لقد شكل 20 فبراير استثناء في تاريخ المغرب الحديث ، فبعد المخاض الذي عاشه المغرب وأزمة التحديث السياسي التي ظل المغرب يتخبط فيها مند الاستقلال الشكلي في 1956 مع خروج فرنسا بعدما تم تفويت السلطة من يد فرنسا إلى القصر ، طرحت مسألة التحديث على كافة الأصعدة غير أن المحافظة على الإرث السلطوي السلطاني في المغرب دفع بالمسؤولين إلى كبح جماح المواطن المغربي الطامح إلى معانقة الحرية و الإنعتاق من ظلال الاستعمار و تنفس روح الحرية مع مغرب جديد في منظومة عالمية جديدة ، لكن المحافظة على الإرث القديم و الخوف من الانفتاح على المنظومة السياسية العالمية ،دفعت بالمسؤولين _ أصحاب القرار و النفوذ _ إلى كبح جماح المواطن و سد تطلعاته نحو الحرية فخرج من نير الاستعمار المباشر إلى ضلال أعيد معها القمع و القهر و الاستعباد المكرس سابقا من طرف سلطات الحماية ، حتى تم إعادة تكريس جميع أشكال القمع في حق الحركات الاحتجاجية الاجتماعية ، السياسية ... الداعية إلى التحديث على كافة المستويات ، فوجهت بالقمع أو النفي أو السجن أو الاغتيال ، لتتم إعادة بنية المجتمع المغربي إلى ما كان عليه في السابق ، بل وأكثر من ذلك الشيء الذي أثر بشكل مباشر على سؤال الهوية للمغربي في ظل منظومة عالمية حداثوية فأصبح من الصعب جدا تصنيف المجتمع المغربي في سلم الحداثة ؟
إن بنية المجتمع التقليدية بموازاة منظومة عالمية حداثية و الصراع السياسي القطبي و إشكالاته ، و في ظل التطور الإعلامي و التكنولوجي فرض على رجال السياسة الانفتاح على الغرب الحداثوي بامتياز ولو بشكل نسبي ، مع احتراز كبير خوفا على مواقعهم في سلم التراتبية الاجتماعية وحفاظا على نفوذهم و سلطتهم ، غير أنه رغم هذا الانفتاح الضيق فإنه كان بمثابة الثغرة التي سيتنفس منها المغربي الديمقراطية و الحرية التي يفتقر و يتوق إليها .
إن التدخل الغير مباشر للغرب في المغرب و تسيير شؤونه خلق أزمة لدى المثقف المغربي بين التقليد و التحديث وكذلك عند رجل السياسة الأول ، بين الانفتاح على الديمقراطية العالمية و بالتالي زعزعة لسلطته و لمكانته و تقليص نفوذه وما يلزم ذلك من تبعات أخرى أو تكريس سلطة أبوية تقليدية تخلق وهم و كريزمة أميرية لسلطة رجل واحد يتم تقديسه ، وبالتالي قبر مجتمع بكامله في دوامة التخلف ، إن انفتاح المغرب الضيق على المنظومة العالمية الجديدة جعله يتنفس قدر قليل من الحرية و الديمقراطية للمجتمعات الحداثية ، الشيء الذي فرض على المغرب تغيير سياسته الداخلية و محاولة الانفتاح على الغرب واستيراد مفاهيم سياسية جديدة وإلا لكان الوضع يسير في اتجاه التغيير الجدري و هو ما عبرت عنه الانشقاقات في صفوف الطبقة السياسية الحاكمة [ انقلابات سياسية ] . إن الأحداث السياسية التي عرفها المغرب من انقلابات وصفت بالفاشلة إلى احتجاجات شعبية [ الحركة التلاميذية + الاتحاد الوطني لطلبة المغرب + أحداث فاس و صفرو ...] طيلة أزيد من ثلث قرن من الزمن عكس حاجة البلد إلى الانعتاق السياسي وتنفس روح التغيير و الحرية التي ظل ينتظرها المواطن المغربي مند دخول فرنسا إلى المغرب غير أن بداية الألفية عرفت تغيير رجل السياسة الأول في المغرب مما واكبه تغيير لسياسة البلد فعقدت الآمال على الملك الجديد لبعث ريح الحرية و التصالح مع الشعب وطي سنوات الجمر و الظلام ، غير أن بعض المتتبعين لشأن السياسي يعتقدون أن طبيعة السياسة الجديدة لم تحمل تغيير فعلي لما كان ينتظر من الفاعل السياسي ، فقط تم استبدال الديكور و الاكسسوارات للسياسة الداخلية مع تغيير طفيف نسبي فرض نفسه إما بفعل الوضعية الراهنة أو بفعل قرب المغرب الجغرافي من أوربا ، ثم مدى مواكبة المغرب لتحديث الذي تعرفه دول المنطقة و انخراطها في المنظومة العالمية الجديدة ، فهذه الأخيرة هي التي فرضت التغيير النسبي القادم من الغرب سواء بتوصياتها أو بهيئاتها كما هو الحال مع الأمم المتحدة أو البنك الدولي ...
إن تأملا بسيطا في مسألة التحديث السياسي التي تبناها المغرب _ رجال السلطة و أصحاب النفوذ _ التي أخذت شعار المصالحة الديمقراطية مند بداية الألفية ، فاعتبر بعض المتتبعين أن شعار المصالحة ليس إلا صورة ملفوقة ووهم إيديولوجي تم الترويج له إعلاميا و عمليا و تزييف و إعادة إنتاج لحقائق وتكريسها بشكل مغلوط على ذهنية المواطن المغربي الهشة لعدم امتلاكها الميكانيزمات لتفكيك الخطاب ، فقد غدت أشكال ممارسة العنف أقوى و أخطر من سابقها . فإذا كان العنف يمارس سابقا بوجود جهاز مخزني أو استعماري عبر ممارسته لسلطة ديكتاتورية قمعية ظاهرة ، فإنه تغير اليوم شكل ممارسة العنف الذي يمكن أن نصفه بالرمزي النبيل عبر الترويج له إيديولوجيا وتسخير كافة الأجهزة الإعلامية لممارسته لحصد نتائج أحسن من شكل الممارسة السابق .
إن البنية الهشة للمواطن المغربي وضعف قدراته الفكرية لتفكيك و تحليل الخطاب السياسي جعله يصدق ويعيش وهم الحداثة السياسية و الديمقراطية عبرت عنها تعدد المؤسسات الحزبية كبازارات سياسية توهم الشخص بحرية الرأي و تعدد الحريات ، عبر عنها وجود كم هائل من البازارات الحزبية ، التي عملت الدولة إما على إعادة تجديد أحزاب قديمة و إحيائها للعب دور الريادة و الطليعة في العملية السياسية ، وإما بإنشاء أحزاب جديدة لشردمة من الناس كانوا في أمس قريب منفيين من العملية السياسية إما بتعديل مبادئهم و بالتالي المصالحة مع القصر ، و بالتالي الانخراط في تدبير الشأن العام و إنجاح المصالحة و الرهان الديمقراطي .
يمكن القول بأن المغرب رغم كونه يعتقد أنه دخل مرحلة تحديث سياسي جديد إلا أنه لا زال يمشي على أرصفة الحداثة السياسية سواء بوجود نخب سياسية ذات فكر تقليدي تمارس عملها السياسي في مقاولات أو بازارات ذات تصميم أوليغارشي تقليدي ، و تتوهم و توهم الناس بأنها تحمل مشعل الديمقراطية و التغيير الذي طال انتظاره . هذا من جهة ، ومن جهة أخرى وجود نخب سياسية تمثل هذه الأحزاب غير قادرة على إبداء موقف صريح من مفهوم الديمقراطية كممارسة سياسية أمام الوضع الراهن فتؤهلها كفاءتها الديمقراطية لقيادة الحداثة السياسية الفعلية غير أن غير ذلك يؤهلها فقط أن تكون أداة إيديولوجية تحمل حقائق مزيفة تساهم في إعادة إنتاج نفس البنى الاجتماعية .
إن الوهم الإيديولوجي للحداثة السياسية التي تم الترويج لها زادت من حدة استفحال التناقض داخل المجتمع و بين مكوناته و طبقاته المتناحرة ، فالتوزيع اللامتكافئ للخيرات و المناصب واحتكار الثروة في يد فئة صغيرة زاد من حدة الأوضاع تأججا في سلم الصراع الاجتماعي في الوقت الذي ارتفعت فيه البطالة و الفقر و تدني المستوى المعيشي للمواطن ... إن هذا التناقض هو ما عبر عنه ضمير المجتمع ترجم إلى احتجاجات متذمرة تعبر عن سخط على الأوضاع المعيشية وصل في بعض المناطق إلى تمرد ...، إن بداية التأسيس لهذه الأوضاع جاء بنهج سياسة طبقية لا تراعي كافة شرائح المجتمع تجلى في قطاع التعليم على الهجوم على مكاسب أبناء الشعب في حقهم في التعليم بإنزال الميثاق الوطني لتربية و التكوين الذي اعتبره المتتبعين لشأن التعليمي أنه فاشل ساهم من قريب أو بعيد في تأزم الوضعية العامة فتمت مواجهته من طرف طلبة الجامعات كفئات مثقفة وضعت قراءة استيباقية لفشل المنظومة التعليمية الجديدة ، فجاءت على حد _ تعبيرهم _ بنود الأخير كخطاب سياسي إيديولوجي يهدف لإنتاج نخبة متخلفة ثقافيا اجتماعيا و فكريا و سياسيا ... الشيء الذي تصدى له طلبة الجامعات التي تعرف حراك سياسيا فوجهت بالقمع و الاعتقال...
إن العشر السنوات الأخيرة عرفت اضطرابات سوسيو - سياسية فتعددت الاحتجاجات وخرج أبناء الشعب لتعبير عن سخطهم على أوضاعهم الاجتماعية المتردية من فقر ، جهل ، فساد شمل كافة القطاعات و ارتفعت معاناتهم ، غن هذا السخط هو ما عبر عنه الشارع المغربي يوم 20 فبراير 2011 حيث خرج أبناء الشعب على غرار أمثالهم في بلدان الجوار فيما عرف بالربيع العربي .إن قراءة بسيطة لمن عايش 20 فبراير 2011 في الشارع يعكس له برؤية بسيطة حاجة المغرب إلى حداثة سياسية رصينة و ليست الحاجة غلى إكسسوارات ديمقراطية و بازارات سياسية تقليدية تكرس ديكتاتورية حزبية و طبقية اجتماعية و فقر ووووو ....
فالمتتبع لشأن السياسي بالمغرب يدرك جليا أن 20 فبراير 2011 لم تكن تقليدا إعلاميا ولم تكن فبركة مخابراتية ، و إنما جاءت نتيجة لاستفحال التناقض الاجتماعي و السياسي و الاقتصادي و نتيجة لسياسة التوزيع اللامتكافئ لثروات البلاد في غياب متانة ديمقراطية صريحة لاقتسام الخيرات و أمام ارتفاع معدلات البطالة و الجهل و الجريمة ...و ظواهر اجتماعية أخرى معتلة يعاني منها المجتمع ، إن 20 فبراير أخذت صورتين : الأولى أنها تجاوزت الإعلام الداخلي و اليد الخدومة و الكتومة للحركات الاحتجاجية الداخلية و السجان الحنون لمطوح المنشود ، فتم فضح المعاناة و الفساد و الطبقية عبر و سائل الإعلام الدولية فحل في المغرب كثير من المتتبعين للحركات السياسية و الاحتجاجية فلم يتبقى للإعلام الوطني إلا أن يدعم و يمدح قضية 20 فبراير بكثير من التضليل الإعلامي و تزييف للحقائق و المطالب التي نزل من خلالها الناس لشارع ... أما الصورة الثانية فقد جسدها فئات كانت قبل أمس قريب تعتبر نفسها تمثل شرائح المجتمع تحاول جاهدة أن تلعب دور المنافق السياسي و هنا نتحدث عن أصحاب البازارات السياسية هذا من جهة ، ومن جهة أخرى كانوا بمثابة اليد الساحرة لقلب قضايا الشعب و مطالبه و تلعب دور إقبار مطالب الحركة و خلق صراع اثني و ديني بين شباب و حدهم مطلب واحد صبيحة 20 فبراير . لكن ما لا يقال يقال علانية و يحبك في صمت و في الكواليس هو أن 20 فبراير ليس كما يعتقد طفرة من طفرات الحراك الاجتماعي بل صنعت التاريخ و كشفت الغطاء عن التناقض و الطبقية و الجهل و البطالة و الفساد الذي تعاني منه شرائح المجتمع ، فتم باسم الديمقراطية الاستحواذ على خيرات البلد واحتكارها بين فئات قليلة وفي القابل تم تصدير وعي زائف وضرب في الحركة و مبادئها وتحميها مسؤولية مع تلفيق مسؤولية زعزعة استقرار البلاد مسخرين في ذلك كل الوسائل الإعلامية [ صحف جرائد مكتوبة أو إلكترونية تلفاز أحزاب ...] فتم اعتقال سباب الحركة وتلفيق تهم كالإرهاب و غيرها من التهم لهم .
خلاصة القول إن حركة 20 فبراير ورهاناتها سواء كانت حلما تم صناعته إعلاميا أو حقيقة تغبر عن رغبة في التغيير وعن استفحال التناقض بين مكونات المجتمع على المستوى السياسي و الاقتصادي ... هي في الحقيقة حركة تعبر عن محاولة التأسيس للنضج السياسي و الانخراط الفعلي في الحداثة السياسية للانفلات من دوامة التخلف التي نتخبط فيها . لكن التأسيس لحداثة سياسية متينة و رصينة يقتضي التخلي أو القطع النهائي مع الإرث السياسي القديم رغم صعوبة ذلك أو جعله قاعدة غير أساسية لبناء ديمقراطية جديدة تقتضي مشاركة كافة الفاعلين في تدبير الشأن العام و اقتسام خيرات البلد للقضاء على الفقر و البطالة و تحسن مستوى التعليم وتهديم البازارات السياسية برفوفها البشرية التي ساهمت في صناعة تاريخ أسود ضيع على أجيال الطريق الصحيح نحو السير نحو في التاريخ ...إن استمرار سباب الحركة في الخروج لهو رغبة أكيدة في إحياء الديمقراطية و التأسيس الفعلي لممارسة سياسية وفق أسس ديمقراطية ووفق إرادة سياسية متزنة و قيادة ديمقراطية شرعية .