َلاَ تراني ..................
كَقُبلَةِ ترابٍ / على / خدِّ نهر
كَسَرابٍ مخمورٍ / تائهٍ في لُجَجِ بحر
أمشي / غبارًا / رمادًا / فوق وجْهِ قبر
الشاعر عز الدين بوسريف
•قنديل بلون الماء
لا تقف أمام بابه
واترك نعليك
المبللة بقصائده الزرقاء
كي تراه لغةً
تطير بجناحي فراشة
بين الماء والهواء
يقول:
أراني بين يدي الشعر أنخطفُ
ومن فوق كتفي العالم أتأمل هذا العماء.
..............
عز الدين بوسريف، هذا الشاعر الذي يتأبط قصائده بكل هدوء ويمشي بين الحروف متطلعا للآتي.
قدماه وجع يحاول من خلاله أن يرى ما لا يُرى، فهل هو فيلسوف تقَلَّدَ وشاح الشعر كي يزرع أنفاسه في الغيم، لتمطر علينا صورا شاردة في هذا الوجود؟
لكن يا إلهي..!، ألم يطرد أفلاطون الشعراء من مدينته؟ فلم يُصِرُّ إذن هذا الشاعر على بناء مملكته من أحجار الحب في شكله المطلق؟
فهل هو ذلك المسافر الذي يحمل في زُوادته قطعا صوفية وسجادة من نور يرى فوقها روحه تصلي؟
أم أنه شاعر مختلف يحاول الهروب عما هو مألوف في الساحة الشعرية بكلماته التي نفخ فيها من معاناته، حتى أصبحت قصائده تتسم بالتنوع والاختلاف؟.
يقول:
إذا هو قال : كُن ،
و أنتَ تولَد / تموت
ما شهِدْتَه غابَ عنكَ
ما تُبصِرُه لستَ تُبصِرُه. (من قصيدة: الهوى نديم نبيذِ الهوى )
فما هذه الإشارات التي نحتها الشاعر فرمى بنا بين الكاف والنون كما قال تعالى: " إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون"( يس : 82) ، و التي فصَّل فيها ابن عربي في كتابه " شجـرة الكون"؟. وما بينهما ـ أي الكاف والنون ـ خُلق الإنسان سرا من أسرارها ليمتثل للأوامر الإلهية .
فبين الولادة والموت يقطع تذكرة تأملاته، ولكن هل كل ما عرفه ورآه كان حقيقيا؟
يرى ابن عربي أن الوجود الحقيقي هو وجود واحد يخص الله عزوجل , أمّا وجود الخَلْقِ فمجرد ظلّ. والشاعر هنا يغوص في نظرية وحدة الوجود ، فهل يخاطب ذاته بمعزل عن ذاته، أي أنه يحاور نفسه بصوت عال مكتوب بالحروف فوق البياض، كي تصلنا نبراته الممزوجة بالحيرة والقلق؟ وكَأنه يقول بشكل واضح :( أيها الإنسان ـ الذي هو أناـ ما تراه مجرد ظل باهت لحقيقة كبرى خفية!.)
لقد شاركنا الشاعر تفكيره وهو يحاول الغوص في الأسرار التي لا يفك شفرتها إلا الذين مُنحوا مفاتيح العلم وسبحوا في بحار التصوف. من تم تنكشف لهم أنوار الساجدين على عتبة الكون، المترفعين عن العناصر الدنيوية للانصهار في الكلي، وهم يتلقون إشراقاتهم كنوع من التواصل الجمالي.
لكن ها هو الشاعر يُحَوِّل الخطاب من المتكلم إلى المخاطَب وكأنه يتحرر من ذاته بشكل مؤقت، فلمن يوجه الأمْر من خلال قوله:
قُل : يا ليتني ما كنتُ.
قد يكون هذا نوعا من النسبية التي تخاطب القارئ الافتراضي، وربما هي مجرد محاورة داخلية وهي التي نحبذ خياطة معالمها المتناثرة.
لقد اعتبرنا هذا تناصا واضحا مع قوله تعالى في سورة "مريم" حين جاءها المخاض " قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَٰذَا وَكُنتُ نَسْيًا مَّنسِيًّا (23)
فلماذا برز الظلام بسيوفه وحارب نفسية الشاعر المرهفة؟، هل الخوف من المجهول هو الذي جعله يطارد النهايات البعيدة، أم أنها محاولة منه لاستجلاء خبايا تيهه؟
•آلام تستوطن نهر الكلام
لقد سيطرت فلسفة الموت على مجريات خطابه الشعري، وهي تتمايل بحذائها الأسود لتثير نقعا غريبا بين أزقة الروح، فلم كل هذا التشاؤم الذي يحاول أن يسجن شاعرا يُصغي للكائنات في عزفها على ناي الوجود، وكأنه يصنع من الصراخ طائرة ورقية تدور في سماء غربته ؟
يقول:
في فَمي ... قبرٌ
و في دَمي .. جمرُ
أمران ... أحلاهُما خمرُ
لا أراني ..شيمَتي الصبرُ
ما طالتِ الأيامُ ، تَفسَّخ العمرُ
هو الموتُ، كأنه البحرُ و الغمْرُ
و حَسْبِيَ من أمريْن ، خيرهُما القبرُ. (من قصيدة : ترابٌ يمشي فوق تراب)
وإن كان ظل أبي فراس الحمداني يُلقي بثقله على ظاهر هذا النص، إلا أن الشاعر وظف صوره بذكاء كبير، فكيف استعار القبر ليكون في فمه؟
فهل هي إشارة ذكية إلى حفظه أسرار الغير، أم تُراه اعتراف جديد بأن ما يعترم في دواخله من أسى يستوطن أعماقه لا يقدر حتى الدمع أن يطفىء جمرته التي تحرق دمه؟. فتعرت روحه أمام رياح الحياة التي رمته في زوابعها فأضاعت صبره.
فالموت هو هذا القناع الذي يرتديه الظلام، يجمع في يديه أوراق الحياة، فيسقطها ورقة ورقة، ويخفي كل الأسرار في ردائه تاركا وراءه الصمت الرهيب.لا تهمه العيون الذابلة، ولا مزامير الروح الشجية، بل يطوي كل شيء في حقيبة ليله ويضيع في المدى متجولا في كل البيوت، ولا أحد يعرف متى يتوهج ساعداه بالغياب.
فكما قال طرفة بن العبد:
وإذا المنية أنشبت أظفارها .. ألفيت كل تميمة لا تنفع
وللشعراء حكايات طويلة مع الموت وأوجاع الحياة ..
•حديث النايات
لقد لاحظنا أن القصائد البوسريفية تترابط في موضوعاتها رغم اختلافها، فلا نجد غير يأس وحلم هارب واغتراب يسجنه بين ضلوع نارية. يقول:
حُلْمٌ أنا ..
فراشةٌ بيضاء
حاصرَتْها سحابةٌ سوداء
تبحث عن كفنٍ لِحُلم ما كان.
وفي موضع آخر:
أَلَمٌ أنا ..
شمعةٌ تحترق عدمًا
كأنها طيْفُ موتٍ
(...)
وَهْمٌ أنا..
الفجرُ أمامي شرودُ سراب
سوادُ الليلِ على جسدي
أكفانٌ من تراب. ( من قصيدة: ما عادتِ الليلةُ عذراء)
فالشاعر ألمٌ ووهمٌ ، وشمع يحترق، كما وصف نفسه في مكان آخر، أثمر هذا قصائد على أهبة الرحيل نحو خانة الجراحات التي يعيشها الشعراء حين يمرون من تجربة الموت، أو الاغتراب الذي سطر أنين أرواحهم في قصائد شفيفة كما عند شاعرنا المتميز عز الدين بوسريف.
فقصائده احتراق روح في مجمرة الشعر، يقول:
حُزْنٌ أنا ..
نايٌ يعزِف لحنَ الجمر.
قلة هم الشعراء في الوطن العربي في عصرنا الحديث من جيل الشاعر عز الدين بوسريف من يحملون على عاتقهم هذه الصخرة الكونية الثقيلة بأسئلة الوجود، فهو شاعر يَخْرُج من ذاته باحثا عنها في هذا الفضاء الرحب، وهو يحمل فرشاة رمزية تتدفق ألوانها لتترجم اضطراباته، هكذا نراه يجري إلى نبع صوفي يغترف من بحر ابنِ عربي، و مولانا جلال الدين الرومي، والحلاج وابن الفارض وغيرهم، يبحث عن نفسه منغمسا في أنوارهم، وكأن هذه الحياة قبر كبير منفتح على عالم جديد لا يراه سواه.
يقول:
إني رأيتني لا أنا
كفنا مبتسما
أصلي في جنازتي. يقول
يواصل الشاعر تناول تيمة الموت بمعناه الفيزيقي، حيث تتنامى هذه العلاقة بشكل متواتر في مجموعة من القصائد الشعرية. مما جعلنا نتجاوز الصور البلاغية لتأمُّلِ هذا الوصف السريالي الذي ينقل للقارىء رؤيا خاصة تحمل في طياتها أجراس النهاية، التي يكسرها بابتسامة تعطينا دفقة من نور من أجل الاستمرارية.
فالفرجة التي أتاحها للمشاهد / القارىء، تتجلى في تنقله فوق مسرح الحياة مراقبا نفسه وكأنه يستعرض الجانب التجريبي المرتبط بالواقع، والذي سرعان ما يتجاوزه كي يعرج نحو مقامات خفية، إذ لا يملك غير الصلاة على وجوده الفاني كحقيقة يراها ممددة فوق بساط أنفاسه، وكأنه في العراء يجمع عصافير الصمت كي تغرد لحنا كئيبا.
يقول:
صمتٌ شاردٌ،
في شاطيءٍ مهجورٍ
يُراقِص قطراتِ المطر.
(...)
شيءٌ ما.. تسرَّب إلى الجسدِ
ما هي إلا شهقةٌ
وينطفئ ضوءُ العمرِ. (من قصيدة: قبر يحتفل بوأدي)
فما هذه الأشياء التي تحترق والتي تنذر روحه بالغرق؟
يقول:
زمنٌ أعمى
كزورقِ وهْمٍ يغرَقُ في يَمٍّ
إنسانٌ ميِّتٌ و يحتضِرُ
ذاكرتُه تتمدَّدُ و ظِلَّ عَدَمٍ
الضوءُ أسودُ كثَوبِ حِداد
و النارُ في غضَبٍ منْ رماد
ترابٌ يمشي فوق التراب
كفَنُ الريحِ مُثقَلٌ بالسراب. (قصيدة: الهوى نديم نبيذِ الهوى)
إنها تفاصيل صغيرة تتحدث عن الذات الشاعرة الهشة ، والتي تلتقي معانيها في معجم نفسي مفتوح على ظلال كثيفة لشعراء تحملوا الآلام السيزيفية، منفتحا على تراث القصيدة العربية، وملتزما في نقل تموجاته الشعرية ذات الرؤى المتعددة إلى ضفة لغوية تقتات من معاناة الإنسان، حيث يرتكز على التكثيف ليجعل المعنى يرقص في رقعة شطرنج، كل مفرداتها منصهرة كي تُكَوِّنَ بناء متماسكا لقصيدته التي تطارد دلالات كلانية، منسكبة من شرنقة ضبابية تؤسس زمنها الخاص.
•أقداح ترسم وجه العشق
فهل نحن أمام ميلاد تجربة جديدة في الشعر المغربي المعاصر، تلحق بركب الشعراء الذين أسسوا مجرتهم الخاصة التي تتكيء على أسئلة الأنا الشاعرة في بعدها الأونطولوجي، والهرولة نحو الإحاطة بذراتها المنثورة في اللامكان ، حيث قبرات الشغف تفتح عيون المساء لعناق الآتي، فنرتوي من ماء الحب الإلهي الذي به كان الوجود؟
يقول:
هو السُّكرُ هكذا
شطحٌ فوق ماءِ الغيبِ
حدَّ الغرق في سرِّ الحجْبِ.
وها هو الشاعر عز الدين بوسريف يستمر في رحلته الذاتية، يطل من شرفة قلبه طفلا لثْغَتُهَ أسئلة حيرى، يجيب عليها حين يقف منتصب القامة وسط ليل يتسلل إلى دمه، لتتكرر مفردات ترجمت معجما نفسيا يستند على الحطام.
إنه خواء مريع، لكنه مشبع بثقافة روحية زلزلت سكون قصائده وخلخلت ثوابتها، فَجَرَّ الشاعر جسده المنهك الذي ألغاه مرارا، مستحضرا بشكل مغاير عبارة الحلاج الشهيرة "ما في الجبة إلا الله" التي سمت بالروح نحو الملأ الأعلى، أما شاعرنا فقد أحال القارئ نحو تصور مادي زائل. أوليس مآل الجثة غير باطن الأرض؟:
يقول:
ما في الجُبَّةِ غيرُ جُثّتي
كأنها جسدُ ليلٍ
يلبس كفنَ الحداد. (من قصيدة : ما في الجُبَّةِ غيرُ جُثّتي )
إنه جسر من قبس المعرفة الذي يمر فوقه الشاعر محاولا أن يروي منه ظمأه ، وهو يتبع قافلة الذين مروا من أرض العشق الإلهي، وكله حيرة تدفعه للبحث عن ذاته الضائعة في جبة الكون، ويرفع الأنخاب قائلا:
هو السُّكرُ هكذا
شطحٌ فوق ماءِ الغيبِ
حدَّ الغرق في سرِّ الحجْبِ. (من قصيدة: شطحٌ فوق ماءِ الغيبِ)
•نبع النهاية
ويبقى نبضه الشعري مسكونا بالمغايرة التي قلما نصادفها في هذا الكم الكبير من الدواوين التي كثيرا ما عزف عن متابعتها القارئ.
إنها حقا تجربة شاعر له بصمته الخاصة، تستحق المتابعة، وأن يسلط الضوء عليها أكثر من طرف النقاد لأنه من طينة الشعراء المتميزين.
عن الشاعر: صدره له ديوان شطحات الجوى ، له قيد الطبع ديوان "أراني لا أنا"