" البناء الثوري هو من صنع حشد من الناس البسطاء. ومهمتنا هي أن نطور ما لدى كل واحد فيهم من خير ونبل، وأن نجعل من كل انسان ثوريا." - تشي غيفارا-
الكتابات النقدية المعاصرة تحاول أن تملأ الفراغ وتفهم لغة الشباب الثائر وتنصت الى الرأي العام وأن تتحدث على نوع من الثقافة الثورية وترى في المثقف العربي هو الضامن لحماية الثورة العربية من الدهاء السياسي وتعتقد أن العرب مازالوا يكررون ما قاله الغزالي و ابن رشد من جهة التراث وما قاله ماركس وسارتر من جهة الحداثة وبالتالي تقر بأننا في انتظار فلسفة عربية تواكب هذا الزمن الثورى العربي وتؤرخ له مفهوميا. لعل المرحلة الأخرى من العمل الفكري والتأصيلي للثورة تحتاج الى مقاربة لمسالة الهوية من منظور مركب وكوكبي وفيه ردّ على مسألة التحديات العولمية التي تعيشها المنطقة العربية زمن الربيع العربي وتثمين لمسألة السيادة الوطنية.
من جهة ثانية إن مفهوم الإرادة هو مفهوم مركزي في الثورة العربية لأنه ارتبط بإرادة الشعب ونضجه وعبقريته وقدرته العجيبة على التحفز والنهوض بشكل جماعي ضد التهميش والازدراء وكذلك ارتطبت ارادة الانسان الثائر بكسر حاجز الخوف وتفكيك قلاع الاستبداد. من البديهي القول بأن الشعب هو الذي انجز الثورة وليس النخبة ،لأن النخبة العربية في جزء كبير منها أصيبت بفعل الجرثومة الشمولية وتتالي الهزائم والنكسات بنوع من العجز السياسي والفراغ الروحي وكانت تعيش على فتات السلطة والتبعية للغرب ولم تكن في معظمها أو على الأقل في القسم الأغلب منها نخبة ثورية وإنما افتك الشعب وخاصة فئاته الشابة منها زمام المبادرة بنفسه وعبر عن إرادته وحركته وتصميمه على الذهاب بالمعركة بعيدا وتوجه نحو نقد جذري للحاضر وذلك بالقطع مع الماضي والتحفز نحو صنع المستقبل.
علاوة على ذلك إن مسألة إرادة الحياة التي صاغها شاعر الثورة الشهير أبو القاسم الشابي هي قلب الرحى في صيرورة الأحداث الاجتماعية ولذلك وجدت الشبيبة في هذه المسألة نوعا من الصورة الشعرية التي ترسم وتحكي عن مسألة إرادة الحياة وتتوق نحو الانتصار على العدم والتغلب على ثقافة الموت. لذلك كان الهتاف بقصائد من أغاني الحياة يعني ترديد فصول من الربيع العربي ولوحات من الملحمة الكبرى في كنس رموز الفساد. وبالتالي كان الشاعر أبو القاسم الشابي وخاصة بيته الشهير " إذا الشعب يوما أردا الحياة فلابد أن يستجيب القدر " نقطة اللاعودة مع الاستسلام والإمتثال للحتميات وقرارا وجوديا جماعيا من أجل إخضاع مشيئة التاريخ لإرادة الإنسان وكان تقبله من طرف الشباب والمناضلين نوعا من حسن التعامل مع وظيفة الشاعر لا كمادح للسلطان ولا كساخر من معارضيه إنما كشاعر ثورة قام مع الناس ضد الظلم ، وكان قيام المثقف بتدخله في ما لا يعنيه هو اضطلاعا بواجبه الاجتماعي ودوره الطليعي ووظيفته الرسالية وتعبيرا عن ضمير المجتمع وعن إرادة الناس وعن روح الثقافة التائقة نحو الحرية والتخلص من براثن الظلم والاستبداد.
لقد كان الشابي ولا يزال أيقونة الثورة العربية ولسان الحراك الاجتماعي الفصيح ولعل صورته التي انتشرت عبر العالم وقصائده التي ترجمت الى العديد من اللغات هي دليل على مكانته المرموقة ورمزيته المكثفة في اللاشعور الجماعي ويمكن اعتباره بلا مجاملة مرآة عاكسة للروح الثورية للشعوب العربية ضد الاستعمار في كل لحظة نضالية عصيبة ضد الطغيان والتأخر والتدخل الخارجي.
في مجمل القول لم تكن رؤية الشباب للربيع العربي تختلف عن أي مثقف عادي في الوطن العربي بل كانوا جميعا قريبين جدا من الحراك الثوري وجزء من الأغلبية التي حرضت عليها شعريا وذلك من خلال الانخراط في الفعل السياسي المعارض وممارسة العمل النقابي وأيضا عن طريق النشاط الثقافي والحقوقي. ولذلك لم تكن رؤية المثقف العضوي مسقطة ولم يكن يطل من الشرفة أو من زاوية البرج العاجي الذي دأب الفلاسفة على السكن فيه والنظر منه وإنما كانت مقاربته تنبع من عمق الشارع الذي تحرك فيه ومن زاوية الشباب الذين تعاطف معهم نفسيا وخاض معهم المعارك وشاركهم المسيرات والمظاهرات وتنفس معهم غازات وغبار الميدان.
من هذا المنطلق ينبغي أن تكون الفلسفة الثورية ملحمة شعبية ونظرية اجتماعية وفكرا عينيا يعكس الروح الثائرة لدى الناس البسطاء ويعبر عن التلاحم الاجتماعي وعن الارادة الشعبية التي تتوق الى التحرر من سلطة الماضي وإنجاز وخلق مفاهيم أصيلة تعبر عن المرحلة الجديدة . إن هذا المخاض العسير الذي عرفه المجتمع العربي في تونس ومصر ووقع التعاطف معه في بقية الأقطار قد مكنه من افتكاك السلطة من القصر وتحويلها الى الشارع ومن جعل الرأي العام هو الذي يفرض قراراته ويدلي بمشيئته على الارادة السياسية للأحزاب المعارضة الفاشلة والأنظمة المتسلطة، وبالتالي أصبح الثائر بما يقترحه ويطمح اليه هو الذي يتحكم في مصير الشعب بأسره ويدير أموره الوجودية ، وصرنا نعيش زمن سلطة الشارع بعد زوال سلطة القصر وأصبحت الفلسفة الثورية مواكبة لهذا الانقلاب الحقيقي في الموازين بين المجتمع السياسي والمجتمع المدني ولروح المبادرة لدى الشارع العربي وقدرته الفجئية على التمرد.
على هذا الأساس لا يمكن تنزيل المقاربة الفلسفية النقدية في مستوى البنية الفوقية بقدر ما يمكن ادراجها في البنية التحتية وذلك لشدة ارتباطها بهذه الثقافة العضوية وانغراسها في هذا الاندماج الاجتماعي وهذا التجذّر في الهوية الكوكبية وفي الكرامة الوطنية ولسعيها الشديد نحو التعبير عن هذه الثقافة التي تجعل المفكر مرتبطا بالأرض وبالشعب وموليا وجهه شطر العروبة الجديدة والإسلام المستنير دون الولاء لأي ثقافة أخرى غازية أو مستبدة وإنما تنشغل بالوفاء لثقافة الناس البسطاء التي تطالب بتبني سياسة عادلة للحياة وتعبر عن طموحهم في التحول من مجرد رعايا الى مواطنين أحرار وربما يكون شعار المواطن الحر هو الحل هو بيت القصيد في أنشودة الثورة العربية التي كررتها الجماهير امتثالا لنداء العقل الجمهوري العربي واحتراما لوجهة التاريخ نحو انتزاع الحكم من فئة ضالة ومنحها الى عامة الشعب.
من نافل القول أن الثائر لا ينتظر جوائزا من أحد ولا اعترافا من أي جهة ولكنه يقوم بالواجب ويؤدي رسالته فحسب، والمسألة عنده تتعلق بتحمل المسؤولية وتفعيل نموذج المواطن المطلوبة في المجتمعات التي تتوق نحو الديمقراطية ، إضافة الى أن العقل الجمهوري من ألواحه الاشارة الى الانسان في مستوى وعي الشعب بنفسه في لحظة تاريخية معينة ، وأن يعبر عن إرادة الشباب وعزمهم على التحرر من نير الاستبداد ولذلك تعتبر الكتابة النقدية في زمن الثورة محاولة من أجل تسجيل ملحمة شعب ورد الدين والوفاء بالوعد والتحلي بالصدق النضالي والطهارة الثورة حتى يكون الفيلسوف في مستوى الحدث الاستثنائي الذي تعيشه المجتمعات العربية ويتكلم بلسان الأحداث مع الحرص على الأمانة والموضوعية.
زد على ذلك أن ينقل المثقف الى الناس صورة تقريبية عن الواقع الثوري الذي يعيشه باستعمال نوع من التشكيل السردي هو نوع من التأثيث الفلسفي الضروري واستجابة الى نداء وجودي وشهادة على العصر دون انتظار اعتراف أو جزاء أو شكرا ، وفي الحقيقة يحاول الكاتب أن يعكس ولو بشكل نسبي هذا الحراك السياسي والاجتماعي والفكري وأن يعلق على نوع من الثقافة السامية التي أبداها بعض الناشطين وأن ينخرط في ممارسة الفعل من خلال استراتيجيات النقد الموضوعي والتفكيك والتأويل للطبقات السلطوية العميقة التي تقبع في اللاشعور السياسي للإنسان العربي. عندئذ يحاول المثقف المعاصر للصيرورة الثورية أن يخط رسالة فلسفية الى الشعوب العربية الأخرى من أجل الالتحاق بالمد الثوري والحرص على بناء المدينة الانسية العربية والانتفاضة على الطغاة والغزاة وتحرير فلسطين والتوحد الحضاري وإرساء الأمن الثقافي وصيانة مبدأ السيادة الوطنية والندية الحضارية.
لعل أكبر اعتراف من العقل الفلسفي العربي لتونس الكرامة التي اندلعت فيها الشعلة الثورية التي أنارت المشهد العربي وأخرجته من عنق الزجاجة هو الاقرار بأن ثوارها حققوا السبق على مستوى اللحاق بركب الأمم وردموا هذه النقيصة- الثورة التي كانت غائبة عن حضارة أقرا وأملوا جميعا في ادخالها بشكل نهائي الى عصر الحداثة السياسية وأتموا زرع نبتة الديمقراطية داخل الوطن العربي وداخل الثقافة العربية حتى تخرج من النفق المظلم الذي كانت نتخبط فيه وتقطع مع ذهنية احتكار المشهد السياسي من طرف اقلية وتحتكم الى رأي الأغلبية للمرة الأولى بصورة سوية وديمقراطية وليس بالإكراه والقمع .
من جهة أخرى لا يمكن الفصل بين الفلسفة والثقافة باعتبار أن الثقافة تجمع بين الفنون والأدب والعلوم والفلسفة وتعرف بأنها المضاف من الانسان في الوضع الطبيعي الذي وجد فيه، كما يمكن اعتبار الفلسفة نفسها ضرب من الإنسانيات وتدرج ضمن الثقافة النقدية خاصة مع أهمية وظيفة التنوير الذي يمارسه الفيلسوف في حواره مع الأدباء والعلماء والباحثين ورؤيته الموسوعية وتدخله الرشيق في المشهد الاعلامي وموقفه الجريء من القضايا الساخنة.
والحق أن الفلسفة العربية الموعودة يلزمها أن تشجع على استعمال العقل وتحث على تنوير الجمهور وتدعو الفيلسوف الملتزم الى الذود على قيم المواطنة والانتصار الى حقوق الانسان دون المساس طبعا بالقيم الدينية الأصيلة،ومع احترام المقدسات والرموز الحضارية واستعمال الحجج العقلية في البرهنة على وجود الله واثبات النبوات، ولكن تنادي أيضا الفلسفة الشعبية بإخراج الجمهور من وضع الحشود والارتقاء بهم الى حالة الانسان الذي يتمتع بمجموعة من الحقوق وترد كذلك بصورة مقنعة على الخطاب الاعلامي الذي تصنعه الفضائيات العربية التي تجعل من بعض المنشطين فلاسفة للثورات وتنفخ في صورتهم لكي يصيروا أبطالا ونجوما وتتعامل مع مواقفهم الموالية لبعض الدوائر والجهات المالية والسياسية على أنها تحاليل علمية ورؤى استشرافية للأمة بينما هي في حقيقة الأمر مجرد أقاويل مغشوشة وآراء مبتسرة.
إن أهم ما يوجد في عملية التثوير والتفكك التي قد تنتج عن الربيع العربي هو أن تخرج تجربة التنوير من صورتها النمطية الغربية التي أرتبطت بالفرد البورجوازي الأناني وجعلت الحداثة الغربية تفضي الى تطور لامتكافىء ودفعت العقلانية العلمية والتقنية الى ترك أصقاعا كبيرة من المعمورة تسبح في الظلام وتصدر لها الاستعمار والفقر والبؤس والمرض. ان ما تنادي به الثورة العربية هو ارساء تنوير جديد وأصيل يشرف الانسان العربي المسلم ويجعله في وضعية استخلاف وائتمان على الكوكب على جهة الحقيقة لا على جهة المجاز،انها بالأساس وضعية ثورية تدعو كل انسان الى تنمية مهاراته وتقوية ملكاته الطبيعية والاستحواذ على جملة من القدرات العقلية والجسدية التي تؤهله ليكون معمرا للأرض بالمعنى القرآني ومتجها نحو تحالف مع آدميته ومحققا لنوع من المصالحة بينه وبين ذاته والله والطبيعة ويكون بحق خليفة الله في الأرض لا متشبها بالطواغيت والجبابرة والشياطين. لكن متى يرتقي العقل العربي الى درجة الفاعلية النقدية التنويرية ويعيش ثورته الثقافية من الداخل ويدخل في صراع فعلي مع ذاته؟
ما هو مطلوب اليوم من المثقفين العرب هو تخطي الإميات الحدية والثنائيات القاتلة والنهوض بالثقافة العربية ومقاومة التصحر الثقافي الحالي، ولعل دور الفلاسفة والمثقفين العرب سيكون كبيرا جدا ومسؤوليتهم ثقيلة خاصة في زمن الربيع العربي لأن المطلوب منهم هو المحافظة على الثورة وتحقيق أهدافها والوفاء للشهداء وحفر خنادق لمقاومة الردة ومنع ظهور بوادر الفتن داخل جسد الأمة وذلك بنبذ روح التعصب والعنف والابتعاد عن منطق التمذهب والتحلي بالتسامح والصداقة السياسية والمسالمة الوجودية وتحريك السواكن وطرح الاشكاليات وبرمجة البدائل وتقديم البرامج والوصول الى تفاهمات.
غاية المراد أن الثورة إذا لم تجد ثقافة تحتضنها وتفعلها في الواقع الاجتماعي وتنقلها من الشارع الى الادارة ومن الوجدان الى العقل ومن الشعور الى الوعي فربما تنقلب على نفسها وتأكل أبنائها وتأتي على الأخضر واليابس ويمكن أن تضيع هدرا وتتحول الى ثورة مضادة تأتي على ما تبقى من الحياة على هذه الأرض الطيبة وهناك العديد من الثورات الشعبية التي ظلت مجرد خطوات منقوصة وأسست لاستبداد أشد ضراوة وأفرزت ديكتاتوريات ناشئة بدل جمهورية اجتماعية وعوض تأسيس ديمقراطية تداولية. هكذا تبدو الآمال معلقة على المثقف الناقد والكاتب الحر والشاعر الملتزم والفيلسوف الساخر وتبدو المهمة المنوطة بعهدتهم هي المحافظة على هذه الثورة وترجمتها على الواقع في حركة ابداعية جماعية وذلك بضرب هذا الاحتكار الممنهج لإستعمال العقل وإعادة الاعتبار للإنسان العربي وللثقافة العربية والدخول في عصر الاستعمال العمومي للعقل والاحتكام الى آراء العقل الجمهوري ومقررات النقد التجريبي.
على هذا النحو تكون معالم المثقف العربي هو المثقف النقدي الانشقاقي المترحل الذي يمثل الضامن الأبرز والملتزم الأمين الذي هو مطالب بأن يحمي بنفسه الصيرورة الثورية من الدهاء السياسي ومن متاجرة رجال الاقتصاد ومن تسلط بعض المتقنصين للفرص من كهنة السوق والذين يصطادون في المياه العكرة، خاصة في ظل وجود العديد من القوى الخارجية المعادية التي تتربص بالثورة وتبحث بكل الطرق على تضييع الفرصة على العرب والمسلمين حتى لا يستفيدوا منها، بل نراهم يحاولون توظيفها والركوب عليها من أجل خدمة أجندتهم وتحقيق أغراضهم ومصالحهم بعدما فشلوا في محاصرتها وإجهاضها واستعملوا كل الطرق الممكنة دون جدوى. فما العمل حتى لا تتحول الثورة العربية الى مطية تواصل فيها العولمة المتوحشة سياستها التوسعية بطرق ديمقراطية وتحت رايات نشر ثقافة حقوق الانسان والمواطن وحتى لا يكون الثمن هو الاعتداء على سيادة الشعوب وتدنيس مقدسات المجتمعات وتفكيك الأوطان؟
والحق أن المثقف العضوي هو الضمير الحي للمجتمع وصمام أمان للثورة العربية لأنه يغرد خارج السرب ويعلو على كل نفعية وأداتية ويقتدي بالعقل التواصلي ويرى أنه بإمكانه التدرب على الحرية ومقارعة كل سلطة تعترضه في كدحه نحو الحق، وهو قادر على أداء هذه الأمانة بانتباهه الى واقعه وبجرأته النقدية أثناء التشخيص والتوصيف وبتحمله للمسؤولية أثناء الفعل الثوري.
بيد أن الخصال التي يجب أن يتحلى بها الفيلسوف الملتزم عديدة وأهمها هي ترجمة الطاقة الثورية في صيرورات من الخلق والإبداع وبؤر مقاومة للإرتداد التراجعي في الداخل والعولمة المتوحشة في الخارج وأن يدخل في حوار مع الآخر ويعارض المألوف ويقاوم الرداءة والعار ويعطي صورة ناصعة عن هذه الهبة الاجتماعية ويجعل منها جسر عبور بين الشرق والغرب وجلسة حوار نقدي بين الماضي والمستقبل ودرب يصعد بنا جميعا نحو مستوى الثقافات الراقية، وكذلك حري بهذه الشخصية المفهومية الجاحظية أن تقطع مع استيراد البدائل الجاهزة من الغرب في مقابل جعل الثقافة العربية تواكب المخزون العلمي وتستوعب روح الثورة الرقمية حتى تتمكن من القبض على مفاتيح الخروج من الدائرة الضيقة للتبعية نحو أفق أرحب للإنسانية الكونية، وتؤسس نوع من الاستقرار المطلوب الذي بإمكانه أن يهضم المبادئ التوجيهية الكبرى التي نادى بها الشباب الثائر على أمل بناء أمة عصرية.
فهل يفهم العرب مثل هذا الدرس ونراهم يتسارعون نحو الطريق الثوري؟
ان إنتاجنا الفلسفي العربي لم يرتق بعد الى مرحلة الابداع الخالص بل هو تقليد مضاعف ومجرد إعادة صياغة للموروث وعلى المستوى الفلسفي العربي لا يزال بادئ الرأي في موقع متعاند مع كل تجدد وانبعاث ورافض كل نفس ثائر وظلت الجامعات العربية اشبه بحوزات دينية محافظة ترفض النقد والخلق والتفكير وتعيش على الولاء والامتثالية والتنميط، وبقي عموم الناس لا يقدرون على الاستئناف الحضاري الثاني وبعيدون كل البعد على الاقل عن لحظة الابداع الفكري وعن إفادة الشعوب الأخرى وإنتاج الحضارة الكونية كما كانوا الأجداد يفعلون ذلك في عصور الازدهار الأولى.
لعل أسباب هذا الضعف الفكري الرسمي على مستوى البنية الفوقية للثقافة العربية هي حالة التبعية والتشذرم والماضوية والتقليد واستنساخ التجارب الغربية الفاشلة والانخراط في العولمة الاستهلاكية ونمط الحياة المرفهة دون تدبر وبلا اختيار متبصر وقدرة على التأقلم مع التحولات والمستجدات الطارئة. إذ صحيح أن بعض مراكز الدراسات والمجامع قد وجهت الريع النفطي نحو الترجمة والعمل الموسوعي ولكن لحظة الترجمة التي نعيشها اليوم قاصرة عن مغادرة لحظة الانبهار بالغرب ولحظة التبعية للتراث الفلسفي القديم خاصة الاغريقي وحتى ما كتبه أجدادنا في المدونة الفلسفية الوسيطة هم مجرد اتباع وصهر لنفس الموازنة العلمية والمنهجية الشرقية التي توافدت عليهم من الحضارات المجاورة وأضافوا اليها بعض المبتكرات والاجتهادات في علوم أصيلة لم يكتب لها التاريخ الفكري والعلمي أن تكتمل وتتطور ويستفيد منها العرب والمسلمون. فإذا كان ابن خلدون قد أسس لعلوم التاريخ والاقتصاد والسياسة والاجتماع فأين هو هذا الفيض المعرفي الذي أحدثه في الثقافة العربية وكيف انتبه اليه الغرب واستفادوا منه في حين تركه بني قومه وأهملوه، وإذا كان التيار الاسمي مع ابن تيمية قد كسر المنطق الأرسطي بالفعل ونقد المذهب الواقعي وحاول ايجاد منطق اسلامي فأين هي هذه الثورة الابستيمولوجية التي فجرها في العلوم الاسلامية وتحدث عنها بعض المتاجرين بالتراث في السوق السياسية ومن حقيقة قد تسبب في تخلف العرب والمسلمين غير هؤلاء الذين يزعمون وجود ما ليس لنا ولا يعترفون بالخطأ ومتى يقر هؤلاء بالتناهي البشري والنسبية المعرفية ويحققون الاستفاقة والمبادأة.
في الواقع مازال العرب يكررون ما قاله الغزالي وما قاله ابن رشد ولم يحسموا أمرهم بعد حول هذه الاختلافات وحول أمهات المشاكل وكبريات القضايا التي إذا بقوا متأخرين في معالجتها فإنهم سيسقطون مرة أخرى في التيه التاريخي ودوامة الهدر الحضاري وتتعمق الفجوة الرقمية ويعسر عليهم اللحاق بقاطرة التقدم. والحق أننا مازلنا الى الآن على الصعيد الفكري إما ننقسم الى تيار التقليد وتيار التحديث وإما نكون مجددين على الطريقة الغربية ويوجد طرف ثالث لم يقدر على الرد على شبهة التلفيق والخلط وينشب بين الاتجاهات الثلاثة صراع معطل ويزيد من تعكير الأجواء، وهذا خطأ كبير وضياع للبوصلة .
صحيح أن القرآن الكريم قد تضمن عدة ىيات ثورية مثل " إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" ( سورة الرعد، الآية11) و"أثاروا الأرض وعمروها" ( سورة الروم، الآية9) وصحيح أيضا الأحاديث النبوية الشريفة تحرض على الثورة الاجتماعية والفكرية مثل " ثوروا القرآن فإن ظاهره أنيق وباطنه عميق" و"إن الناس اذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب" وهذا من أهم النقاط المضيئة في التراث العربي الاسلامي الذي لا يزال حيا في النفوس وموجها للعقول، ولكن الأصح هو زرع تجربة الثورة نفسها في قاموس الثقافة العربية عن طريق ثلة من المجددين المستنيرين مثل علي شريعتي في "بناء الذات الثورية" وحسن حنفي في " من العقيدة الى الثورة" وعصمت سيف الدولة في " نظرية الثورة العربية" وطيب تيزيني في " من التراث الى الثورة" ومحمد عمارة في "الاسلام والثورة".
لقد الآن الأوان في عصر الثورة العربية لكي تنقلب الأمور رأسا على عقب ولكي يتغير الكثير من الأشياء وتتوحد الصفوف وتتظافر المجهودات وتتعاضد المرجعيات من أجل الدخول الى زمن اليقظة المنتظرة خاصة وأننا في حاجة الى إنتاج فلسفة الثورة العربية وأن هذه الفلسفة الجديدة هي التي بإمكانها أن تتحرر العقل العربي من سلطة الماضي ومن سطوة الحاضر، سلطة الماضي في علاقة بالمدونة القديمة وسلطة الحاضر في علاقة بالفلسفة الغربية خاصة، وهي وحدها القادرة على السماح له بالدخول لحظة ما بعد الحداثة من الباب الكبير وتجعل الفرد العربي متحررا من جميع أشكال الوصاية والقصور ومن حالة الفصام وسوء النية وازدواجية اللغة والشخصية. ولعل تحطيم حاجز السلطة السياسية بالمعنى المعرفي للكلمة يجعل العقل العربي يتمتع بالحرية الكاملة ويتسلح بالجرأة والشجاعة وإرادة الحياة ويشتغل على النقد والإبداع وتقديم البدائل التي تنتظرها الشبيبة الثائرة بفارغ الصبر. اذ من غير المعقول أن ينجز الشعب ثورة اجتماعية ولا تجد هذه الانتفاضة صداها على الصعيد الثقافي والفكري ولا يقدم العقل للمجتمع نظرية ثورية مختلفة تعكس هذه الانتفاضة المتوغلة في أعماق المجتمع والمنطلقة الى الأمام.
قد يكون هذا المجهود التأملي المبذول في هذا الاتجاه التأصيلي ولكن ينبغي أن نعترف كذلك أن كل ما كتب الى حد الآن على المستوى الفلسفي في علاقة بالربيع العربي وإذا ما قارناه بالثورات الكبرى التي عرفتها الشعوب الأخرى في العالم هو لا يلبي المطلوب وأن الأحزاب السياسية التي انتصبت بعد الحدث الجلل بشكل فوضوي قامت على أساس ايديولوجي كلاسيكي وتجتر نفس البضاعة السياسية المفلسة وبالتالي لا يمكنها أن تمثل الأمل بالنسبة الى الجيل الجديد لأنه ثار ضدها ورماها عرض الحائط ،لذلك نحن بانتظار فلسفة عربية تواكب الزمن الثورى العربي وتكتب ملحمة المجتمعات العربية في افتكاك زمام المبادرة والصعود على الركح وصنع مصيرها بنفسها... ألم يقول الثائر الأممي تشي غيفارا:" يحتاج المرء في جميع المهام الثورية أساسا للفرد. لا تسعى الثورة، كما يدعي البعض، الى تعميم الارادة الجماعة وروح المبادرة الجماعية، على العكس تحرر القدرات الفردية للإنسان."؟ كم من ثورة يحتاج العرب لكي يتقدموا ويحطموا الجهل والتخلف والخوف والفقر والمرض ولكي يحلموا بغد أفضل ويعيشوا تحت الشمس؟ هل ستعترف الثورة العربية عدة فصول ومراحل وحلقات؟ وأليس الأمر يتطلب انجاز الثوار في ذات الوقت التحرر السياسي والإنعتاق الاجتماعي والاستنارة العقلية؟ وهل المطلوب هو استكمال المسار الثوري أم العمل على نقل الثورة من الشوارع الى العقول ومن المصنع الى اليد الصانعة؟
كاتب فلسفي