ارتبط اسم الفيلسوف الفرنسي "رينيه ديكارت "1596-1650 بالشك ،ولو أنه لم يكن أول فيلسوف يتخذ من الشك أسلوبا في التفكير، أو بالأحرى منطلقا في تفكيره ، بل اقترن الشك بكثير من الفلاسفة من قبيل النزعة السفسطائية التي عاصرت الفيلسوف اليوناني سقراط ،و أبو حامد الغزالي في المرحلة العربية الإسلامية، وبيرون والبرونيين ،ومونتاني الذي كان له أثر في فلسفة ديكارت ،بيد أنه رغم السبق لدى هؤلاء بخصوص اعتماد الشك ،إلا أن الشك الذي نهجه وسلكه صاحب تأملات ميتافيزيقية كان مميزا أو لنقل مختلفا ومغايرا، وشكل منعطفا حاسما ونقطة تحول في مسار الفلسفة بوجه عام ،والفلسفة الحديثة على وجه التحديد ،ومن خلاله اعتبر ديكارت المدشن الفعلي للمرحلة الحديثة ،واستحق أن يكون رائد الفلسفة الحديثة ،هذه الحظوة التي نالها ديكارت والمكانة التي بات يحتلها ترجع لطبيعة الشك الذي سلكه واعتمده كمنطلق وأساس لفلسفته ،والمتمثل في الشك المنهجي، وهو نقيض الشك المذهبي الذي يعد شكا من أجل الشك ،في حين يعتبر الشك المنهجي آلية ووسيلة وطريقة تنسجم وتتماشى مع طبيعة التفكير الفلسفي الذي يسعى للبحث عن الحقيقة ، فمسار الفلسفة الديكارتية انطلق من الشك، والغاية كانت هي تأسيس العلوم والمعارف على أسس صلبة ويقينية .
إن الشك الذي تسلح به "ديكارت " كان بمثابة معول استعمله من أجل هدم كل ما تلقاه من قبل من معارف مدرسية كانت أغلبها محط تشكيك من طرفه ،بحيث فطن بدهائه الفلسفي وحسه النقدي وتشبعه بالمعرفة الرياضية ،التي تنحو نحو الدقة واليقين والوضوح ،إلى وجود كمية كبيرة من المعارف والأفكار، والتي تحتاج إلى عملية مراجعة وتمحيص ،ولم يكن من بد أمامه سوى الشك في كل شيء وهدم البناء كله حتى يستقيم بناؤه من جديد ،على أسس أكثر صلابة ويقين ،و هو ما يعبر عنه في التأمل الأول بقوله "تبين لي منذ مدة أنني تلقيت منذ كنت ناعم الأظفار طائفة من الآراء الخاطئة ظننتها صحيحة .ثم وضح لي أن ما بنيته بعد ذلك على مبادئ تلك حالها من الاضطراب لا يمكن أن يكون إلا أمرا يشك فيه كثيرا ويرتاب منه. لهذا قررت أن أحرر نفسي ،جديا ،مرة في حياتي ،من جميع الآراء التي آمنت بها قبلا ،وأن أبتدئ الأشياء من أسس جديدة ،إذا كنت أريد أن أقيم في العلوم قواعد وطيدة ،ثابتة ،مستقرة ."1.
إن تنبه "ديكارت" إلى كون ما تلقاه من معارف وهو في حداثة سنه تقتضي النظر مجددا وإعمال العقل، والأهم هو اعتماد الشك قصد إعادة النظر في معارفه السابقة من أحكام وآراء ومعارف وأفكار ،و التي يعوزها اليقين ويكتنفها الغموض ويشوبها الخطأ ، وضرورة التحرر من الخطأ والوهم وعدم اليقين وسلطة المعارف الجاهزة ،وهو الأمر الذي قام به ،حينما قرر أن يحرر نفسه من سلطة المعارف التي كانت تلقنها الكنيسة والمتمثلة في مدرسة لافليش التي كان يسهر عليها اليسوعيون ،فقد كانت من أشهر مدارس أوروبا وخير مكان لتعلم الفلسفة كما جاء على لسانه في المقال في المنهج ،ومع ذلك ، لم يتردد في هدم هذه المعارف بعدما توفرت له الظروف ،بحيث انتظر إلى أن أصبح ناضجا بما يكفي للإقدام على ذلك وبعدما تحرر من سلطة الكنيسة والظفر بعزلة وسفر خارج بلده فرنسا. ولم يكن غرضه يتمثل في هدم كل معارفه والتخلص منها فقط ،بقدر ما كان هاجسه هو تشييد صرح معرفي يحظى باليقين، ويعتمد على أسس عقلانية. كما أن هاجسه كان هو البحث عن المنهج الملائم الذي من شأنه أن يقوده إلى حيث أراد ،خاصة وأن مسألة المنهج حظيت باهتمام وافر من طرف أغلب فلاسفة العصر الحديث ،بحيث حاول الغالبية منهم ورغم اختلاف منطلقاتهم الفكرية وتباين مشاربهم الفلسفية ،إيجاد المنهج الملائم قصد بناء أنساقهم ،وقد كان "ديكارت "واحدا من بين هؤلاء ،أو لنقل من الأوائل الذين حاولوا البحث عن المنهج الملائم ،وذلك راجع لكونه أصبح مقتنعا في فترة مبكرة مثل بيكون بأن الاحتياج في الفلسفة هو صياغة منهج دقيق ومثمر(3) .
لقد منح الشك لديكارت فرصة الكشف عن حقيقة وجود الذات بما هي ذات واعية ومفكرة –عاقلة - ،وهي الحقيقة التي عبر عنها من خلال "الكوجيتو" أنا أشك ،أنا أفكر، إذن أنا موجود " ،هذه الذات التي أرادت أن تعتمد على إمكاناتها الخاصة والذاتية وفي مقابل ذلك نزع الثقة عن كل الوسائط الأخرى والتشكيك في قدرتها على منحنا المعرفة التي لا ينتابها الشك ،أو بالأحرى التي تتسم باليقين ،وقد كانت الحواس في مقدمة الوسائط التي شكك فيها وفي قدرتها ،فهي قد تكون سبب تضليلنا وخداعنا ،والحال أنه يجب ألا نثق في من خدعنا ،لهذا فإن الحواس لا ينبغي التعويل عليها واعتمادها كأساس للمعرفة ،فقد شك ديكارت في قيمة المعارف التي تتأسس على الحواس ،ووجد هذه الحواس خداعة في بعض الأوقات ،ومن الحكمة ألا نطمئن أبدا كل الاطمئنان إلى من يخدعنا، ولو لمرة واحدة " (4)
لكن على الرغم من أن هذه الحواس تخدعنا في كثير من الأحيان ،إلا أن هناك أشياء لا يمكن الشك فيها حتى وإن كان الطريق إليها يتم عبر الحواس، وهو ما يؤكده ،في التأملات بقوله " أن ألبس عباءة المنزل ،فأجلس هنا قرب النار ،وقد أمسكت بين يدي تلك الورقة .وأشياء أخرى من هذا القبيل .كيف أستطيع أن أنكر هاتين اليدين وهما يداي ،وذلك الجسم وهو جسمي اللهم إلا إذا أصبحت كبعض المخبولين ،الذين اختلت أذهانهم" (5) .وفضلا عن اليقين الذي لدينا حول الأشياء التي تحيط بنا ،أو بالأحرى التي لا يمكن الشك فيها ،إلا أنه يطرح فرضية الحلم ،بمعنى آخر إذا كنا ندرك الأشياء بدءا بوجود ذواتنا وأجسامنا ،فمن أدرانا بأن ذلك مجرد حلم ،هذا الأخير الذي قد يخدعنا ويدفعنا للاعتقاد بوجود أشياء لا وجود لها، ويوهمنا بالحقيقة ،ومن ثمة فليس هناك إلى حد الآن ما يمنحنا اليقين التام، ويجعلنا نميز بين اليقظة والحلم تمييزا دقيقا ".لكن إذا كانت الصور والأفكار التي تأتينا أثناء النوم في الحلم ،فإن حالة اليقظة تكذب كل ما كنا نعتقد أنه حقيقة ، ومع ذلك ،فما الذي يثبت صحة الأفكار الحاصلة أثناء اليقظة ؟
لقد وضع ديكارت المعرفة الحسية سواء منها الظاهرة أو الباطنة موضع شك ،وكذلك المعرفة المتأتية من عالم اليقظة ،وعالم الأحلام (5)،وذهب إلى حد التشكيك في وجوده ،فهو معرض للوقوع في الخطأ ،مادام الناس يخطئون حتى في أبسط المسائل الرياضية ، بيد أن هذا الشك في حد ذاته هو دليل على وجوده كذات مفكرة وموجودة حقيقة. بحيث يقول من أنا ؟ أنا شيء مفكر وما الشيء المفكر ؟ إنه شيء يشك وينفي ويتصور....، هذه العمليات أساسها وجود ذات عاقلة ومفكرة.
إذا كانت فرضية الحلم تحيلنا بدورها على وجود الأنا كذات عاقلة ومفكرة، فماذا لو كان هناك شيطان ماكر هو الآخر يعمل على تضليلنا وخداعنا ؟ إن فرض الشيطان الماكر الذي بلغ به " ديكارت " في التأملات قمة الشك ليس إلا بديلا لفرض إله قادر على خلق الحقائق خلقا ،وقادر بالتالي على إعدامها .ألم نر ديكارت في خطاباته إلى "ميرسين في عام 1630 يقرر أن الله كان قادرا على جعل أقطار الدائرة غير متساوية أو على عدم خلق العالم ؟(6).بتعبير آخر فإن فرض وجود إله بقوته اللامتناهية وكماله المطلق هو أقوى من فرضية الشيطان الماكر ، لذلك عمل أبو الفلسفة الحديثة على إيلاء عناية كبرى محاولا تفنيد هذا الفرض ،وفي ذلك تفنيد واستبعاد لفرض الشيطان الماكر.
لقد حاول "ديكارت " أن يذهب بالشك إلى أقصى الحدود حينما طرح فرضية وجود إله قادر على خداعه وتضليله ،هذا الإله ذو القوة اللامتناهية باستطاعته أن يجعلنا قادرين على الاعتقاد وتصور أشياء دون أن تكون موجودة .لكن هناك ما يقوض هذه الفرضية بدورها ،إذ بما أن الإله كامل ومكتمل وبقدرته اللامتناهية وكماله المطلق...،فإنه ينأى بنفسه عن أن يكون مخادعا .وبهذا فقد جعل "ديكارت " الله هو الضامن للحقيقة أو ما يمكن أن نسميه الضمان الإلهي للحقيقة .
حينما طرح ديكارت مسألة الشك في الحواس وفرضية الحلم ووجود شيطان ماكر ووجود إله يخدعنا ،يبدو أنه وصل إلى الباب المسدود ولم يجد أماهه في حركة الشك هذه سوى الأنقاض والخراب ،الذي تركه بمعول الشك ،لكن في الواقع فإن صاحب مقالة في الطريقة ،واصل المسير بحثا عن اليقين وعن نقطة البداية ،أي النقطة الأرخميدية التي سيستقر عليها النسق الديكارتي ،ولذلك فقد عزم على السير ببطء كمثل رجل يسير في الظلمات ،وأن يحتاط ويتريث إلى أن يجد الطريقة الملائمة والنهج الأنسب للوصول إلى الحقيقة .وتوجيه الفكر في الاتجاه الصحيح ،وهو ما تؤكده القواعد الأربعة باعتبارها قواعد لتوجيه الفكر ما دام أن هدف الدراسات يجب أن يكون هو توجيه الفكر توجيها يمكنه من بناء أحكام متينة وحقيقية في كل ما يعرض له من مسائل .
إن الهدف أولا وأخيرا ،هو البحث عن الحقيقة ،لكن الحقيقة المبناة والمشيدة والتي تتأسس على أسس صلبة ودقيقة ،والغاية هي اليقين كذاك الذي تمتاز بع العلوم الرياضية والهندسية بما هي نموذج الوضوح والدقة واليقين التام كونها تقوم على الاستدلال والحدس " فالحساب والهندسة ،وما شاكلها من العلوم التي لا تنظر إلا على أمور بسيطة جدا وعامة ،دون اهتمام كثير بمبلغ تحقيق هذه الأمور في الخارج ،أو عدم تحقيقها فهي تحتوي على شيء يقيني لا سبيل إلى الشك فيه ،فسواء كنت يقظا أو نائما ،هنا حقيقة ثابتة وهي أن مجموع اثنين وثلاثة هو خمسة دائما ،وأن المربع لن يزيد على أربعة أضلاع أبدا ،إن حقائق قد بلغت هذه المرتبة من الوضوح .لا يمكن أن تكون موضع خطأ أو عدم يقين."(8).
فالانتصار للمعرفة الرياضية مرده إلى اليقين الذي يطبع هذه العلوم والدقة التي تمتاز بها خاصة وأن مصدرها هو العقل الذي يعد هو أعدل الأشياء توزعا بين الناس ،كما أن أهم وأبرز سمة تميز العلوم الرياضية والهندسية هي الوضوح هذا الأخير الذي اعتبره ديكارت شرطا ضروريا ومنطلق لكل معرفة ،وهو ما أكده في القاعدة الأولى من القواعد الأربعة والتي تقول "يجب ألا نسلم بأي شيء ما لم يكن واضحا " ،أي بعبارة أخرى ينبغي عدم قبول أية فكرة مالم تكن واضحة وبديهية وتحظى باليقين ،والملاحظ أن القواعد الأربعة تنحو جميعها نحو هدف ولها غاية مشتركة تتمثل في بلوغ اليقين والوصول للحقيقة بما هي المسعى الذي حرك شغف جميع الناس والفلاسفة بوجه خاص.
بناء على ما تقدم يتضح أن المشروع الديكارتي ،الذي تسلح بالشك لم يكن له من غاية سوى بناء فلسفة عقلانية تتأسس على اليقين المطلق الذي بدأ من إثبات الذات أولا ثم إثبات وجود الله والعالم ثانيا ،هذه المنطلقات ما كان لها أن تكون لولا عملية الهدم والتقويض والشك التي قام بها ديكارت بخصوص كل ما تلقاه من معارف ،والتي كانت تحظى بالتمجيد ،إن لم نقل بالقداسة ،وعلى رأسها الأفكار التي كانت تروج لها الكنيسة وتتبناها ،والتي تجد منطلقها في فلسفة أرسطو هذا الأخير الذي شكل سلطة معرفية وبقدر ما ساهمت موسوعيته وعمق أفكاره في إثراء الفكر والعلم الإنساني ،بقدر ما كانت سببا في انغلاق وجمود هذا الفكر لمدة طويلة لكونه ظل بعيدا عن النقد ،بيد أن ديكارت اضطلع بهذه المهمة وساهم في تدشين بداية جديدة ومسار مغاير للفلسفة والتي عادت للذات ووثقت في قدراتها وفسحت المجال للعقل ،وساهم الفيلسوف الفرنسي بذكائه ونباهته في تحرير الفلسفة والعلم من السلطة الكنسية ،والارتماء في أحضان العقل والعقلانية دون الدخول في صراع مباشر مع رجال الكنيسة.
الهوامش:
1 – ديكارت رونيه، تأملات ميتافيزيقية .ترجمة، كمال يوسف الحاج، سراس للنشر،الطبعة 2009، ص43.
2- وليام كلي رايت ،تاريخ الفلسفة الحديثة ،ترجمة محمود سيد أحمد ، تقديم ومراجعة إمام عبد الفتاح إمام ، دار النشر،التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ،ط الأولى 2010.، ،ص 94.
3- ديكارت رونيه ،المصدر نفسه ،ص 44.
4- ديكارت رونيه ،المصدر نفسه،ص44.
5- مهدي فضل الله ، فلسفة ديكارت ومنهجه ،دراسة تحليلية ونقدية ،دار الطليعة للطباعة والنشر،بيروت،ط3،1996،ص92.
6- بلدي نجيب، -نوابغ الفكر الغربي -"ديكارت" دار المعارف،ط2،بدون تاريخ، ص 93.
7- ديكارت ،المصدر نفسه ،ص47.