إن التلخيص عملية ليست بالأمر الهين، كما يبدو للكثير وإنما على العكس من ذلك تماما؛ فهي عملية قي غاية التعقيد، تتطلب كثيرا من المهارة مما يكسبها أهميتها وفعاليتها، ذلك أن التلخيص يسمح للباحث عموما أن يستجمع تلك التفاصيل التي قيلت، والتي تعرض في ذلك النص الهدف، فيعمل على تلخيصها تلخيصا يكون مفيدا، وكأنه يقلل من كم النص دون أن يفقده جودته ودون أن يشوه معانيه.
فكيف يا ترى سيكون تلخيص هذا الكتاب الذي بين أيدينا؟
إن تلخيص كتاب بأكمله يستدعي مجموعة من الآليات والميكانيزمات، التي تسعف في الإلمام بأهم ما جاء فيه من أفكار وقضايا.
إن كتاب الدكتور "أنيس فريحه" "اللهجات وأسلوب دراستها" قد قسمه إلى ثلاثة أقسام كبيرة تتضمن فصولا عديدة، استهلها بمقدمتين اثنتين:
كانت الأولى للكاتب "ساطع الحصري" الذي شرع من خلالها، في إبراز أهم المشاكل التي تثيرها "قضية الفصحى والعامية " لدى اللغويين وأهل الفكر بالبلدان العربية.
كما تطرق أيضا، إلى فكرة فحواها أن العالم العربي في حاجة ماسة إلى لغة موحدة "موحدة" تجمع بين الفصحى والعامية وتكوين ما يصطلح عليه بفصحى متوسطة، وذلك لتذليل الصعوبات التي تحول دون ملامسة الهدف المنشود، والمتمثل في خلق "لغة التخاطب" ترضي جميع الأطراف.
ولهذا، نرى الباحث يدعو إلى ضرورة العمل بجد، وعدم التقاعس وإهمال الأبحاث اللغوية بدعوة الاكتفاء باللغة الفصحى.
وبالموازاة مع ذلك، ثمن الدكتور أنيس فريحه "في مقدمة الكتاب" الثانية" ما جاء به زميله "ساطع الحضري" إذ حث ـ هو الآخر ـ على تجاوز تلك النظرة التقليدية المكسوة بالعاطفة للغة، ودعا إلى الالتزام بنظرة مؤسساتية للغة تخضع للموضوعية العلمية.
القسم الأول: في اللغة.
لقد هدف الكاتب من خلال هذا القسم الذي استهل به دراسته إلى إعطائنا لمحة تاريخية عن اللغة العربية ومسارات تشكلها بشكل مقتضب وموجز، بالرغم من ندرة المصادر والوثائق السابقة لعصر التدوين.
فاللغة العربية كما يرى "أنيس فريحه" تتصف بمجموعة من الصفات أهلتها أن تكون لغة رقي وتحضر، أجملها فيما يلي:
-غنى المفردات.
-قدرة على التصعيد.
-إمكانات في الاشتقاق عديد.
-مبدأ القياس والترعيب.
وهذه العوامل في رأي الباحث دفعت باللغة إلى تبوء مكانة مرموقة في العصور المتوسطة.
وجملة القول إن اللغة رغم حيازتها لكل هذه العوامل البناءة إلى أنها لم تبرح مكانها ـ للأسف ـ وظلت غير قادرة على مسايرة الزمن الحالي، وهذا ما ستفاض في تفصيله ورصده الكاتب حين قال:" بأن مشكلتنا اللغوية هي مشكلة كل شعب مزدوج اللغة.. !!
وهذا ما سيسمح لنا باستثمار ما قيل لحصر بعض مشاكل اللغة العربية التي جاءت على لسان "أنيس فريحه" والتي لخصها في التالي:
-وجود لغتين مختلفتين عامية وفصحى.
-تقيد الفصحى بأحكام شديدة.
-الخط العربي الخالي من الحروف المصوتة "الحركات".
-عجز العربية عن اللحاق بالعلم والفنون.
-تدوين اللغة العربية بطرق تقليدية قديمة على شاكلة مدارس الكوفة والبصرة.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الازدواجية في اللغة ـ في رأي الكاتب ـ قد أعاقت وكبلت الفكر، وجعلته لأسباب يقف عند نقطة معينة دون حراك.
ويتضح طرحه هذا من خلال قوله:"..لن نحاول أن نقنع من لا يريد أن يقتنع بأن العربية عاجزة في وضعها الحالي عن التعبير..."
ومما لا شك فيه ـ حسب اعتقاد الكاتب ـ أن الفكر لن يساير الحضارة أبدا ما لم يتحرر أولا من قيود اللغة.
وعلاوة على ذلك، باشر ـ أنس فريحه ـ في معرض حديثة إلى إعطائنا تعريف للغة، بالرغم من اعترافه-أيضا- بصعوبة الأمر، نظرا لما يعتريها من تعقيد وغموض، هذا إضافة إلى إثارته لمسألة نشأة اللغة وأصلها.
ليصل بعد هذا إلى إثارة قضية ـ اللغة والعرق والعقلية ـ التي أكد بأنها شغلت جموع علماء اللغة خلال القرن التاسع عشر.
والواضح مما تقدم من حديثه في هذه القضية أن ليس هناك من لغة لها عبقرية تفوق اللغات الأخرى، وتبعا لهذه الصيغة المطروحة فليس هناك من عرق صاف خلق لغة خاصة تعكس عقليته.
ولعل هذا المستوى في رأي الباحث يحتاج إلى ما أسماه بـ"علم اللغة" الذي يروم من خلاله إلى تطبيق الأسلوب العلمي على اللغة، ذلك من خلال توخي مبدأ الموضوعية وكذا استثماره لهذا العلم للتأثير على الفرد ونظرته إلى اللغة.
ثم يتناول فيما بعد:
القسم الثاني: وعنونه ب "نشأة اللهجة الأدبية المحكية"
إذ يتحدث فيه"أنيس فريحة"عن الأسباب الحقيقية التي جعلت من لهجة ما تسمو على لغة ما وتتبؤ الرسمية، موضحا ذلك بسرد مجموعة من الأدلة والبراهين التي تؤكد حقيقة لا مراء فيها، في أن لا فارق جوهري بين لهجة ولغة، وإنما الفارق راجع بالأساس، لسبب خارجي,ولظرف خاص أعطى الحق للغة، وسلبه من الأخرى.
ولعل ما يزكي طرحه هذا هو تطرقه لفصل عنونه "بالسلطة العليا" إذ انطلق من خلاله ليبني لنا حقائق تاريخية قد تكون السبب الخفي وراء رفع لهجة ما إلى مرتبة لغة قومية رسمية.
ولم يفته بالطبع أن يشير إلى هذه العوامل، وهي كالآتي:
-عامل عسكري سياسي
-عامل ديني
-عامل اجتماعي
وما يسترعي الانتباه حقا! في هذه النقطة هو تأكيد الباحث على أن كل هذه العوامل السلطوية تبقى غير فاعلة، وغير متعرف بها في سياق أسماه بعلم اللغة.
على اعتبار أن هذا العلم –حسب قوله-لا يعترف بسلطة عليا في اللغة غير سلطة الشعب.
ثم يتناول بالدرس بعد ذلك "نشأة اللغة" إذ يطلعنا من خلاله على أن العرب القدامى، لم يشيروا إلى اللهجات العربية، إلا إشارات عابرة,ولكنهم –في رأيه-لم يجيبوا عن السؤال الإشكال:كيف نشأت هذه اللهجات؟ كما أنهم لم يعيروا كبير اهتمام لدراستها و مدارستها.
لينتقل بعد ذلك، إلى الخطى المراد إتباعها لدراسة هذه اللهجات، وفي نفس الوقت يرد بالنفي القاطع على أن الرأي القائل:"أن نشوء اللهجات مرده إلى خروج العربية عن موطنها الأصلي، واحتكاكها بلغات أخرى، رأي مغلوط بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وبناء عليه يدعو "أنيس فريحة" إلى التروي في إصدار مثل هذه الأحكام المتسرعة، ويوصى بالتفتيش بشكل دقيق عن الأسباب الكامنة وراء نشوء اللهجة.
ووفقا لهذا التصور، يرجع الباحث مسألة نشوء اللهجة إلى ثلاثة عوامل هي كالأتي:
-المغايرة الفردية.
-إتباع الرقعة الجغرافية.
-احتكاك لغة بأخرى.
ويتابع "الباحث" حديثه في الفصل الموالي عن العامية كلغة قائمة بذاتها إذ يذهب من خلال هذا الفصل، إلى توضيح أن مسألة تقديم تعريف للعامية باعتبارها لغة قائمة الذات، أمر غير مستحب، نظرا لاعتقاد الناس الراسخ إلى أن العامية هي تجسيد للركاكة والرطانة والانحطاط، وهذا ما تأكد فعلا في مؤتمر الأدباء العرب، الذي انعقد ببيت مري أيلول 1954 إذا انبرى الجميع – كما جاء على لسان الكاتب- إلى الدفاع عن الفصحى ومهاجمة العامية.
وأيا كان الهدف المتوخى، من وراء مهاجمة العامية، فالكاتب لم يتراجع من الدفاع عن قضية أن العامية لغة قائمة بذاتها، إذ استعان في تثمين طرحه إلى استغلال الدليل السيكولوجي الذي يوضح بجلاء أن العامية جزء من الحياة، وتعبير عن اليومي بسلاسة ورخاء، وما يعلل ذلك قوله" .... يشعر عامة العرب أن لغتهم هي اللغة المحلية، وان الفصحى لغة رسمية، فهم لا يشعرون أنها جزء من حياتهم بل إنهم إذ تكلموا أو غنوا أو غضبوا... فإن اللغة التي يعبرون بها عن هذا كله إنما هي العامية".
أما فيما يتعلق بالتصور الثاني القابل بأن "العامية لغة حية ومتطورة"، فالكاتب بادر إلى ذكر بعض الظواهر اللغوية التي يحسبها تقدما وتطورا منها:
فقدان الإعراب: إذ ركز فيه على الطرح القائل:" بأن الإعراب لا يتلاءم والحضارة وبأنه:" زخرفة لا قيمة له في الفهم والإفهام " مؤكدا ذلك بسرد مجموعة من الاستشهادات للغويين على رأسهم، ابن خلدون في كتاب المقدمة ( ص 808-811)، وابن قزمان الأندلس. ولعل السبب الآخر في تلافي استعمال الإعراب هو معارضة "أنيس فريحه" لفرض لغة تاريخية لا تساير في رأيه تطلعات هذا الجيل، وكذا اعتراضه على المبدأ القائل بأن:" قوانين اللغة من صرف ونحو وأساليب لا تتغير ولا تتبدل، فالباحث إذن يؤكد ميله إلى سقوط الإعراب عن اللغة.
ـــ التطور الصرفي والنحوي: ويتضح هذا التطور من خلال اقتصار العربية المحكية على عدد قليل من الضمائر، وتصريف الفعل.....مما يمثل تطورا ملفتا وتقدما منشودا يتماشى مع الحياة، وقد مثل لذلك "بفكرة الزمن في الفعل".
ـــ خضوع العامية لنواميس لغوية طبيعية:إن من بين أهم هذه النواميس التي توضح حيوية العامية وتطورها مع الحياة امتيازها بمبدأ الاقتصاد في اللغة.
ـــ الاهتمام والاقتباس والتحديد في المعنى:إن حرص العامية على تحديد المعنى، وإهمال ما يجب إهماله، واقتباس ما يجب اقتباسه، واقتصارها على معنى واحد لا دليل على تحررها من القيود وانعتاقها من وطأة التقليد"في نظر الباحث".
ـــ العنصر الإنساني في العامية يضفي عليها مسحة من الحياة: ونرصد هذا من خلال قول الكاتب:"....فإنك لا تستطيع أن تقول بالفصحى، ما تقوله بالعامية، وإذا نقلته إلى الفصحى أتى جافا قاسيا....." .
وخلاصة القول: إن العامية و من خلال ما وضحه" أنيس فريحه" تبقى لغة قائمة بذاتها، ولغة حية متطورة ونامية، تتميز بمجموعة من الصفات التي بوأتها مكانة وغنى.
القسم الثالث: "اللهجة وأسلوب دراستها"
ينتقل الكاتب في هذا القسم الأخير إلى الحديث عن فوائد دراسة اللهجات الإقليمية من باب أن في العامية مظاهر لغوية,صرفية ومعجمية ,في حاجة إلى المدارسة، على اعتبار أن في دراستها إغناء اللغة الفصحة.
ثم يضيف بعد ذلك بشكل موجز بعض الشروط التي يجب توافرها لدى الباحث في دراسة اللهجة، وهي كالآتي:
ـــ التقيد بالأسلوب إذ لا معطيات مقررة ولا نتائج مسلم بها مسبقا.
ـــ على دارس اللهجة أن يدون اللغة ويضبط أحكامها الصوتية والتركيبية,وعليه أن يكون ملما بعلم الفونتيك .
ـــ وضع خرائط جغرافية لتسهيل عملية تبيان الفروقات اللغوية التي تتميز بها كل بقعة عن أخرى .
ليختم الدكتور"أنيس فريحه كتابه الهام "اللهجات وأسلوب دراستها" بفصل أخير في اثر الأرامية في اللهجة اللبنانية من ناحية الأفعال والمفردات والتركيب، وبذكر نماذج من اللهجة اللبنانية شعرا ونثرا.
ونشير في الآخر، إلى أننا لم نكن نهدف إلى تحميل هذا الكتاب ما لم يستطع له عبئا. أو نقول صاحبه "أنيس فريحه" ما لم يقله، وإنما قصدنا إلى تدليل تفاصيله واستنتاج ما دلت عليه دون بخسها حقها.