"أفضل من لا شيء" جملة نرددها في كل المناسبات آنيا مادام الأفضل لم يأت بعد و ربما لن يأتي. لذلك، فلا خيار أمامنا سوى التحاف ما يقدم لنا بوصفه كساء عزاء يعانق الموت الحريري في زمن يخونه اللازمن، و يستلب فيه صمت البيئة المحرومة دهشة اختراق الفرح لحظة الٳعلان عن ضرورة الأفضل. ٳننا نعيش حلقات أعظم درامية ممسرحة تعتذر عن جحيمها الآني بوعود البحث عن حلم الأفضل و عن القوى الخفية القابضة عليه. فنحن في سنوات المرحلة الانتقالية؛ مرحلة التكاذب التي تستلهم من زلزلة روح الأفضل سحر الٳحساس بأننا نعيش حياة طبيعية٬ و بتعبير أدق٬ نتخيل حياتنا - حياة طبيعية – تخيلا حسيا فيحضر الأمر و نقيضه بشكل يختلط فيه الحلم و الخيالي و المستحيل بالواقعي. هذه الحالة تجعلنا نتخيل أن لدينا تعليما يعلم٬ ومنظومة صحة تعالج٬ و جهاز عدالة ينصف... بينما الأسوء هو رضانا بمؤسسة التعليم التي لا تعلم٬ و بمؤسسة الصحة التي لا تداوي٬ و بمؤسسة العدالة التي تظلم... بل الأبشع من هذا و ذاك هو عدم القدرة على استشعار الأفضل و العجز عن تشخيصه و كأننا حرمنا من الشروط الضرورية التي تسمح لنا بتفعيل قدراتنا الفطرية.
"أفضل من لا شيء" شعار استنفار أقصى تضيع به بوصلة الاتجاه٬ بل شعار مؤسس للحركة الضامنة لتدجين التفكير بالأفضل و لاحتواء الوجه الآخر لحظة الشعور بفداحة الظلم و الاستبداد. إنه شعار للأفضل المؤجل طبعا لأننا في المرحلة الانتقالية٬ و الأفضل المؤجل ليس أفضلا بالتأكيد لأنه يرجى دون أن يتحقق٬ فينبثق من نشدانه دون أن يدرك الرضاء بما يقدم لنا أو لا شيء على الإطلاق. إنه حلقة توسط بين الموت و الحياة تحجب اللغز الذي بمقتضاه لا ينفك الأفضل ينهار باستمرار و يستحيل إلى عرش شيدت متاريس صروحه على تيار ماء متدفق بلا توقف.
"أفضل من لا شيء" عبارة فضفاضة يستيقظ معها الاستبداد على صرخة عذاب يرسم بدمه و يخط بدموعه أفضلا تراجع إلى النقيض المتاخم لوضع الانقضاء٬ و الضمور٬ و الموت. عبارة تخفي ميولا سادية و أنماطا لا إنسانية للارتباط نتيجة فقدان القدرة على الحلم و عدم الاستطاعة على رسم شروط الأفضل. إنها انخراط قاهر في قوالب الأصنام٬ و المؤسسة لسلطة الوصاية و الاستثمار التي تجرم حافز تشخيص الأفضل حين الإلقاء بنا في محنة العجز عن التفكير فيه و الاحتفاظ بالسكوت حياله٬ حيث تغيب كل إجابة فيتولد قلق استحالة العثور على موضوع مخصوص للأفضل.
"أفضل من لا شيء" فكرة وصفت بالإشراقة حين ارتبط زمنها بسياق قلمت البلادة أظافره. و البلادة ليست سوى لحظة الرحيل إلى عالم اللانتماء و التجلي المغشوش بارتعاشة الفكرة المصحوبة بأضاليلها٬ ليستلذ شهقتها المستبد الرابض و المثيقف المداجي. فكرة أبعدتنا عن وضعنا الطبيعي المتمثل في السعي الشرعي نحو أصالة الأفضل حيث بساطة العيش و عفوية التصرف. فبترتيباتها الاجتماعية المصطنعة٬ و نظمها الأخلاقية المتكلفة – على نحو فيه الكثير من الادعاء و النفاق - أصبحنا أمام مفارقات يتسلى الكثير باستنطاقها٬ مفارقات لا تفعل شيئا سوى إحلال التبرير محل التفكير ليتولد خليط هجين انحدرت فكرته المضللة من سلالة التبرير كعلامة عياء أفرغت محتوى المجتمع. فقد أضحى هذا الأخير شبيها بمحار أفرغ من الحياة ليتحول إلى صدفة مشطورة إلى نصفين٬ و مبعثرة على شاطئ الأزمنة الحديثة. فطرفا الصدفة تجسده الجدلية الصراعية لأطروحة المحاكاة في نسختيها؛ ففي الحالة الأولى لسنا أكثر من ببغاء مقلد تلح محاولاته الرجعية على المطابقة التأصيلية لفكرة الأصل القابع في دهاليز الماضي٬ و في الحالة الثانية لم نبارح قط دور الوكيل التجاري الذي يسوق بضاعة أجنبية بدعوى إمكانية استنساخ علامتها التجارية محليا.
"أفضل من لا شيء" تعبير تهكمي مسكنه العرضية و الفوضى السائدة٬ مؤكدا أن ليس هناك جيد أو رديء ٬خير أو شرير. لعله تهكمي مادام ينظر بعين الهزء للأفضل و الحس السليم٬ بل هو تهكمي لأنه مدفوع بعدمية تعكس الوجه المقلوب للحظات العجز التي تخترقنا عندما نظن أن أفضل طريقة لنفرض على المستبد ألما يدوم طويلا هو أن نظهر له ما كان يبدو له ذي أهمية قصوى تافها لا طائلة منه. فالتهكم عدمية من جنس الذي يساعدنا على الانعتاق من الحسرة و المرارة٬ ذلك أنه لم يكن لشيء أن خذلنا مثلما خذلنا الساسة و المثيقفون. لقد وعدونا بأشياء كثيرة٬ و نحن بدورنا توقعنا منهم أكثر مما يستطيعون٬ و لكن٬ و يا لحظنا العاثر٬ لم نخرج معهم إلا بالإحباط و خيبة الأمل. هذه الحقيقة المريرة جعلتنا نعيش في حيرة مضنية بعد أن تسربت مرارة الفشل إلى قاع أنفسنا و أكدت لنا أننا نقف أمام جدار المستحيل. فمن قاع تلك الحيرة المدلهمة تنفجر صرخة التهكم جاثمة على أكف العدمية لنتكلم لغة مترعة بالشك باعتبارها المرآة المشروخة و العاكسة لجنون الانعتاق من الحيرة الدائمة.