مجددا يبدو التربويون مسؤولين إلى حد كبير عما يعتري الأرض من تلف بيئي و خلل في التوازن الطبيعي , و تراجع في مستوى نوعية الحياة .
فإبداع البدائل الصناعية , والمخططات التنموية , و الأنشطة الاقتصادية الموالية للبيئة يظل قاصرا دون تحقيق مصالحة بين الانسان و بيئته , ما لم تصحبه ضرورة تشكيل وعي بيئي يسهم في تعديل السلوك البشري و يموقع الذات الانسانية مجددا في خانة الاندماج الكلي مع الطبيعة .
إن قضية البيئة قضية تربوية وسلوكية/ مجتمعية , وهو ما يفسر الحضور المبكر للبعد التربوي في سلسلة اللقاءات الدولية حول البيئة .فإذا كان مؤتمر استوكهولم 1972 علامة فارقة في الفكر البيئي , فقد شكل تقرير المؤتمر الدولي للبيئة في تبيليسي 1977 منطلقا للبحث عن الصيغ الكفيلة بالادماج الفاعل للتربية البيئية في المنظومة التربوية الدولية .
وبما أن تحديد مدلول التربية البيئية شرط ضروري لوضع تصور استراتيجي متكامل لإدماجها في المسار التعليمي , فقد تعددت مدلولاتها تبعا لتباين الرؤى و التصورات حول مدلول البيئة نفسها , وللمستجدات المطروحة على مستوى الندوات العلمية و الحلقات الدراسية . فبينما يحصرها بعض الباحثين في دراسة العناصر المؤلفة للمنظومة الطبيعية " ماء, هواء, كائنات حية" يؤكد البعض الآخر أن البعد الحضاري لهذه التربية يستلزم رؤية أعمق ,تستحضر التاثير المتبادل بين المحيط البيئي و إفرازات النشاط الانساني ,وتحيل بالضرورة على الجانب الأخلاقي والسلوكي .
1- تعريف الدكتور غازي ابو شقرا :
" التربية البيئية هي عملية تكوين القيم و الاتجاهات و المهارات و المدركات اللازمة لفهم وتقدير العلاقات المعقدة التي تربط الانسان و حضارته بمحيطه الحيوي , والتدليل على حتمية المحافظة على المصادر البيئية الطبيعية , وضرورة استغلالها الشريد لصالح الانسان و حفاظا على حياته الكريمة و رفع مستوى معيشته " (1)
2- تعريف الدكتور ابراهيم مطاوع :
" التربية البيئية نمط من التعليم ينظم علاقة الانسان ببيئته الطبيعية و الاجتماعية و النفسية , مستهدفا إكساب الاطفال و الشباب خبرة تعليمية, و اتجاهات وقيم خاصة لمشكلات بيئية تضبط سلوك الفرد إزاء الموارد البيئية ,بحيث تصبح الفعالية و الايجابية سمة بارزة في سلوك الفرد " (2)
3- تعريف المنظمة العربية للتربية و العلوم و الثقافة 1987 :
" التربية البيئية منهاج لإكساب القيم و توضيح المفاهيم التي تهدف الى تنمية المهارات اللازمة لفهم وتقدير العلاقات التي تربط بين الانسان و ثقافته وبيئته الطبيعية و الحيوية و تعنى بالتمرس في عملية اتخاذ القرارات ووضع قانون للسلوك بشأن المسائل المتعلقة بنوعية البيئة " (3)
يتضح من خلال التعريفات الثلاث أن التربية البيئية ليست مدخلا علميا مستقلا عن السياق التعليمي , بل رؤية متكاملة مع باقي مكونات المعرفة المكتسبة . فسعيها نحو إكساب قيم و اتجاهات وخبرات تعليمية موالية للبيئة , وتعويد الناشئة على بدائل سلوكية تخفف من وطأة التدهور البيئي متسق الى حد كبير مع غايات ومرامي أي نظام تربوي من منطلق أن التربية – أي تربية- تروم في النهاية تعديل السلوك الانساني . وهو ما يدفعنا الى الجزم بأن فشل بعض برامج التربية البيئية وثيق الصلة بتخلف و تردي الانظمة التربوية القائمة , وعجزها عن خلق التفاعل المطلوب بين اتجاه الفرد و سلوكه , و تمكينه من المعينات البيداغوجية و المعرفية التي تؤهله للانخراط الايجابي في حل معضلات مجتمعه .
* نحو تصور متكامل
لا يمكن إرساء وعي بيئي لدى الناشئة دون استحضار – مضمر أو صريح – للخلفية الثقافية التي توجه سلوك الانسان حيال الطبيعة و تتحمل مسؤولية الازمة البيئية المعاصرة .
فالعقل الغربي يستمد موقفه تجاه الطبيعة من الموروث الفكري اليوناني الذي ينبني على تصور عدائي قوامه تدجين الطبيعة وقهرها للانتفاع بخيراتها ,دون الالتفات لما يترتب عن ذلك من آثار سلبية . و ساهمت التيارات الفكرية الحديثة من اشتراكية و ليبرالية وغيرها في تغذية هذا التصور ,بتأكيدها على مركزية الوجود البشري , و الحق الانساني المطلق و اللامحدود في استغلال الموارد الطبيعية ,و السيطرة على المحيط البيئي .
أما العقل الاسلامي فيستمد موقفه من نصوص ربانية , و إشارات نبوية هادية تلزمه بالقصد و الاعتدال , و تحثه على النهوض الأمثل بواجب الاستخلاف .
فمبدأ التسخير الذي يتكرر في آيات قرآنية عديدة يشير الى أن كل المخلوقات خادمة للوجود الانساني و موجهة لتحقيق حاجياته .
أما مبدأ الاستخلاف فيتضمن مسؤولية الفرد تجاه محيطه , و أن له حرية التصرف في أمور الأرض دون مجاوزة حد الاعتدال و التوسط .
بينما تتسع دائرة " الإفساد في الأرض" لتشمل كل ضرر أو عبث يطال مكونات الوجود , ويصبح الزجر " الشرعي" حائلا دون هدر " الرأسمال البيئي" .
بل يذهب النص الديني إلى أبعد من ذلك حين يُلفت الانتباه إلى المظهر الجمالي في المخلوقات , و يحث الانسان على تذوق الجمال و ممارسته في الحياة اليومية " قوله صلى الله عليه وسلم : إن الله جميل يحب الجمال" , وهو ما يدفعنا الى الجزم بأن الأزمة البيئية المعاصرة في دول العالم النامي أزمة "مستوردة" , ومثال صارخ على السعي الحثيث لدى العالم المتقدم إلى تصريف عاهاته و خيباته و أوبئته خارج حدوده !
فبعد المؤتمر العالمي للتنمية الصناعية الذي عقد في البيرو عام 1975 , و الذي نص على تحديد حصة العالم النامي من إجمالي الانتاج الصناعي " حوالي % 25" بدأت آثار التلف البيئي الناتج عن التصنيع تظهر في أكثر من دولة نامية ,ليتبين فيما بعد أن الأمر يتعلق بمخطط لتوطين الصناعات الملوثة في هذه البلدان !
* نحو تربية بيئية..فاعلة
إن الغاية المثلى من إدماج التربية البيئية في المسار التعليمي هي تعديل السلوك الانساني إزاء البيئة , و التحسيس بمخاطر التمادي في استنزاف خيرات الطبيعة . وهي غاية لا يمكن للبديل الصناعي أن يحققها , يقول الدكتور" أنطونيو مورينو" مدير معهد البيئة في جامعة بارما الايطالية " (( إن البحث عن الوسائل التقنية الملائمة التي من شأنها تحسين الاوضاع البيئية يخنق الادراك الواعي بضرورة مراجعة جذرية للسلوك الانساني على الصعيد التصوري أو المفاهيمي و الاخلاقي/السلوكي . هذا السلوك الذي يعكس مذهب سيطرة الانسان المطلقة على الطبيعة )) (4) .
فالتشجيع على استخدام التقنيات البديلة في النشاط الاقتصادي , و الاستثمار في معدات درء الأخطار البيئية ,و مراعاة السلامة البيئية عند تشييد و تشغيل المنشآت الصناعية لا يمكنه أن يحد من التدخل غير العقلاني و غير المنضبط للانسان في إفناء عناصر الحياة , إن لم يصاحبه مجهود تربوي يتيح التطوير المتوازن لشخصية الطفل , ويهيء له إقامة علاقة منسجمة مع الوسط الطبيعي .
ومن خلال استقراء واقع الحضور البيئي في الممارسة التربوية بالوطن العربي يتبين غلبة الطابع الاحتفالي / الرمزي على الأنشطة البيئية , وارتباطها زمنيا بمناسبات بيئية محدودة " يوم الأرض مثلا" . فحملات التشجير الموسمية, ومعارض رسوم الأطفال قاصرة عن إرساء الوعي البيئي اللازم لمواجهة التحديات و الأخطار المقبلة . أما بعض التجارب الرائدة في مجال ترسيخ الثقافة البيئية كتجربة " المدرسة الايكولوجية" بالمغرب , و المدعمة من طرف مؤسسة محمد السادس لحماية البيئة , فهي بحاجة الى عدة تربوية متكاملة لجعل المدرسة فضاء نموذجيا لإشاعة السلوك الموالي للبيئة .
ومن التدابير المقترحة في هذا الصدد لإحداث النقلة النوعية المطلوبة :
التركيز في البرامج الدراسية على اقتراح الحلول و البدائل الممكنة للمشاكل البيئية بدل الاكتفاء بتنمية الوعي .
التدرج في ادخال المعطيات العلمية و ادماج المستجدات بشكل دقيق يراعي النمو المعرفي للطفل ,ويعزز مواقفه تجاه محيطه البيئي
اعتماد أسلوب الملاحظة المباشرة في دراسة المعطى البيئي , و هو ما يتطلب تكثيف الزيارات الميدانية للمرافق البيئية, وإجراء حصص تعليمية في الهواء الطلق , وربط المعارف المقدمة بإشكالية بيئية ذات صلة بمحيط المؤسسة " اجتثات الغابة , تصحر, نضوب الموارد المائية..." .
استعراض التجارب الناجحة في مجال تحقيق التوازن بين طرفي المعادلة الصعبة : مواصلة استغلال الموارد الطبيعية دون الاخلال بتوازن المنظومة البيئية .
دعم التربية الأخلاقية بالنظر إلى الصلة الوطيدة بين الحفاظ على البيئة و بعض المشاعر الإيجابية كالأمانة و الصدق والولاءوالمواطنة, والتربية على المسؤولية.
* على سبيل الختم:
إن عالمية الخطر البيئي تلقي على كاهل التربويين مسؤولية جسيمة تتجلى في تنشئة وإعداد جيل "أخضر" يسعى إلى تحقيق "حضارة بدوية" تضمن تعلقه المستمربالبيئة وتفاعله الإيجابي معها أخذا وعطاء, وتجنبه الاختناق بإفرازات الثورة التكنولوجية .
يقول الدكتور أسامة الخولي " ما يفعله الفرد أو يمتنع عن الإتيان به هو بدوره حصاد فكره أي تعليمه و ثقافته وقيمه المكتسبة , والتربويون هم صانعو هذا الفكر وهذه القيم " (5)
ــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش :
(1) د.غازي أبو شقرا : " التربية البيئية في الدول العربية" ص10
(2) د. ابراهيم عصمة مطاوع : "التربية البيئية في الوطن العربي" (1995)
(3)التربية البيئية في مناهج التعليم العام للوطن العربي : المنظمة العربية للتربية و العلوم و الثقافة 1987
(4) د.انطونيو مورينو " الرؤية الشمولية في مجال التربية البيئية" ص 321
(5) د. أسامة الخولي " البيئة و قضايا التنمية و التصنيع " ص 35