" الوكر لفظ والمعنى طائر... "
جلال الدين الرومي
تمثل جدلية اللفظ والمعنى دائما سمة بارزة من سمات صيرورة الشعر لدى أي شاعر عظيم ينظر الى العالم المحسوس امامه بكل امتداداته، لكي يخلق منه عبر الخيال معان تعبر عما يجيش في صدره من عواطف يستحيل التعبير عنها بدون تلك الادوات، فهي جدلية تنتقل بين الذات والموضوع والمحسوس والملموس والواقع والخيال لتشكل صيرورة تحاول الربط بين الفاني والباقي والمادي والروحي وتكون صورة حية للإنسان ببعده الكلي المركب والمتناقض بين الجسد والروح ومطالبهما التي تشد وتشكل حياته وما فيها من صراع لا ينتهي الا بنهاية حياته.
هذه الحياة ببعديها المادي والروحي خلقت الحاجة للتعبير عما يجيش في صدر كل منا عن نفسه بصدق هو بالتالي صدق انساني مشترك لأنه صوت ضميرها الحي في تجربة الحياة في علاقة اشار اليها الرومي بانها اشبه بعلاقة الوكر والطائر، فالوكر هو اللفظ والطائر المعنى كما يقول .
تقول أنيماري شميل في كتابها الشمس المنتصرة " لقد حاول الرومي كثيرا حل لغز الصلة بين اللفظ والمعنى ، التجربة والتعبير لكنه يعود دائما الى الاحساس بان الالفاظ ليست سوى غبار على مرآة التجربة ، غبار انبعث من مكنسة اللسان كما يقول الرومي، وأما المعنى الحقيقي فلا يمكن العثور عليه الا عندما يفقد المرء نفسه في حضرة المعشوق حيث لا يبقى غبار ولا صور "
في الفقرة الاخيرة من الكتاب الثالث من الموسوعة الفلسفية لفيلسوف المثالية الالماني هيجل كتب يقول بعد أن تحدث عن وحدة الوجود في الفلسفة الهندية ما نصه " اذا اردت الوعي بالواحد المطلق بعد أن اضعت نفسك في التقاليد الهندية واردت رؤية اجمل الطهارة والسمو فعليك الانتقال الى شعراء الاسلام حينما يضع جلال الدين الرومي الرائع تركيزا خاصا على وحدة النفوس مع الواحد في المحبة، وهذه الوحدانية الروحية تسمو فوق المحدود والشائع ".
إن هيجل في تقييمه يرى أن الرومي يعطي تفسيرا لما هو طبيعي وروحي حيث يتم فصل الضحالة والتفاهة من الطبيعة المجردة ويتم استيعابها في التجربة والتأمل في العالم الروحي ليتسمر بمقارنتها بنوع آخر من وحدة الوجود مدعومة بفلسفتي زيون الايلي و اسبينوزا".
فالشاعر،كما يرى هيجل، يسعى الى استشفاف الالهي في الاشياء المخلوقة كلها ، وحين يستشفه فيها كلها، فان الشاعر يتخلى عن ذاته لكي يعقل في الوقت ذاته أي يدرك أن الله في داخله ، بمعنى أن يرى الله في نفسه هو وهذا ما يعود عليه بجوانب باطنية صافية ، وسعادة حرة حين يتخلى عن خصوصيته الذاتية الفردية ليستغرق في الله الازلي المطلق ، وهذا الاستغراق وهذه الحياة التي ملؤها البهجة والغبطة هي التصوف ولذا نجد أن الحب الذي يفرزه شعر جلال الدين الرومي يعبر فيه عن الانسان الذي يستغرقه حب الله فيرى كل شيء مغمور بهذا الحب .
لكن هذه اللغة التي يعبر فيها جلال الدين عن نفسه لم تكن في طياتها تعبير مباشر عن فكرة الالوهية ومحبتها بشكلها الساذج، ذلك أن العلاقة بين وكر اللفظ وطائر المعنى هي بنية توتر وانزياح عن المعنى الجامد لـ (اللفظ) في معاجم اللغة والتي تحمل تفسيرا واحدا نحو دلالات جديدة ترتبط بالتجربة الصوفية وتجلياتها من جهة وارتباطها بلغة القوم الخاصة وفهمهم الخاص للدين من جهة أخرى ويعبر جلال الدين في كتاب المثنوي عن المعنى الأول بقوله إن " المعنى في الشعر ليس له اتجاه محدد ، إنه كحجر المقلاع لا ضابط له "، فيما يقول عن الثاني
.... "أن التشارك في اللسان قربى ورباط ، والمرء مع من لا يفهمونه مثل السجين !
وكم هندي وتركي يتكلمان بلسان واحد ، وكم من تركيين في لغتهما متباعدان!"
إن ما يميز التجربة الصوفية في كل أوان أنها دائما تمثل تجربة فردية ليست محصورة ضمن إطار يمكن أن يحدد ضمن ملامح مشتركة بين كل التجارب ، لذلك تقف هذه التجربة دائما خارج أطر المعايير والتفسيرات المتعارف عليها في التجارب العلمية التي تبدأ من مقدمات محددة وتنتهي بنتائج محسوبة يمكن التنبؤ بها في المستقبل .
يقول د. نصر حامد أبو زيد في كتابه الفكر الصوفي " إن التجربة الصوفية في جوهرها محاولة لتجاوز حدود التجربة الدينية العادية ، تلك التي تقنع بالعادي والمألوف من مظاهر التصديق والإيمان وتقتصر على مجرد الوفاء بالتكاليف الشرعية ، إن الصوفي يطمح إلى تجاوز حدود "الإيمان" للدخول في تخوم الإحسان"، لذا نرى الرومي اشد الناس انتقادا للناس العاديين وكثيرا ما يصف السلوك البشري الغبي بلغة غير مهذبة
يقول في احدى رباعياته ....
الإنسان الذي خلقت روحه
مطمئنة بنعم ولا
تافهة أبدا وتعيقه
فكيف سيتوقف
أبالأفعال والصفات
و الذي تحرر من الخلق
هل يخلق نفسه ؟
ومن هنا تبرز اهمية وخطورة هذه اللغة بمستوياتها الدلالية والمعرفية ، ذلك أن أي اساءة فهم ازاء التفسير التقليدي من مظاهر الايمان الجامد بالعادي والمألوف قد تعرض صاحبها للقتل او السجن ويمكن في اطار هذا كيف تم تفسير شطحات الحلاج وتأوليها لينتهي تلك النهاية المأساوية المروعة .
الشاعر هنا يعمل على عدة مستويات دلالية في التعبير فهو من جهة يريد ايصال ما في داخله من لحظات النشوة والاتصال مع المحبوب في ذات الوقت الذي لا يريد فيه الكشف عن تعابير تحيد به عما لم يألفه الفهم التقليدي للدين والشريعة رغم ان المعرفة والايمان هنا قلبي ولا يمكن التعبير عنه بالكلمات العادية .
هذه اللغة بالتأكيد تستبطن الرمز والصورة والاستعارة البيانية للكشف عن المحسوس بشكل ملموس أي بمعنى آخر عملية حفر في داخل اللغة نفسها واظهار دلالات جديدة تشكل وتحيط بالتجربة .
يعرف عالم النفس كارل غوستاف يونغ الرمز بأنه " التعبير الذي نختاره لكي يبدو افضل وصف او صياغة ممكنة لحقيقة غير معروفه على نحو نسبي ، أي انه حقيقة ندركها ونسلم بوجودها بأفضل صياغة ممكنة ". وهذا يعني أن الرمز لا يناظر او يلخص شيئا معلوما لأنه يحيل الى شيء مجهول نسبيا أي انه تعبير يومئ الى معنى عام لا يعرف الا بالحدس فيما يفضي هذا التمييز الى أن المعنى شيء جوهري بالنسبة للرمز بحيث لا يمكن فهمه الا بالإشارة الى موضوعات أخرى مغايرة وليس يقدر على ممارسة هذا النوع من النشاط سوى الانسان ".
بمثل هذا الفهم تبدو لنا رموز الخمر والحان والطبيعة والجمال البشري في شعر جلال الدين الرومي هي احالات على معاني عرفانية ترتبط بالحالات النفسية والوجدانية التي مر بها اثناء تجربته الروحية وليست دلالات حقيقية ترتبط بحياته وبسلوكه الديني المعروف وقد عبر عن هذا في احدى رباعياته بالقول :
حيثما وضعت راسي، فهناك وحده هو المعبود
اركع بكل تواضع امام وجهه
مجيبا ومتجاوزا الفضاء
العندليب ، الحديقة الجميلة
المحبوب والريح الغامضة
كلها ليست سوى رموز ولا شيء اكثر من هذا
فانا اسعى له وحده واعشق
هذه الاحالات العرفانية للرمز والتأويل هي ما تشكل في جوهرها سببا اساسيا في تميز صوره البيانية والبلاغية فهو في اطار تجربته الروحية يحيل اليها كل ما تعمله من معرفة بعلوم عصره وادبه ويكسوها ثوبا جديدا من المعاني من لم تنطق به من قبل وهو ما يذكرنا بلغات العلو الثلاث لدى كارل ياسبر حيث يميز بين ثلاث مستويات من اللغة .
لقد بدأ ياسبر من حقيقة أن كل شيء يمكن أن يكون شفرة للعلو وكل آنية ، طبيعية أو عالم ، انسان أو نجوم ، حيوانات أو اشجار، حضارات أو احداث التاريخ ، كل هذا يبدو أنه يعبر عن شيء وبهذا يتحدث العلو ، وينبغي أن نقرأ دائما في الوجود شفرة هذا العلو ، أنه اشبه بحركة العقل في التاريخ كما اشار اليها هيجل .
ولهذا العلو ثلاث لغات تحمل طابع الشفرة ، اللغة الاولى مباشرة وتنبع من التجربة ، فهي فهم حسي وعلمي لأشياء العالم الواقعة في الزمان والمكان، وهي شعور بذاتها وبالمفاهيم والعمليات الذهنية ، وعلى اساس هذه التجارب تنشأ التجربة الميتافيزيقية ، حيث يصبح حضور العلو مكتشفا في الطابع التاريخي الفريد للحظة بوصفه شفره.
اللغة الثانية ليست هي اللغة المباشرة للوجود، وانما هي لغة الناس وهذه يمكن أن تتخذ ثلاث صور هي : الاساطير ، والوحي الآتي من وراء الكون ، والعالم الاسطوري للفن وبحسب هذه المظاهر تستطيع لغة الناس أن تعبر عن حقائق ابدية.
واللغة الثالثة ليست هي لغة النظر العقلي في جوهر شفرة الشفرة ، أعني امكانية أن يقرأه كل شخص بمعنى مختلف في جوهره عن غيره من الاشخاص ، واذن فقراءة الشفرة هي بالضرورة تجاوز نحو العلو وثغرة مفتوحة في كثافة الاشياء نحو بعد لانهاية له واعماق لا سبيل الى سبر غورها .
نستطيع أن ندرك من خلال التحليل السابق ، التضايف الذي كشف عنه ياسبرز بين اللغة والعلو مفهوما بوصفه الوجود المطلق اللامتعين والذي يفصح عن طبيعته الموسومة بالسر في لغات مرموزة .
وعلى هذا لا تكون اللغة ، كما يرى بعض المتصوفة ومنهم جلال الدين الرومي، عقبة ارضية تحول بيننا وبين ادراك العلو ، بل على العكس من ذلك ، تضعنا اللغة في حضرة وجود يدهشنا بقربه وبعده ، بعلوه و محايثته ، بانكشافه واحتجابه ، فاللغة وان لم تبلغ رصيد الكمال في التعبير عنه ، يكفيها ان تشهد عليه بوصفه الكينونة المتجلية في الحضور الدائم ، الظاهرة في الزمان والمكان ، والمنبثقة عن خارجهما في وقت واحد. يقول في رباعيته ...
يا من تملك بلادا
وراء السماوات
وتظن انك خلقت للأرض والرماد
لقد نقشت صورتك على الأرض
ناسيا تلك البلاد البعيدة
التي منحتك الولادة .
إن روعة الصور البيانية التي عبر فيها الشاعر عن افكاره والتي تحيل الى تجربته الصوفية هي تمثيل للغات العلو الانفة الذكر " فهو يستطيع أن يجسد الافكار ، فيجعلنا نشعر بالمعنويات وكأنها محسوسات نكاد نلمسها ، كما انه يستطيع في سهولة ويسر أن ينطلق من المحسوسات الى المعنويات وهو يمزج بين الطبيعة والحياة والنفس الانسانية في صورة متكاملة تجمع عمق التأمل الى روعة التصوير ".
خذ هذه اللحظة الى قلبك
وعندما ستغادرك
ستظل تبحث عنها طويلا
كما لو أنها تختفي
مع مئات المصابيح والعيون
أن ذاكرة هذا الشاعر تختزن علوم عصره وما سبقه فهي اشبه بمطحنة يمكن أن تحيل أي شيء يتمثل امامها الى شكل جديد فهو يمتلك مقدرة عجيبة على أن يتناول الموضوع المطروق فيجعل منه موضوعا جديدا كأنه يعرضه على القارئ لأول مرة فهو يحول القصص السابقة وحياة الناس العاديين والحوارات ومناظر الطبيعة الى معاني تتوافق مع تجربته الصوفية فيكسبها معنى جديدا لم تكن تشير اليه في واقعها ونصوصها الاصلية .
جاء حبك إلى قلبي
وغادر سعيدا
ثم عاد ووضع متاعه أرضا
ثم طار ثانية
فصرخت " أرجوك الآن "
أقم ليوم أو يومين
فجلس عندها حبك
وقد نسى الآن أن يغادر.
إن كتابه الشهير المثنوي يشتمل على بضع مئات من القصص وقد استطاع الباحثون امثال نيكلسون وفرزانفر أن يردوا تلك القصص الى اصولها القديمة ، فقد استطاع فرزانفر أن يرد 264 قصة من بين 275 وردت في المثنوي الى اصول سابقة على الرومي في كتابه ، لكننا اذا نظرنا الى تلك الحكايات كما وردت في مصادرها الاصلية، ثم نظرنا اليها عند الرومي وجدنا أنها قد تحولت تحولا كاملا واصبحت حافلة بالمعاني الرائعة التي لم تخطر حتى على بال مؤلفي القصص الاصليين فيما قال نيكلسون إن " المثنوي يحوي من الاشعار قدر ما تحتويه الالياذة و الاوديسة معا وضعف ما تحتوي عليه الكوميديا الالهية لدانتي ".