مقدمة:
استطاعت الصورة أن تكون الفضاء الرحب الذي يبرز ثقافات مختلفة، وأن تتجاوز عائق اللغة، وأن تسهم في انتشار الفكر، وشيوع الثقافة؛ لأنها لغة بصرية عالمية يفهمها أهل الأرض جميعا، فهي نص لملايين المتلقين لما تمتلكه من قوة تعبيرية لها القدرة على استنساخ الواقع وإعادة إنتاجه أو التمويه عليه من خلال المضاف التقني، بل إن الصورة اليوم صارت تصنع المشهد، وتدعي إمكانية إعادة الواقع، وترويضه، وتوجيهه وفق غايات إيديولوجية مسبقة.
1. الصور تغتال الصورة:
إذا كانت الصور في أصلها محاكاة للواقع فإن بودريار (Baudrillard) يذهب إلى فكرة اجتماعية اتصالية تتعلق بالصورة في التلفزيون والتي ترى أن الصور المعروضة نسخة غير ذات الأصل المحدد، وهذه صور ليس لها مقابل محدد في الحياة الواقعية، إذ يصعب على الإنسان العادي أن يميز الصورة النسخة عن الأصل، لذلك فإن تلك الصور تمثل نوعاً من الواقع المزيف الذي يتجاوز الواقع الفعلي نفسه، والغريب في الأمر أن الصور التلفزيونية المفروضة علينا توهمنا أنها الواقع الحقيقي، بل إنها عند بعض المشاهدين أكثر واقعية من الواقع نفسه! فما يفصل بين الواقع الحقيقي وبين الصور المعروضة أمامنا، هو فاصل غامض غائم صعب التحديد؛ لأن (( الكثير من الصور تقتل الصورة، فالتضخيم الأيقوني له قانون غريشام (Grisham)[1] الذي يخصه مثل الآخر، أي إن الصورة السيئة تطرد الجيدة.. فالألبومات، والإعلانات المطوية، والمجلات، والملصقات، والإعلانات الضوئية، والشاشات تلطخنا بالمؤثرات البصرية، بحيث تنمحي الفروق بين العمال الفنية والمنتوجات وتعقد كلها في النهاية من حدتها، ويقوم الغول البصري بفرز الإملاء التام للمحيط عن المهارة العادية التي تخون صيرورة صورنا. فنحن نلقي على اللوحات والصور نظرات سريعة [ إلى الأشياء المعروضة على أبصارنا عبر الشاشة وغيرها ] كما لو كنا نتصفح الصفحة الأولى للجريدة .. فالصورة تنقصنا لأن الزمن ينقصنا. ذلك هو مرض السعادة التلفزيونية: المشاهدة بوصفها تحققا بين البرامج والأخبار، الإعلان بأن كل شيء يسير كما هو مرسوم سلفا بنفس الشكل فإن الإعلان بأن كل شيء فنٌّ يعين عالما لا يعتبر فيه الفن شيئا مهما، كما إن منح كل شيء للنظر يعلن في الآن نفسه عن انهيار البصر وعن انتصاره إلى درجة نكاد نعتقد فيها بالصورة الجمالية تكثر من ضعاف البصر ))[2].
وهذا يعني أن هذه المرحلة الجيدة كليا في حياة البشرية تتسم بطابع عالمي، وتخضع لمبدأ السرعة، وتتجه نحو الانتشار الدولي، كما تمتاز بأنها تنقلنا من عالم الأفراد إلى محيطهم الخارجي، ومن الذاتية الإنسانية إلى البيئة المحيطة بها، ولكن الأهم والأخطر في هذه المرحلة هو تطور الصورة وتحولها من وسيلة إعلامية على سلطة مهيمنة على هذا العالم، والمكر ليس ببعيد؛ لأن عالم الصورة الذي يوظف الدعاية الإعلامية بمعناها الواسع (سياسية، أيديولوجية، اجتماعية، ثقافية..) يميل إلى تفجير الخبر الإعلامي من خلال اختلاقه والمبالغة فيه وتلوينه من أجل جذب الاهتمام والإثارة؛ فلكل خبر إعلامي صورة إعلامية ذات ألوان أيديولوجية وسياسية وجغرافية ومذهبية .. هي صور محاكية أو مقلّدة للواقع، تأخذ منه بعض الجوانب وتضيف إليه ألواناً كثيرة تجعل منها حقيقة مطلقة عند من ليست لديهم خلفية بأفكار وسياسة هذه المحطة أو تلك؛ لأن الصورة (( في التلفزيون تعطي انطباعا دامغا بالحقيقة، لكنها في الواقع ليست كذلك دائما، والحقيقة التي تقدمها الصورة قد تكون مجتزأة، وقد لا تمثل إلا جانبا ضئيلا من الحقيقة الكبرى ))[3]، فمنذ أواخر ستينات القرن الماضي قام جورج جيربنر (George Ejrebnr) وعدد من الباحثين الأمريكيين بسلسلة من الأبحاث التحليلية المكثفة حول البرامج التلفزيونية في الولايات المتحدة الأميركية، ووصلوا بأبحاثهم إلى أن عالم التلفزيون هو عالم مضلل في تمثيله للواقع، غير أن المشاهدون يأخذونه مأخذ الجد، ويعتقدون أنه ما يصوره التلفزيون هو انعكاس للواقع.
2. البرامج التلفزيونية الشعبوية:
ومثل هذا مخطط له مسبقا من خلال (( تعزيز النزوع العام لدى المشاهدين نحو الترفيه بشكل يتأتى معه الإقبال على استهلاك المواد والبرامج استهلاكا محموما كما تستهلك السلع. ولا غرابة في أن تكون أنجح المنتجات وأكثرها إقبالا على المشاهدة المسلسلات الدرامية الموجهة إلى جمهور الصغار والمراهقين والتي تتوسل بالمواقف الهزلية والساخرة من أجل تقمص المشاهد دور البطل أو البطلة وإثارة شفقته على حظه العاثر ))[4]، فبعد سيطرة المسلسلات المكسيكية، والبرازيلية على الشاشة الفضية جاء اليوم دور المسلسلات التركية لتستحوذ على جمهور عريض متنوع الأعمار، ومختلف الاتجاهات وتصهره في القالب الذي تريد.
وأما البرامج التلفزيونية الشعبوية والمنجزة بإحكام، وبتقنيات عالية، والممولة تمويلا ماديا ومنويا يدعو إلى طرح الكثير من التساؤلات؛ خاصة إذا علمنا أن (( رسالة التلفزيون ليست الصور التي يبعثها، بل الأنماط الجديدة للعلاقة وللإدراك التي يفرضها ))[5]، فيكفي أن ندلل على ذلك بالبرنامج الغنائية التي انتشرت في القنوات العالمية ثم القنوات العربية، وانتشر فيها انتشار النار في الهشيم مثل: برنامج آراب آيدول (Arab idol)، وهو النسخة العربية المقلدة من برنامج المسابقات الغنائي العالمي (Pop Idol) الذي تم اختراعه من قبل سيمون فيلر (Simon Feller)، والذي طورته شركة فريمانتل البريطانية (British company Fremantle)، وبرنامج ذا فويس: (The Voice)، أو "أحلى صوت" باللغة العربية، وهو النسخة العربية المقلدة من برنامج المسابقات الغنائي الهولندي العالمي "ذا فويس(The Voice) " والذي اخترعه جون دي مول ( (John de Mol وروئيل فان فيلزن (Roial van Velzen) عام، 2010 وطورته شركة سوني العالمية (sony) وشركة تالبا، وكذلك برنامج آرابز جوت تالنت (Arab Got Talent) وهو برنامج ترفيهي من نوع تلفزيون الواقع يسلط الضوء المبدعين المغمورين في مجال الفن عامة، ويبحث عن المواهب الفردية والجماعية الموجودة لدى العرب ويظهرها ثم ينميها ويقدمها على أنها إنجاز فني، وهذا البرنامج هو النسخة العربية المقلدة من البرنامج الشهير العالمي البريطاني (Britain's Got Talent) الذي عرض للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية عام 2009 على قناة إن.بي.سي (NBC) ولاقى نجاحا كبيرا لدى الجمهور في محاولة من القائمين على هذه البرامج قدَّ برامج على مقاس الجمهور بما (( يضمن ارتفاع نسبة المشاهدة والفرجة، أو ما يسمى (L’Audimat)، ويمكننا ترجمتها بـ "ما يهوى النظارة"، وكلما ازداد الحرص على إرضائهم، انحدرت الثقافة التلفزيونية إلى الحد الأدني ))[6]، إننا نجد بعض المثقفين أو ما يسمى بالنخبة من الداعمين لهذه البرامج الشعبوية التي تنال من ثقافة النخبة، فتعلي الهامشي والمتروك، وتقصي النخبوي والأكاديمي، والسوء من هذا كله ان يدخل الساسة على الخط فيزيدون الطين بجهلهم تارة، وبقرب ثقافتهم من الثقافة الشعبوية، فيدفعون بهذه البرامج الشعبوية إلى النجومية والمثال، ويوفرون لها الحماية بالقانون والمال.
إن مثل هذه البرامج الشعبوية الذائعة الشهرة عالميا والتي أنتجت في بيئة غربية لها مقوماتها وخصائصها، والتي تختلف عن بيئتنا الشرقية، والعربية الإسلامية اختلافا بائنا، نجدها اليوم قد سلطت علينا تحت مسميات الحداثة، والعصرة، والتطور، والانفتاح، والفن .. أو استقدمت إلينا بفعل التقليد الأعمى للغرب الغالب ـ إذ المغلوب مولوع بتقليد الغالب" كما يقول ابن خلدون ـ لا يبدو لنا سوى أنها تسعى إلى تحقيق أهداف استراتيجية بعيدة من وراء قناع الفرجة، والإلهاء، والترفيه المضفي إلى التهريج والتتفيه الذي تتزيا به، ولعل أقرب تلك الأهداف التي نراها قد تحققت من خلال البرامج الشعبوية هي معالجة كل القضايا مهما كان نوعها تحت مسمى الفن الذي يتخذ من الموسيقى، والرقص أداة له، وبذلك يتم تحجيم القضايا المصيرية، وتقزيمها، واعطاءها أبعادا مغلوطة؛ فالقضية الفلسطينية على سبيل المثال لا الحصر تختصر في أغنية أو رقصة أو قطعة موسيقية أو قصيدة شعرية أو لوحة فنية.. وهو ما يفقد تلك القضايا مصداقيتها، فيضيع الرأي العام في الهامشي، والمبتذل، وينسى المضمون، وتضيع القضية، وينحرف التركيز تلقاء اللحن أو الصوت أو الحركة الراقصة أو النوتة الموسيقية، أو الكلمة الشعرية.. وينتهي الأمر إلى إشاعة نوع من الأمية السياسية في المجتمعات.. ولكن هذا الكلام لا يعني أننا نعادي الفن أن نقلل من دوره في مناصرة القضايا المصيرية، بل إننا ندين استغلاله كوسيلة لتحقيق مآرب غير إنسانية مهما كان نوعها.
[1] - قانون كريشام (Greshams Law): وهو قانون علمي اقتصادي في النظم النقدية، ويتلخص في العبارة المشهورة " النقود الرديئة تطرد النقود الجيدة من السوق"، ذلك أنه في البلاد التي يجري فيها تداول نوعين من النقود القانونية أحدهما رديء والآخر جيد فإن الرديء يطرد الجيد من التداول بين الناس، وقد لاحظ جريشام هذه الظاهرة في بلاده إنكلترا كلما ضربت نقود جديدة لتحل محل نقود قديمة، حيث أن النقود الجديدة لا تلبث أن تختفي من التداول، ويعود السبب في ذلك إنه طالما كانت للنوعين من النقود نفس القوة الشرائية تجعل الشخص مخيرا في أن يؤدي ما عليه من ديون أو تسديدات نقدية بالعملة الرديئة أو الجديدة فإنه يعمل على تسديدها بالعملة الرديئة مستبقيا العملة الجديدة عنده بعيدا عن التداول في السوق، ولا يستعمل في مدفوعاته سوى العملة الرديئة، وللسبب نفسه يكون الدائن ملزما بقبولها، ولو رفض الدائنون ذلك وطلبوا العملة الجديدة لعمل القانون بشكل عكسي، بحيث تطرد العملة الجديدة العملة الرديئة.
[2]- ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة فريد الزاهي، أفريقيا الشرق للطباعة والنشر، الدار البيضاء، المغرب، 2000، ص268.
[3]- المعالجة الخبرية التلفزيونية العربية بين المتطلبات المهنية والتوجهات السياسية، دراسة أجراها اتحاد إذاعات الدول العربية، أشرف عليها: منصف العياري (تونس)، بمشاركة: عبد القادر شعباني (الجزائر)، راغب جابر (لبنان)، وائل ماهر عارف قنديل (مصر)، أسامة زكي قطينة (فلسطين)، سلسلة بحوث ودراسات إذاعية، تونس، 2006، ص17.
[4]- عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، الصورة بين الفن والتواصل، ط01، أفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب، 2014، ص181.
[5]- J.Baudrillard , La société de la consommation. Gallimard. Paris. P.189.
[6]- عبد العالي معزوز، فلسفة الصورة، ص200.