدواها في مستوى الحضور في العالم وفي مستوى بناء الملفوظ الشّعري إن وُجدت.
لقد ورد في اللّسان« وأصل السّحر صرف الشّيء عن حقيقته إلى غيره فكأنّ السّاحر لمّا أرى الباطل في صورة الحقّ وخيّل الشّيء على غير حقيقته، قد سحر الشّيء عن وجهه أي صرفه»[1]، فالسّحر– من خلال هذا التّعريف المعجمي- قدرة على المناورة والمداورة وشذوذ عن نهج المباشرتيّة، وعليه تتجلّى إحدى أبرز سمات هذا الخطاب وهي سمة الإلماح والإيحاء في مقابل الإيضاح والإيصال. ويمتنع إذّاك عن تأدية الوظيفة الإبلاغيّة أو الإفهاميّة ليستحيل ناهضا بوظيفة تأثيريّة تنقل متلقّي فعل السّحر من حالة إلى أخرى، أو من وضع مكين إلى وضع طارئ فـ« نفوس السّحرة لها خاصّية التّأثير في الأكوان واستجلاب روحانيّة الكواكب، للتّصرّف فيها، والتّأثير بقوّة نفسانيّة أو شيطانيّة »[2]. فالخطاب السّحري ليس سليل عالم منظّم بمقاييس العقل ووفقا لإواليّات المنطق، وإنّما وليد عوالم سديميّة مدارها الانفعالات والأهواء والنّوازع المكتومة عرفا، وتلك السّديميّة الأنطولوجيّة سيقع إخراجها إشاريّا (مشهديّا) بكيفيّة لا تضمن التّواصل الإشاري، ولغويّا على أساس إرباك العلاقات العموديّة والأفقيّة القائمة على التّواطؤ وإحلال منتوج لغوي شاذّ في تركيبة دوالّه، غامض في ناتجه المدلولي، وبتعبيرة أخرى« يصحب هذا العمل كلام مفهوم وغير مفهوم ورسومات وإشارات لتسخير الأرواح، وإنّ ما يفعله مفهوم عند جنوده، وهم الجنّ والشّياطين »[3] فعلى على غرار النّبيّ الّذي يتقدّم عارفا بالغيب، محدّثا بأسراره، بإيعاز من قوى علويّة، يتبدّى السّاحر منتهكا للمحظور بسند من أعوان ماورائيّة تجسّر له اجتراح المعجزات، وإتيان الفعل الخارق. ولعلّ ذلك هو السّبب في إدراج كلّ من الفعل السّحري والنّبوي تحت عنوان الأسراريّة، إذ أنّ « العلوم الخفيّة التّقليديّة هي السّحر magie، القبالة kabbale، التّنجيم astrologie، الخيمياء، العلوم التّنبؤيّة »[4].
ومثلما استقرّ السّحر استنكافا لقوانين العقل وموالاة لرياضة نفسيّة مستغلقة، كذلك عُدّت النّبوّة حدثا ممتنعا عن الفهم لأنّها خرق لكلّ السّنن المتعارفة بل إنّ النّبيّ ذاته لا يمكن أن يرهص بالآتي ويزيح ستائر ملكوت الألوهيّة إن لم يرقص خارج حصون العقل المتحجّرة مكتسبا من بوارق روحه الباطنة أجنحة تنزع به نحو عرش الحقيقة في كلّيتها، فـ« نفوس الأنبياء عليهم الصّلاة والسّلام لها خاصّية تستعدّ بها للانسلاخ من الرّوحانيّة البشريّة إلى الرّوحانيّة الملكيّة ...»[5]. ما نلحظه هو أنّ منطقة التقاء النّبوّة والسّحر هي الوجدان، تلك المنطقة الأصيلة في الإنسانيّة كافّة ولكنّها مضمرة ومستترة وليس من منهاج إلى درك جوهرها والاستلهام من ثرائها إلاّ الاعتراف بقصور المناويل العقليّة والإقلاع عن الاعتداد بها، بل– بلغة نيتشه-اعتبار الجسد في شموليّته هو العقل[6]. وكأنّنا في هكذا حالة إزاء إنسان بعد أن تلقّى تعاليم الأسلاف اكتشف ضحالتها، قرّر ضرورة الإعراض عنها من أجل الانخراط في لحظة من النّقاء مشابهة لحقبة الطّفولة، والطّفولة إنّما نعني بها عهدا إنسانيّا بدئيّا سمته تفتّح الكيان، واللّغو بلغة الوجدان؛ يقول روسّو:« ولمّا كانت الأسباب الأولى الّتي دفعت الإنسان إلى التّكلّم هي العواطف، فإنّ تعابيرها الأولى كانت استعارات. لقد كانت اللّغة المجازيّة هي أوّل ما تولّد. أمّا الدّلالة الحقيقيّة فكانت آخر ما اُهتدي إليه »[7].
ومن المعلوم أنّ نبوءات الأنبياء وطلاسم السّحرة إنّما تراهن على التّرميز والتّشفير تلاؤما مع طبيعة السّرّ الملغزة، هذا الّذي يدفع نحو تلبيس الخطاب حتّى يبقى متحصّنا من الإفشاء، ومن ثمّ يحافظ على هويّته. كما أنّ الأبعاد المجازيّة والاستعاريّة والرّمزيّة الباعثة على إرساء التّعمية في الخطابات المذكورة تتناسب مع مصدرها المظلم ماثلاً في النّفس، ومع وظيفتها الّتي يفترض أن تكون إشباعا نفسيّا لا إقناعا عقليّا، وتوريطا للمتلقّي في الخطاب لأنّه في هذه الحال مستهدف ومنفعل به. ولئن رُمي الأنبياء بتهمة السّحر فإنّ ذلك لم يكن من باب التّحجيم من قاماتهم أو التّقليل من شأنهم، بل هو اعتراف ضمنيّ بإمكانات النّبيّ الهائلة المضارعة لإمكانات السّاحر فـ« قد اتّهم أهل مكّة الرّسول بأنّه ساحر، حينما أخبرهم بنزول الوحي عليه. وقالوا إنّه يستمدّ وحيه من الشّياطين »[8]. كما أنّ موسى حين أتى بالمعجزات وُسم بكونه ساحرا تعظيما له، لأنّ السّحر لم يكن مدعاة إلى الازدراء، بل تمّت التّسوية في المنزلة بين السّاحر والعالم[9]. ثمّ إنّ الفصل الحاسم الّذي قدّمته الأديان السّماوية (وحاربت من أجله) بين مؤسّسة النّبوّة ومؤسّسة السّحر يرتدّ إلى رؤية غائيّة تعلّق بكلّ فعل غاية يسير نحو تحقيقها، وهي إمّا أن تكون خيرا أو شرّا. وقد تمّ التّبرّؤ من السّحر بناء على هذا المنظور.
أمّا فيما يخصّ علاقة الشّعر بالسّحر فيمكن النّظر فيها من زوايا مختلفة ومتعّددة؛ فمادّة "شَعَرَ" معجميّا تفيد "عَلِمَ" ومقول القائل« ليت شعري أي ليت علمي أو ليتني علمت» ومحترف القول الشّعري سُمّي شاعرا« لأنّه يشعر ما لا يشعر غيره أي يعلم » « وسمّي شاعرا لفطنته »[10] ومن خلال هذه المادّة المقترحة بإمكاننا أن نميل إلى اعتبار الشّعر ضربا من العلم المحيط، أو المعرفة الفائقة، المنافسة للنّبوّة والسّحر. ومن الأحاديث النبويّة السّيّارة جدّا "إنّ من البيان لسحرًا" الّذي فهم من مدلوله « أنّه يبلغ من ثنائه أنّه يمدح الإنسان فيصدق فيه حتّى يصرف القلوب إلى قوله ثمّ يذمّه فيصدق فيه حتّى يصرف القلوب إلى قوله الآخر، فكأنّه قد سحر السّامعين بذلك »[11].
فالشّعر مثله مثل النّبوّة والسّحر لا يتوجّه إلى الأفهام وليس من خصاله الاستدلال العقلي أو المحاججة المنطقيّة، وإنّما متقصّد القلوب للتّأثير فيها من مدخل الانفعال به إذ أنّ« الشّعراء يعرفون أنّ سبيلهم هي سبيل الانفعال والوجدان، وأنّ خطابهم يتّجه إلى القلوب.(....) وكثيرا ما أدرك الأنبياء والفلاسفة ذلك فاصطنعوا منهج الشّعراء، ففي آثار كلّ نبيّ عظيم أو فيلسوف كبير قبس من الشّعر»[12].
ونكاد نجزم بتقاطع الشّعر مع الأسلوب النّبوي المتخيّل والمفخّم، الشّعري والمعمّى( Énigmatique ) والمنفتح على الآفاق المستقبليّة[13] ومثلما استقرّ في الذّاكرة الجمعيّة أنّ الكهنة والأنبياء والسّحرة هم أصحاب اليد الطّولى في مجال الغيبيات« يبدو أنّ الشّعراء قادرون على تقديم ميدان خصب بصورة خاصّة للبحث في موضوع "البحث عن الغيب" »[14]، ولذلك كثيرا ما وقع الاحتفاء بالشّعر، وعدّ خطابا قمينا بالتّبجيل والتّوريث، لاسيّما أنّه يتخيّر من المسالك مسلك الانحراف عن الطّرائق المعبّدة بمناوءته لمبدإ الاقتصاد اللّساني واختصاص كلّ دالّ بمدلول قريب المأخذ احتراما لتحقّق الفعل التّواصلي بل إنّ الشّعر غالبا ما تموضع باعثًا على الحيرة والعجب لأنّه يعمد عمدًا إلى تهديد المعنى وخلق الصّدمة وجعل العلامة اللّغوية في سياقه تنفكّ عن كونها أداة لتندرج في مطلب المتعة، هذه المتعة الّتي يجدها متلقّي الجميل الشّعري هي خلاصة تضافر مستويات إيقاعيّة وتخييليّة وقاموسيّة يعي الشّاعر مسبقا ضرورة العمل على بلورتها من أجل أن يُعترف بقيمته الشّاعريّة.
وإذّاك فليس من الغلوّ في شيء أن يقول جبرا إبراهيم جبرا:« والقول المأثور "إنّ من البيان لسحرا" قد يعتبر تعريفا هامّا للشّعر »[15]، وإذا طبّقنا هذا القول على الشّعر الرّومنطيقي يجب علينا أن نضع في الحسبان الإطار الكوني الّذي فيه تتنزّل الرّؤية الرّومنطيقيّة بوصفها فلسفة شموليّة، ثمّ الإطار المخصوص ممثّلاً في عمليّة الخلق الفنّي. فلقد انتصرت الحداثة الشّعريّة الرّومنطيقيّة لروح السّحر، وبواسطته أحدثت منعرجا انقلابيّا– إن صحّ التّعبير- نظرا إلى أزمة الإنسان الحديث الّذي يقيم في عالم من الأرقام ولا يتكلّم لغة غير لغة العقل المستنير ولا يفقه من القيم غير القيمة التّبادلية للأشياء. ومن ثمّ تتنزّل الفلسفة الرّومنطيقيّة في سياق عامّ يدين بدين عقلانيّة الأنوار الّتي سقطت عنها آخر أوراق التّوت وانفضحت فظاعتها لاسيّما فيما يتعلّق بالجوع الرّوحي المستفحل. ومن هذا الجانب يسجّل قدوم الرّومنطيقيّة بصفتها مشروعا روحيّا وجماليّا ثنيًا لمشاريع النّهايات وتفنيدًا لبشارة ماكس فيبر) Weber Max ( بـ« زوال السّحر عن العالم»[16] بل بمستطاعنا أن نذهب إلى أنّ الابستيمولوجيا الرّومنطيقيّة قد افتتحت تاريخ التّمرّد على الابستيمولوجيا الميكانيكيّة[17]، وهي حقّا نبتة من النّوابت الفاسدة الّتي زرعها العقل المتكبّر المراهن على تشييء موضوعاته ومقاربتها مخبريّا وفقا لقوانين العلم الحديث أو معمليّا طبقا لقانون السّوق حتّى أنّ كلّ جوهر إلى زوال وكلّ روحي أو قيمي إلى بوار، وآنذاك أولى بنا أن نعنون هذا العصر بـ"عصر الفوضى"[18] d’anarchie) Temps ( والرّومنطيقيّة هي أفضل تعبيرة عنه. ولم يكلّف العلم الحديث نفسه مشقّة عمق الرّؤية وشموليّتها وإنّما انتهج الابتسار والتّذرير والتّفقير، فتعامل مع الطبيعة تعاملا هندسيّا وأخضعها للمنطق الرّياضي مستبعدا مجلى الأسراريّة فيها المعادل لقداستها حيث« سرّحت الثّورة الغاليليّة جحافل الملائكة والشّياطين، ونقّت السّماء بأفلاكها من الفضلات الّتي راكمتها الأخرويّات الغابرة ليحلّ "الصّمت الأبدي" والفضاءات اللاّمتناهية" محلّ " الفضاء السّاحر"»[19] وعلى نقيض هذه الممارسة الفيزيائيّة الحديثة المحفّزة على الطّمر والطمس، تبين الرّؤية الرّومنطيقيّة عن حميميّة أصيلة يحملها كيمائيّ من طينة المفطورين على تقديس الجمال ويعتقد على غرار مارتنيه (Martinet) أنّ« وظيفته هي إصلاح ما في الكون من فوضى»[20] من أجل تخطّي الحالة العمائيّة الّتي تمرأت فيها الموجودات جلاميد بلا روح وإقامة عالم يكون وطنا للجميل، ومسكنا للمقدّس، وفضاء للحضور لا باعثا على الإحساس بالخلاء والشّغور الدائميْن. وإذ تكرّس النّظم العقليّة والتّحاليل العلميّة للحتميّة الميكانيكيّة جهودها في قبر الحضور الإلهي وحجبه، فإنّ الرّومنطيقيّة ما تنفكّ نزّاعة إلى تشريفه[21] وبدلًا من الانفصال عن الطّبيعة واعتبارها فضاءً موازيًا لفضاء الذّات، تضمّنت الفلسفة الرّومنطيقيّة دعوةً إلى احتضان عناصر الطّبيعة وجعلها تحقّقًا للكينونة الممتلئة في سياق من التّجاوب والتّضامّ واسترفاد الفطري حتّى نكون.
وليس غريبا على الرّومنطيقيّة القائمة أصلًا على رمنطقة العالم (le monde Romantiser)[22] أن تمكّن الموجودات والأشياء من المشاركة في العرس الكوني المهيب، لابسةً لبوس التّرميز، لتستعيد فتنتها وسحرها، مجبرةً القارئ على تأويل حضورها وفكّ لغزها. وبناءً على ذلك مثّلت المخلّص من قبضة التّقانة الفظّة الّتي سلبت الإنسان جوهره الإنساني ليكون خديما فقط لمنتوجها وطرفًا في« زمن الموت الرّحيم للألوهيّة »[23].
وقد كان الرّهان الرّومنطيقي رهانًا جماليًّا العمدة فيه الوقوف على مواطن الجمال والجلال في الكون وهي- بلا شكّ- مواطن السّحر والسّر الّتي تطلب حاسّة شعريّة لم تتسرّب إليها بعد بذور العادة. ذلك أنّ السّعي وراء الأسرار؛ أسرار البراءة والطّهر والجمال يستدعي إنسانًا جذلًا، منتشيًا بجنونه، وباستيقاظ الطّفولة فيه، أي أنّه متحرّر من كلّ إلزام أو واجب تجاه الاجتماع البشري الزّائف.
وفي مستوى بناء النّصّ الشّعري« استلهم الشّعر الحديث من النّصّ السّحري غموضه، وزعمه أنّه نصّ متفرّد وشاذّ وغيبي، ينطق عن وحي ويتفرّد بالعبقريّة ويسكنه الكون والمستقبل»[24]، إذ أنّ محدّدًا أثيلًا من محدّدات الجماليّة الرّومنطيقيّة يتمثّل في محاربة الكلاسيكيّة الّتي اختارت محاكاة الواقع وقول الوقائع وإنتاج الأصوات القديمة باعتبارها عيون الأدب الّتي حقّقت شروط الإبداع على الإطلاق. ولذلك وقعت الممارسة الكلاسيكيّة في الاجترار وبرهنت على أنّها متأثّرة بالماضي ولا تنتمي إلى روح العصر وقضاياه. وفي المقابل« أعلن مجيء الرّومنطيقيّة نهاية عهد تنازل "الأنا" وغيابها، الّتي اختزلت في نقطة ارتكاز حقيقة جاهزة»[25]، أي عوضا عن الإلهام المؤسّساتي الّذي عدّ قانون الشّعر الكلاسيكي، اختار الرّومنطيقي الإلهام الذّاتي بعيدا عن الوصايا، والتحاقا بالأعماق بوصفها مصدرا للتّوهّج ولطوفان من المشاعر والعواطف المتفجّرة على سجيّتها دون رقيب ولذلك نشهد نقلة من ملفوظ من طبيعة تقريريّة إلى ملفوظ يطفح إيحائيّة، ونتحوّل من قصيدة مجمع لمعان محدّدة ونهائيّة إلى قصيدة مشرّعة على تأويلات قريبة وأخرى بعيدة، وكلّ تأويل يمثّل إغناء مؤقّتا، لأنّها إنّما تكتب في«البعد الخامس»[26]؛ خارج الأبعاد المعهودة بعد أن خبر الشّاعر الرّومنطيقي محدوديّتها. وفي هذا المضمار سنجد أنفسنا مجبرين على الاعتراف به خلاّقا يأتي بالمعجز ويثبت المستحيل مبرهنا على أنّه إله باعث للحياة، محطّما لوائح أنبياء موت الإنسان. وبعبارة أخرى، إنّ الإله بالنّسبة إلى الرّومنطيقيّة هو الشّاعر ممّا يكشف طبيعة العلاقة الّتي تحكم الإنسان بالكون، يقول إيليا أبو ماضي:[27] ( الرّمل)
وَالرَّوْضُ؟ إِنّ الرَّوْضَ صَنْعَةُ شَاعِرٍ ҉ سَمْحٍ طَرُوبٍ رَائِقٍ جَزِلِ
فالإله هو المثل الأكمل في الجمال، وهو يعدّ الإنسان امتدادا له فتنسب صفة الشّاعرية للإله. لنفهم الفكرة الرّئيسة التي ترتكز عليها الرّومنطيقيّة وهي أن الشّعر خلق وليس محاكاة، وليس صناعة بل خلق عبر الكلام، والخيال هو مولّد النّصوص.
وطبيعة الفتنة المنبعثة من النّصوص الشّعريّة الرّومنطيقيّة ترتدّ إلى الحضور الكثيف للمكوّن الإيقاعي خاصّة في مستوى الخطاب ومن خلال تواتر المسموعات بدرجة عالية ، فأضحى المتلقّي في حضرة ساحر مُعنّى بلعبة الدّوال وبتراسل الألحان، حتّى لكأنّ الشّاعر الحديث هو أورفي الثّائر على تجهّم آله العصر الحديث بواسطة الوتر الموسيقي. ومن المسلّمات أنّ للنّغم كفاءة الإغواء والإغراء بقدر ما للشّاعر من طبيعة انفعاليّة تحظى بخصيصة سحريّة، لأنّ الانفعال رقية[28] و« الإيقاع النّاشئ عن تكرار لفظة بعينها، عبر مسافات زمنيّة محدّدة ليس مجرّد تنظيم شكلي
محض، بل ينفلت منها ما يمكن وصفه بالرّوحانيّة »[29]، بل إنّ شكسبير يقول:« إذا خلت نفس إنسان من الموسيقى، ولم تتحرّك مشاعره لسماع الأصوات المتناغمة، فهو إنسان لا يصلح إلاّ للسّلب والخيانة والخداع»[30].
فسلطة السّحر هي سلطة روحيّة يبعثها الشّاعر في نصّه حتّى يقيه المنزلق الكلاسيكي الّذي أنتج نصّا دون روح، بينما الرّومنطيقي إذ ينطق، فإنّما ينطق عن بوح وهمس، عن وحي وإلهام، عن تناوب بين الشّهيق والزّفير ومراوحة بين انقباض القلب وانبساطه، ملتقطا التّوقيع الكوني، ولا يكون ذلك إلاّ بتخدير أدوات الإنسان الحواسّية وتسريح الحياة اللاّواعية، تلك الحياة الواعدة.
ولقد اعتبر ناقد في قامة جون كوهين« الشّعر قوّة ثانية من اللّغة، وهو سلطة سحر وفتنة تتغيّا الشّعرية اكتشاف أسراره»[31]؛ فهو فيض عن روح "شاعر مفتون" أو "شاعر ساحر مبتكر" علم علْم السّاحر بوقع الكلمة وإيقاعها، وخبر خطورتها وجبروتها، فـ«الكلمة تحرّر، الكلمة تصلح ذات البين، والكلمة تعيد إدماج ]الفرد[ في المجتمع. وبكلمة واحدة، فإنّها لا تختزل إلى مجرّد أداة للتواصل كما الشأن عندنا»[32]، وقد رسخ منذ القدم أنّ للعلامات اللّغوية نفوذها وهيمنتها تناغما مع اعتقاد بدائيّ مؤدّاه أنّ« للأسماء قوّة سحريّة على المسمّيات، وأنّ لها القدرة على استنفار المسمّيات وإجبارها على الطّاعة»[33] وقد توصّل هيدغير في مقاربته شعر هولدرلين إلى أنّ الشّعر تسمية للآلهة وجوهر الأشياء، وهي تسمية مؤسّسة ) fondatrice Nomination (، واللّغة البدائيّة هي الشّعر بوصفه تأسيسا للوجود/الكينونة[34]. فجوهر الأشياء الضّائعة في الزحام، والمعدومة من فرط ادّعائنا معرفتها، لا يمكن أن تدوم إلاّ إذا وجدت أرض ميعادها، وهي أرض الشّعر، فـ« ما يدوم يؤسّسه الشّعراء »[35]. بل إنّ الشّاعر إنّما يتلفّظ كلاما متسلّطا همّه امتلاك العالم وسيادته وترويض الخطر[36].
وما يمكن أنّ نخلص إليه هو أنّ السّحر انطلق دينا للشّعوب البدائيّة وديدنا، به ولجت المتستّر، ونفذت إلى المضمر، ودجّنت الآبق. وليس هذه الرّدة الرّومنطيقيّة إلاّ بحثا عن الامتلاء، وتمكينا للأنطولوجي، وهي لذلك عادت إلى السّحر لتمتصّ منه النّسغ، وتستلّ الرّوح، فتحقّق بها قداسة العالم والإنسان، وقداسة النصّ، ويبدو أنّ النّصوص المقدّسة مفتاحها التّأويل، لأنّ نسيجها العلامي مقدود من الرّموز والأمثال والصّور، ما يكفل جماليّتها والافتتان بها لتتقدّم عذراء بعد كلّ محاولة فضّ لسرّها وهتك لسترها، وهو طبعا حال النّصوص الشّعريّة الّتي اختارت طريق الدّيمومة بمراهنتها على تشقيق الأساليب البكر والتّناص مع نصوص تالدة وأخرى مزامنة دون عسف وغصب، إضافة إلى التّدرّج في الرّوحنة إلى حدّ تبادل المواقع بين خالق شاعر وشاعر خالق، وهي تخريجة تجبرنا على دكّ كلّ الجدران الفاصلة والعازلة واعتبار الشّاعر« وسيطا بين الله والإنسان، مثل الساحر (mage) والنّبيّ (prophète) والرسول (apôtre)»[37].
[1]- ابن منظور، لسان العرب، ج.3 ، مادّة (سحر)، ص.253.
[2]- عبد الرّحمان ابن خلدون، المقدمة، تونس، دار التّونسية للنشر، 1993، ص.625.
[3]- جواد علي، المفصّل في أديان العرب قبل الإسلام، ص.635.
[4]- أندريه لالاند، موسوعة لالاند الفلسفيّة، ت. خليل احمد خليل، إشراف أحمد عويدات، مج.2، بيروت-لبنان، منشورات عويدات، ط.2،2001، ص.908.
[5]- عبد الرّحمان بن خلدون، المقدّمة، ص.624.
[6]- اُنظر: فريدريك نيتشه، هكذا تكلّم زرادشت، ص.58.
[7]- جان جاك روسّو، مقالات، (محاولة في أصل اللّغات)، سلسة: ديوان الفلسفة، ت. جلال الدّين سعيد ومحمّد محجوب، تونس، دار سيناترا –المركز الوطني للتّرجمة، 2010، ص. 109.
[8]- جواد علي، المفصّل في أديان العرب قبل الإسلام، ص. 635.
[9]- راجع: ابن منظور، لسان العرب، مج.3، مادّة ( سحر)، ص. 253.
[10]- مرجع نفسه، مادّة (شعر)، ص. 442.
[11]- المرجع السّابق، مادّة (سحر)، ص.252.
[12]- صلاح عبد الصّبور، الدّيوان، مج.3، بيروت، دار العودة، 1988، ص.136.
[13] -Étienne Souriau,Vocabulaire d’esthétique, Presses universitaires de France, 1990, p. 1175.
[14]- كولن ولسن، الإنسان وقواه الخفية، ت. سامي خشبة، بيروت، دار الآداب، 1994، ص.104.
[15]- جبرا إبراهيم جبرا، الرّحلة الثّامنة، بيروت، المؤسّسة العربية للدّراسات والنّشر، ط.2، 1979، ص.38.
[16]- Yves Vadé, L’enchantement littéraire : Écriture et magie de Chateaubriand à Rimbaud, Paris, Gallimard, 1990, p. 225.
[17]- Ibid., p. 200.
[18]- Paul Bénichou, Le temps des prophètes, p. 204.
[19]- Georges Gusdorf, Le romantisme II, L’homme et la nature: L’homme romantique, Paris, éd. Payot et Rivages, 1993, p. 200.
[20]- كولن ولسن، الإنسان وقواه الخفية، ص.316.
[21] -Georges Gusdorf, L’homme romantique, p. 351.
[22] Albert Béguin, L Âme romantique et le rêve, livre VI, Genève, SLATKINE Reprints 1993, p. 104.
[23] -Georges Gusdorf, Op.Cit., p. 17.
[24]- منصور قيسومة، «المقولات السّلبية وانقلاب المفاهيم في الشّعر العربي الحديث»، مجلّة رحاب المعرفة، السنة7، العدد37، جانفي2004، ص. 16.
[25]- Georges Gusdorf, L’Homme romantique, p. 18.
[26]- كولن ولسن، الإنسان وقواه الخفية، ص. 104.
[27]- إيليا أبو ماضي، الدّيوان4: الخمائل، ص. 672.
[28]- Voir: Yves Vadé, L’enchantement littéraire, p. 204.
[29]- فاسيلي كاندنسي، الرّوحانية في الفن، تعريب فهي بدوي، تقديم محمود بقشيش، الجمعية المصرية للنقاد بالتعاون مع الهيئة العامة للكاتب، 1994، ص. 48.
[30]- نقلا عن: فاسيلي كاندنسكي، م.ن.، ص. 65.
[31] -Jean Cohen, Le haut langage, Théorie de la poéticité, Paris, Flammarion, 1979 p .11.
[32]- جماعة من الباحثين، أبحاث في السّحر، ت. محمد أسليم، أفريقيا الشّرق، 2007، ص. 118.
[33]- الأديب وصناعته، ت. جبرا إبراهيم جبرا، فصل: الأديب في عصر العلم، المؤسّسة العربية للدّراسات والنشر، ط.2، 1983، ص. 49.
[34]- Martin Heidegger, Approche de Hölderlin, tr. de l’allemand par HENRY Corbin, Michel Deguy, François Fédier et Jean Launay, éd. Gallimard 1973, pp .54-55.
[35]- Ibid., pp.51-52.
[36]- Maurice Blanchot, Le livre à venir, Gallimard 1959, p .49.
[37]- Paul Van Tieghem, Le romantisme dans la littérature européenne, p. 359.