في هذه الدراسة، سنحاول التطرق إلى مفهوم التلقي و علاقته بالأثر الجمالي في رواية "جيرترود"، وذاك من خلال ثلاثة أبعاد لأثر التلقي في رواية جيرترود، والآتية على الترتيب التالي: التلقي والأثر التشكيلي، التلقي والأثر البيوغرافي، التلقي والأثر المعرفي. وتبقى مسألة أساسية لا بد من الإشارة إليها، وهي أن إشكالية هذا الأثر سندرسه هنا انطلاقا من ثلاث قراءات لنقاد مغاربة: (بنيونس عميروش، حسن المودن، عبد الرحمن التمارة).
أ) التلقي والأثر التشكيلي في رواية "جيرترود" :
- التشكيل والمعرفة البصرية "بنيونس عميروش"
في دراسة نقدية جديدة، كان الفنان التشكيلي والناقد الفني المغربي بنيونس عميروش(*)[1]، سباقا إلى تحسس الأثر التشكيلي في رواية "جيرترود"، وهذا ما تفسره دراسته النقدية المعنونة بـ "التشكيل والمعرفة البصرية في جيرترود" إذ تفضي هذه الدراسة إلى قراءة جديدة تفرض علينا مواكبة المقالة سطرا بعد سطر لنبين الأثر التشكيلي في رواية "جيرترود".
وعلى الرغم من تساؤلنا المستمر، عن الدافع الذي جعل الناقد المغربي بنيونس عميروش ينحاز إلى تقديم دراسة نقدية لرواية مغربية، بعد أن ألفناه في شكل نقدي متعلق بالجانب التشكيلي؛ سنجد أنه وقبل كل شيء فنان جمالي يضع الإبداع كله موضع مساءلة نقدية، بما في ذلك النصوص الروائية. لهذا من الطبيعي أن يكتب عن تجربة حسن نجمي، خاصة وأنه في عمله هذا كما يقول: "يقدم مادة روائية بقدر ما يقدم مادة تُعنى بالثقافة الفنية"[2].
ويذهب الناقد عميروش إلى تفكيك الرواية معتمدا على درجة عالية من الاختلاف في تحديده الجمالي للأثر التشكيلي في رواية "جيرترود" بحيث "تمتلك الرواية آليات استيعاب مختلف الإبداعات المرئية، وخاصة الفنون التشكيلية منها (التصويرla penture، النحت، الفوتوغرافيا، الفن المعماري) بإعادة صياغة الأفكار والأساليب والمفاهيم الفنية وتطويعها لغويا، في اتجاه تعيين واسترجاع صانعي الآثار "التصويرية" وإبراز حمولاتها الدلالية والجمالية وسياقاتها التاريخية، باعتماد قدر من أدوات النقد والقراءة الفنيين (تاريخ الفن، تاريخ الأفكار، علم الجمال، علم النفس والاجتماع، ثقافة وعلوم الصورة)".[3]
هكذا فكَّك الناقد المغربي بنيونس عميروش الرواية، واستخرج كل ما تضمره من فنون وذلك لقراءته للأثر التشكيلي من خلال القيمة "الرمزية لشخصية –"جيرترود"- وارتباطها بعوالم الفن"[4]، وهو ما جعله يقرُّ على أن "جيرترود" تستحضر"الرؤية المنفرجة التي تتوسل بالتأمل اليقظ والمجادلة الاستكشافية المدعومة بثراء ثقافي تتخذ فيه المرجعيات البصرية أهمية بالغة، وهي المقصدية الأساس التي تبناها حسن نجمي، لتصريف ثقافته الفنية النابعة من اهتمامه المستدام بالمجال التشكيلي"[5] استنادا إلى شخصية جيرترود، بيكاسو، ديلاكروا، ماتيس... وغيرهم، هذه الشخصيات، تبين أن دراسة بنيونس عميروش لم تنبثق من فراغ وإنما تكتسي مصداقية التحليل في الإعراب عن الأثر التشكيلي الذي ساهم بشكل كبير في بناء هذا النص.
ويقتضي الإقرار، أيضا، على أن هذا الأثر التشكيلي انعكس على التجربة الروائية لحسن نجمي بالإيجاب، بحيث مكَّن الكاتب من "أن يضعنا بين صناع الضوء في قلب باريس، باستثماره الإبداعي الجيد لمعارفه الفنية التي راكمها منذ ثمانينيات القرن الماضي، وعبر متابعته وكتاباته النقدية الخاصة بالحقل التشكيلي"[6]، وخلاصة القول أن هذا الأثر التشكيلي بالنسبة للناقد بنيونس عميروش هو ما جعل من "جيرترود" تجربة جديدة تلقب برواية البعد البصري.
ب) التلقي والأثر البيوغرافي في رواية "جيرترود":
- استراتيجية التخييل البيوغرافي "حسن المودن".
إن ما يؤكد انتماء "جيرترود" إلى الروايات البيوغرافية هو أنها ذات طابع تاريخي. معطياتها مبنية على الماضي لكن تخيلاتها أدبية أكثر ما تكون تاريخية. أي؛ وكما يقول الناقد الفني حسن المودن(*)[7]: "هي مؤكدة وغير مؤكدة، هي تامة وغير تامة، تستدعي التحليل والتأويل وإعادة البناء"[8]. وحسن نجمي باعتباره كاتبا بيوغرافيا يستنجد بالخيال "ليتعامل مع المادة الوثائقية التاريخية بطريقة لعبية بقصد سد الثقوب والثغرات أو استكشاف سبل جديدة. ومن هذه السبل مثلا تعديل صورة الكاتب -الكاتب موضوع السرد والكتابة- تلك الصورة المعروفة عنه من قبل"[9]. لكن هذا التعديل وإن بدا بسيطا فهو يطرح أمامنا صعوبة جمع المعلومات الكافية بسبب قلة المصادر والمراجع، ما يحيل على عدم الإحاطة التامة بجميع التفاصيل التاريخية، لهذا كانت الروايات البيوغرافيا ولا تزال هي الأكثر صعوبة مقارنة مع الروايات الخيالية.
وبالموازاة مع هذه الصعوبات، يطرح هذا النوع من الكتابات السردية، الكاتب في ورطة الوقوف بين خطابين: خطاب تاريخي، واقعي وموضوعي وخطاب أدبي، تخييلي وذاتي. إلا أن حسن نجمي استطاع أن يتعامل مع هذه الورطة بحكم ميولاته الفنية التي ساعدته على اختيار شخصيات قريبة منه ومن مجال اشتغاله، ما انعكس بالإيجاب على رواية "جيرترود" لدرجة التماهي مع موضوعها والتلبس بشخصياتها. ومع ذلك فإن هذا الاقتراب مهما بلغ من مبلغ يظل عاجزا على أن يملك مفاتيح الشخصية الحقيقية ويقدم سردا تفصيليا عنها، وإنما هو فقط يعكس الشخصية من روعة العمل البيوغرافي.
لهذه الأسباب وغيرها، جاء نص جيرترود:"ملتبسا ومعقدا، أولا لأنه يشكل ملتقى يتقاطع فيه الخيال والواقع، الأدب والتاريخ. ثانيا لأن هذه الممارسة تكشف أن الهدف هو إخراج تخييلي لهذه الحياة بالشكل الذي يجعل التخييل مغلفا بذاتية السارد."[10] ما يفسر لنا أن رواية "جيرترود" نص بيوغرافي مبني على اختيار حسن نجمي.
ونضيف أن الناقد المغربي حسن المودن، إكتشف الأثر البيوغرافي لرواية "جيرترود" من "الأسطر التي تتصدره رواية حسن نجمي (ص11-12). وهو ما يعني أن الكاتب ينطلق من مادة بيوغرافية -حقيقية- ومن كاتبة موجودة فعلا. وهو ما يعني أيضا أن الكاتب قد اختار فترة من حياة الكاتبة قد تكون ثانوية، فجيرترود لم تخصص صفحات كثيرة للحديث عن محمد. لكن السارد/الكاتب اختار أن تكون هذه الجزئية (علاقة محمد/ جيرترود)، وهذه الفترة الثانوية التي قضتها جيرترود مع محمد) لتكون المبدأ المنظم للسرد والكتابة، من أجل أن يدرك المعيش أو الحياة كمادة بيوغرافية بتشييد روائي، بالشكل الذي يسمح بابتكار معيش ممكن أو حياة ممكنة قد يكون عاشها الاثنان: محمد/جيرترود"[11]. وبهذه الطريقة وعلى حد نظر حسن المودن فإن حسن نجمي حاول إعادة بناء معيش ممكن وحياة يمكن أن تكون حقيقية بواسطة معيش بديل.
في كل الأحوال، استطاع حسن المودن بكونه ناقدا ومتلقيا للعمل الإبداعي أن يصل إلى الأثر البيوغرافي ويسجل في قراءته "أن التخييل البيوغرافي، كما يتأسس في رواية "جيرترود" للشاعر حسن نجمي يمارس نوعا من الباروديا، أي من المحاكاة الساخرة من جنس البيوغرافيا التقليدية. وهو ما يسمح بالحديث عن تحويل في الجنس أيضا. فقد كانت البيوغرافيا التاريخية الوثائقية خاضعة لمنطق وضعي يتوهم أنه بالإمكان بناء حقيقة علمية حول الأفراد، والمشاهير منهم خاصة، فجاء التخييل البيوغرافي بمنطلق جديد يظهر النقائص والثقوب، ويفضح عيوب تلك البيوغرافيات واضطراباتها، فمسألة الفرد، بشخصه وحميميته ونفسيته وممارسته وأفعاله، مسألة يمكن أن لا نبني حولها إلا فرضيات وتأويلات، ولا يمكن للكاتب البيوغرافي أن يخلط بين الحقيقي والتخييلي واللعبي"[12].
وأخير يمكن القول: إن رواية "جيرترود" لحسن نجمي لم تكن لتكون رواية بيوغرافية لولا المادة المرجعية المتوفرة لديه من وثائق وغيرها من معارف. ولم تكن لتتم أبدا لولا التعامل معها بطريقة تحليلية، تخيلية وتأويلية. ونجاحها غير مرتبط بطبيعة المادة نفسها، وإنما بقدرة الكاتب على التخمين، والافتراض، واللعب، والابتكار، والتأويل والتخييل.
ت) التلقي والأثر المعرفي في رواية "جيرترود":
- تخييل المعرفة في "جيرترود""عبد الرحمان التمارة"
طبيعي أن نتحدث في هذه الدراسة عن الأثر المعرفي في رواية "جيرترد"، وما يُعطيه للنص من خطاب جمالي متميز قوامه تخييل المعرفة، وهذا بالذات ما تطرق له الناقد المغربي عبد الرحمن التمارة*[13]، ويقصد بذلك المعرفة التي تم تسريدها تخييليا، من أجل بناء رواية ذات "نسق تخييلي أساسه الخطاب الفني والفكري"[14]. وهو خطاب مشبع بالتجارب المعرفية وثيق الصلة بالتجارب الإنسانية. إذ "تتأسس التجربة النصية لرواية "جيرترود" على المسار المعرفي لكاتبة وأديبة أمريكية؛ لكنه مسار يتولد منه مسار حياتي خاص. المسار الأصل يلتقط الكينونة الإبداعية لجيرترود. والمسار الخاص يجسد كينونتها الوجودية بامتداداتها الاجتماعية والسلوكية والنفسية، إنه قانون الازدواج المقلوب الذي يقدم الكينونة المعرفية على الكينونة الوجودية؛ فتصير الأولى مقترنة بمسار يرصد الهوية الرمزية والنوعية، وما يستتبع ذلك من أفعال وسلوكيات ومواقف"[15] تجعل السرد في الرواية ينتقل بين أمرين. الأول: المعرفة والوجود الإنساني والثاني: الإبداع و التخييل الفني.
وفي علاقة المعرفة بالتخييل، وما حققته الرواية من امتلاء فكري ومعرفي مستمد من تجارب الكاتب وعلاقاته وتفاعلاته وقراءاته، يظهر الأثر المعرفي بوضوح على نص "جيرترود"؛ لأنه ما من كاتب يكتب من فراغ، وما من كتابة تأتي من عدم. بل هي مجال "لاستعادة الأشياء الماضية عبر التكرار بمفهومه التفكيكي والتشبّع بمفهومه السميائي"[16].
وبناء على ذلك فإن عبد الرحمن تمارة اهتدى إلى استنباط هذا الأثر المعرفي منطلقا من المعارف الثقافية والاجتماعية والتجريبية وكذا التخييلية للكاتب، لينشئ إبداعا جديدا منسجما مع ذاته والعالم، محققا به معرفة تحرك فئة القراء المتسمين بالذكاء والمتصفين بالنضج القرائي.
تدليل:
إن الاصرار على هذه الدراسات النقدية، كان الهدف من ورائه ليس تضييق الخناق على النص الروائي "جيرترود" وحصره في نطاق الجنس الأدبي السردي، وإنما الهدف الأساس هو إفساح المجال لهذا النص الروائي الجديد التنفس بعيدا عن القيود التي تخضعه لقواعد نقدية مسبقة؛ أي أنها تفتح المجال للنص السردي وتشجعه على الانفتاح أكثر، وبالتالي تكون هذه الدراسات في مجملها وعلى اختلافها قادرة على إضاءة الرواية من خلال استكشاف المناطق الغامضة فيها واستخراج نقاط تفوقها. ثم إن أهم العوامل التي ساعدت هؤلاء الدارسين في استنطاق نص حسن نجمي راجعة إلى ما ييتميز به كل ناقد من بعد فني وجمالي، وقوة ذهنية وخيالية، ومرجعية ثقافية ومنهجية انعكست على دراسته النقدية.
[1] (ْ*) -عميروش( بنيونس): فنان تشكيلي وباحث، من مواليد 1960 بوجدة (المغرب)، أستاذ الفنون التشكيلية. التحق باتحاد كتاب المغرب سنة 2000. عضو مكتب جمعية «نقاد الفن». رئيس جمعية «أنفاس» للفنون التشكيلية. عضو «الجمعية المغربية للفن الفوتوغرافي». عضو شرفي بـ «جمعية الباحثين الشباب في اللغة والآداب» بكلية الآداب وأستاذ بالمدرسة العليا للأساتذة بمكناس. مترجم ومؤلف للعديد من المقالات والدراسات المتعلقة بالفنون التشكيلية والصورة. أقام عدة معارض فردية وشارك في العديد من المعارض الجماعية واللقاءات الفنية بالمغرب والخارج. حائز على جائزة لجنة تحكيم بـ «الصالون الدولي السادس للفن المعاصر حول الموسيقى»، 1996، بفرنسا، شارك بمداخلات في العديد من المهرجانات واللقاءات الثقافية والفنية.
[2] - اعميروش (بنيونس):التشكيل والمعرفة البصرية في "جيرترود"، ضمن مؤلف جماعي: الكتابة والتشكيل، منشورات وزارة الثقافة، المغرب، ط: الأولى، س:2014، ص:129
[3] - المرجع نفسه، ص: 121.[3]
[4] - المرجع نفسه، ص: 122.[4]
[5] - المرجع نفسه، ص: 125.[5]
[6] - المرجع نفسه، ص:131.
[7] (*)- المودن (حسن): 1963، الصويرة. يشتغل أستاذا حاصل على دبلوم الدراسات العليا.التحق باتحاد كتاب المغرب سنة 1997. حاصل على دبلوم الدراسات العليا في الأدب 1996، ودبلوم الدراسات المعمقة في المناهج سنة 1990. ثم الإجازة في الأدب العربي آداب جامعة 1986. له عدة اصدارات و ينشر بالعديد من الصحف والمجلات المغربية والعربية.
[8]- المودن (حسن): الكتابة والتشكيل "استراتيجية التخييل البيوغرافي" ضمن مؤلف جماعي، ص: 55.
[9] - المرجع نفسه، ص: 55.[9]
[10] - المرجع نفسه، ص: 58. [10]
[11] - المرجع نفسه، ص:57.[11]
[12] - المرجع نفسه، ص: 65.[12]
[13]- التمارة (عبدالرحمن): باحث وناقد مغربي، أستاذ بجامعة مولاي إسماعيل من مؤلفاته: مرجعيات بناء النص الروائي، دار ورد الأردن (2013).
[14] - التمار ة(عبد الرحمان): الكتابة والتشكيل "تخييل المعرفة"، ضمن مؤلف جماعي، ص:69.[14]
[15] - المرجع نفسه، ص: 73-74.[15]
[16] - التمارة (عبد الرحمان): تخييل المعرفة، ضمن مؤلف جماعي الكتابة والتشكيل، ص: 86.[16]