منذ ما يربو على خمسة قرون، و بالضبط مع صعود الدولة السعدية، ونحن نقرأ في الكتابات التاريخية والرسائل الإدارية مصطلح "المخزن"، ورغم سقوط الدولة السعدية وبروز الدولة العلوية ومرور عشرات الحكام على دفة الحكم مازالت كلمة مخزن تتردد بقوة، إنه الثابت في كل الأنظمة السياسية المغربية. يطالب المناضل ب"إسقاط المخزن" ويقارب الباحث "مفهوم المخزن" ويحذر المواطن من "المخزن". يقول المثل المغربي "احذر من ثلاثة أشياء: النار والبحر والمخزن". وإلى جانب مفهوم المخزن نجد مفهوم "النظام السياسي المغربي" ومفهوم "الدولة المغربية". لكن جل هذه المفاهيم تفرض مجموعة من الصعوبات في تحديدها على المستوى النظري وكذا في إبراز آليات اشتغالها على المستوى العملي.
ومن بين المفاهيم الأخرى الملتبسة مفهوم "الشرعية" légalité ، حيث إنه يلتبس مع مفهوم آخر هو "المشروعية" légitimitéو أيضا مع مفهوم "الشرعنةlégitimation؛ويثير التساؤل حول شرعية شيء ما الفزع عند المتسائل حوله، فعندما تتساءل حول شرعية الحاكم فإنك تشكك في كونه مغتصبا للسلطة بالقهر، وعليه فاتهامك يبقى كذلك حتى تثبته بالحجة والدليل.
من هنا أهمية الكتاب الذي نحن بصدد تقديم قراءة حوله، فقد تناولت فيه الكاتبة هند عروب مجموعة من الأسئلة الجسورة التي كانت إلى وقت قريب تشكل طابوهات يعد الاقتراب منها خطرا يجب تفاديه. والكتاب عبارة عن دراسة مطولة تحاول تفكيك الأسس التي يقوم عليها النظام السياسي في المغرب، وذلك عبر مساءلتها للجذور والبنيات التي تأسست عليها شرعية هذا النظام. وفي جانب آخر تحاول الكاتبة تعرية الوسائل والأساليب التي ينتهجها من أجل استمراريته وبقائه. وفي ما يلي سنقدم أهم النقط التي بدت لنا تفي بالمطلوب، وهذه بالطبع مجرد قراءة تعريفية لا تغني في شيء عن قراءة الكتاب.
لقد تطور النظام السياسي في التاريخ الإسلامي ليغدو بعد نصف قرن من وفاة نبي الإسلام ملكا وراثيا، هذا الملك يجد له الحكام عدة مصوغات تشرعن له من داخل المرجعية الإسلامية. لكن المؤلفة قدمت قراءة نقدية تبين فيها كيف أن الإسلام كدين لم يأت لينظر لأنظمة الحكم، بل إن محمدا كان مجرد نبي كلف بتبليغ رسالة الله ولم يكن ملكا أو رئيس دولة، واستحضرت الكاتبة مجموعة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تبرز أن محمدا له صفة النبي فقط، ولم تأت أي آية تصبغ عليه صفة الملك أو الزعامة السياسية[1]. إذن، فالإسلام حسب المؤلفة ليس فيه ما يشرعن للحكم الوراثي الإمبراطوري، وإنما اصطنع العرب ثقافة البلاد التي فتحوها وساروا على أنظمتها الإمبراطورية وأبهتها وعقليتها تحت شعار الإسلام[2]. وبذلك ألبست أشكال الحكم المستعارة لبوسا إسلاميا من أجل إضفاء الشرعية عليها.
وعلى مر القرون تجند الكثير من الفقهاء لإضفاء الشرعية على الحكام، وذلك فيما يعرف بالآداب السلطانية التي تعتبر بمثابة المصوغ الإديولوجي للسلطة السائدة، وذلك تحت عدة مبررات على رأسها درء الفتنة وتفادي الفوضى والهرج. فقد " أضحت الآداب السلطانية في حد ذاتها أداة قهر إديولوجية مسوغة لتقاليد الاستبداد، وتقاليد التدبير السلطاني الطاغية والمسيطرة، ولبلوغ هذه الغاية تسخر كل الوسائل الممكنة وكل الوسائط والآليات المتاحة..."[3].
تنتقل المؤلفة من رصد المفاصل التي جعلت السلطة في الإسلام تتحول من نبوة ثم خلافة لسلطنة كسراوية ، إلى طرح السؤال نفسه على الأنظمة السياسة الحديثة والمعاصرة، وقد طرحت الأسئلة التالية[4]:
كيف تبرر السلطة العربية الحالية وجودها ؟ وماهي أسانيدها في بسط نفوذها ؟ ومن أين تمتح شرعيتها ؟ وهل هي سلطة حداثية أم مجرد صياغة حداثية/شكلية لمشهد الراعي والرعية ؟ وفيما تتجسم أسباب إشكالية اهتراء النظم العربية ؟ وكيف تستمر مثل هذه النظم اللاشرعية ؟ وما الذي يجعل شعوب هذه الأنظمة مستسلمة لقهر حكامها ؟
لقد تأسست أنظمة الحكم العربية في غياب أي شرعية، وقد وعت تلك الأنظمة هذا المأزق لذلك سارعت للخروج منه بتأسيسها لمنطق الغلبة والقهر المادي والرمزي، وهي بذلك لم تخرج على المنطق التقليدي الخلدوني. وقد ضمن لها هذا الإجراء ديمومتها واستمراريتها على مر العصور. لكن الاستمرارية لا تعني بالضرورة استقرارها، بل تعني تطويرها لوسائل القهر والتسلط وذلك إدراكا منها لـلاشرعيتها المؤسسة[5].
يحظى الملك في النظام السياس المغربي بمكانة مركزية، فهو من جهة أمير للمؤمنين يملك السلطة الروحية، ومن جهة أخرى ملك يملك السلطة المدنية. يعتبر الملك سلطانا شريفا ينتسب لآل البيت و حفيدا لنبي الإسلام، تمنحه هذه المكانة رمزية دينية وقداسة فوق بشرية. ويتم تعزيز هذه الصورة من خلال الاحتفال بعيد المولد النبوي والتشبث بمراسيمه، والاحتفال بعيد العرش، كما أن الملك في خطاباته كثيرا ما يستخدم جملة " جدنا المصطفى" للتذكير بانتسابه المباشر للدوحة النبوية[6]. فالحكم في المغرب قائم على التفويض الإلهي ويمكن وصفه بالعقد الهوبزي، أي نسبة إلى توماس هوبز .
لكن رغم ذلك فالنظام المغربي أدخل مجموعة من الإصلاحات التي أضفت عليه صبغة حداثية، وبذلك يكون تقليديا وفي نفس الوقت حداثيا. غير أن المؤلفة ترى أن هذا الأمر مجرد توظيف مظهري لخدمة التقليدي، وبعبارتها "تطويع الحداثي لخدمة استمرارية التقليدي"[7]، فبحسبها وحدها الشرعية التقليدية التي تفعل فعلها في الواقع السياسي.
تنتهج الملكية للتحكم في المشهد السياسي " سبلا تفريقية جمة من قبيل تدجين النخب ومنح الامتيازات، والتفرقة بين أطيافها ومخزنتها عن طريق خلق التوترات وفصلها عن الجماهير، وتبني سياسات تقنقراطية تزكي ظاهرة الانشقاقات السياسية، إذا تتسرب الملكية بين هذه التصدعات خالقة أبراج المراقبة وراسمة بذلك حدود اللعبة السياسية وملامحها"[8]. بدورها تنهج النخبة المغربية نفس المنطق تجاه السلطة ويتجلى هذا المنطق في ثلاثة إجراءات: " التقرب والخدمة والهبة"[9]؛ وتعتبر تلك النخبة سليلة للنخب والعائلات البرجوازية التي ظلت تحتفظ بمكانتها جيلا بعد جيل وظلت تستفيد من تقربها من السلطة وشكلت فيما بينها نخبة منسجمة عبر التصاهر مما قوى من ثروتها ونفوذها.
تستحضر المؤلفة مع جون واتربوري وإدريس بن علي كيف أن المخزن هو سلطة وفي نفس الوقت تحالف مصلحي لخدمة الافراد والجماعات التي تشكل منها، وهو متجذر في التاريخ المغربي ، غير أنه هو الآخر تطور مع مر الزمان واقتحم مجالات جديدة في الاقتصاد والمجتمع المدني، إلا أنه لم يتغير من حيث طبيعته[10].
ورغم كل ما سبق فإن النظام السياسي لم يعدم خصومه السياسيين ، من بينها الحركات الإسلامية، فهذه الأخيرة تزاحم الملك في رمزيته الدينية كأمير للمؤمنين، فكلاهما ينهل من المخيال الرمزي الإسلامي ويحاول شرعنة وجوده من خلاله. ومن جانب آخر تنامي خصوم جدد على الساحة السياسية تمثلوا في التيارات الشيوعية، مما حدا بالملكية إلى نهج سياسة ضرب الخصوم ببعضهم البعض فيما بينهم وسمحت للتيارات الدينية بـالتواجد في الساحة خصوصا في الجامعات[11]. لكن، سرعان ما أعاد الملك زمام الأمور إلى نصابها ونهج سياسة جديدة تقوم على احتكار الحق الديني في إطار إمارة المؤمنين.
تحظى (الرعية) بدور مهم في إدامة (الراعي) وإضفاء نوع من الشرعية عليه، غير أنها ليست مصدرا لتلك الشرعية بأي حال من الأحوال، ورغم رفض الرعية للسلطان الأرضي فإنها تجل السلطان الديني، فحتى في فترة "السيبة" كانت القبائل السائبة تنتفض ضد المخزن وترفض ضرائبه وقواده، لكنها في نفس الوقت تجل وتحترم السلطان، فهي تميز السلطان عن المخزن، تكن للأول إجلالا دينيا وتحتقر الثاني، وليس أدل على ذلك ما حدث خلال حملة عسكرية قام بها المولى إسماعيل، فقد هزم" آيت أومالو" قوات السلطان، وقتلوا ونكلوا برفاقه الأقربين، لكنهم استقبلوه بحماس واحترام"[12]. فهو الشريف سليل النبوة وحامل للبركة ويرمز للعناية الربانية والخير...إلخ؛ وهذه الرؤية للسلطان هي ما يجعلهم رعية خانعة ومنقادة لصاحب السلطة[13]. وتتساءل المؤلفة حول مدى إمكانية خلع المجتمع المغربي لـثوب الرعية وبذلك يـتحول إلى جمهور مواطنين فاعلين ومؤثرين. وبهذه الطريقة وحدها يمكن أن تكون مصدرا للشرعية بمفهومها الحديث.
هكذا تخلص المؤلفة إلى أن النظام السياسي في المغرب هو نظام أبوي (باتريمومنيالي) مثله مثل جميع الأنظمة الشرقية، التي تبرر شرعيتها بالركون إلى الميثولوجيات والدين والتاريخ والمقدس والعنف. وبالتالي فهو نظام تقليداني بخلاف الأنظمة الحداثية التي تتأسس على الشرعية الديمقراطية وعلى الإرادة الشعبية.
[1]نفسه، ص، 92.
[2]نفسه، ص، 105.
[3]نفسه، ص، 131.
[4]نفسه، ص، 132.
[5]نفسه، ص، 142.
[6]نفسه، ص، 168.
[7]نفسه، ص، 188.
[8]نفسه، ص، 227.
[9]نفسه، ص، 263.
[10]نفسه، ص، 242،245.
[11]نفسه، ص، 282.
[12]نفسه، ص، 298.
[13]نفسه، ص، 303.