ولد فريدريك نيتشه في عام 1844 في قرية هادئة في الجزء الشرقي من ألمانيا، حيث كان أجداده - على مدى أجيال – قساوسة الأبرشية المحلية. لقد اجتهد على نحو جيد بشكل استثنائي في المدرسة والجامعة؛ وتفوق في دراسة العلوم اليونانية القديمة، والتي كانت موضوعاً مرموقاً للغاية في ذلك الوقت، لدرجة أنه أصبح أستاذاً بجامعة بازل عندما كان لا يزال في منتصف العشرينات من عمره.
لكن مسيرته المهنية الرسمية لم تنجح. لقد سئم من زملائه الأكاديميين، وتخلى عن وظيفته في التعليم الجامعي، وانتقل إلى سويسرا وإيطاليا حيث كان يعيش بتواضع وغالبا بمفرده. تم رفضه من قبل سلسلة من النساء، مما تسبب له بالكثير من الحزن والأسى الذي وصفه بقوله "انعدام الثقة لدي هائل". لم ينسجم حتى مع أفراد عائلته المقربين، وهو ما تجلى بقوله: "أنا لا أحب والدتي ومن المؤلم حتى بالنسبة لي أن أسمع صوت أختي". وفي نسق عزلته، أطلق شارباً كبيراً وكان يمشي لمسافات طويلة على الأقدام في كل موطن أقام فيه كل يوم. لسنوات عديدة، كان من الصعب للغاية أن تباع كتبه على الإطلاق. وعندما كان عمره 44 عاماً، انهارت صحته العقلية تماماً. لم يتعافَ أبداً بعد تلك الانتكاسة الصحية، وتوفي بعدها بأحد عشر عاماً في شهر أغسطس من العام 1990.
اعتقد نيتشه أن المهمة الأساسية للفلسفة هي تعليمنا كيف "أن نصبح على ما نحن عليه". بمعنى آخر، كيف نكتشف ونكون أوفياء لأعلى إمكاناتنا الكامنة.
تحقيقاً لهذه الغاية الفلسفية، طور أربعة خطوط فكرية مفيدة:
1. الحسد الطبيعي
يعدُّ الحسد – كما أدركه نيتشه – جزءاً عضوياً وكبيراً من الحياة. ومع ذلك، فقد تعلمنا بشكل عام الشعور بالخجل من مشاعرنا الحاسدة، فهي تبدو على إنها مؤشر على الشر. لذلك نحن نخفي تلك المشاعر عن أنفسنا وعن الآخرين، لدرجة أن هناك أشخاص سوف يقولون في بعض الأحيان - بكل إخلاص - أنهم لا يحسدون أي شخص.
أصر نيتشه على أن هذا مستحيل من الناحية المنطقية، لا سيما إذا كنا نعيش في العالم الحديث، وهو العالم الذي عرفه نيتشه بأنه العصر بعد الثورة الفرنسية. إن الديمقراطية الجماهيرية ونهاية العصر الإقطاعي القديم كانت - في نظر نيتشه - قد أوجدت أرضاً خصبة لتربية مشاعر الحسد، لأن الجميع تم تشجيعهم الآن على الشعور بأنهم متساوون مع أقرانهم في المجتمع. في العصور الإقطاعية، لم يكن من الممكن أن يحدث للقِنّ أن يشعر بحسد تجاه الأمير. ولكن الآن الجميع يقارنون أنفسهم بأي شخص آخر، ويتعرضون لمفاعيل صراع الطموح مع عدم الأهلية المستبطنة في شخوصهم لإدراك مآلات ذلك الطموح.
ومع ذلك، فلا حرج مع الحسد، أقَرَّ نيتشه الفيلسوف. ما يهم هو كيف نتعامل معه. تأتي العظمة من القدرة على التعلم من أزماتنا الحاسدة. اعتبر نيتشه الحسد إشارة مشوشة، ولكنها مهمة من أنفسنا العميقة حول ما نريده حقاً. كل ما يجعلنا حاسدين هو جزء من إمكاناتنا الحقيقية الكامنة التي نتنصل من إفصاح الفرصة لها لتشرئب بإرادتنا الواعية أو غيرها. برأي نيتشه يجب أن نتعلم دراسة حسدنا عن طريق التمارين الجدلية الفكرية لفهم كيف يعمل عقلنا، والاحتفاظ بمذكرات عن لحظات الحسد التي نعاني منها، ومن ثم التدقيق في نوبات الحسد تلك لتمييز وتلمس شكل الذات المستقبلي الأفضل.
وسوى ذلك فإن الحسد الذي لا نمتلكه سوف ينبعث منه ما يطلق عليه نيتشه "الروائح الكبريتية العفنة". والمرارة و الاسى بحسب نيتشه هي الحسد الذي لا يفهم نفسه. لم يكن نيتشه يعتقد أننا سنحصل دائماً على ما نريد، فقد علمته حياته جيداً بما فيه الكفاية أن إدراك المشتهى من المحال في غالب الأحايين. لقد أصر ببساطة على أنه يجب علينا أن ندرك ونتكشف ونفهم مدى وقدرات إمكاناتنا الحقيقية، ونخوض معركة بطولية لتكريمها، وعندها فقط نحزن على الفشل بصراحة تامة وصدق مُشرِّف.
2. لا تكن مسيحياً
كان لدى نيتشه الكثير من الأشياء المتطرفة ليقولها عن المسيحية: "أنا أدعو المسيحية باللعنة الواحدة الشاملة، والفساد الجوهري العميم ... في العهد الجديد برمته، لا يوجد سوى شخص يستحق الاحترام: بيلاطس، الحاكم الروماني" وهو الذي حكم بصلب السيد المسيح عيسى ابن مريم.
لقد قال الكثير من المقولات الصاخبة عن المسيحية، لكن هدفه الحقيقي كان أكثر دقة وأكثر إثارة للاهتمام من مضمونها الظاهري، فلقد استاء نيتشه من المسيحية لأنها تحمي الناس من حسدهم عبر كبته أو عدم الالتفات إليه.
ظهرت المسيحية في تفسير نيتشه في أواخر الإمبراطورية الرومانية في أذهان الفقراء الخجولين، الذين كانوا يفتقرون إلى القدرة على الحصول على ما يريدون حقاً أو فشلوا في إدراك ذلك، وهكذا تشبثوا بفلسفة جعلت من جبنهم فضيلة. كان المسيحيون يرغبون في الاستمتاع بالعناصر الأساسية في الحياة الناجحة من قبيل مكانة في العالم المحيط بهم، ونجاح في حيواتهم الجنسية، والتمكّن الفكري، والإبداع بحسب نيتشه، لكنهم كانوا غير مؤهلين للحصول عليها. لقد صاغوا عقيدة منافقة شجبت ما أرادوا، إذ كانوا أضعف من أن يقاتلوا من أجل ما كانوا يطمحون إليه، في حين امتدحوا أضداد ما كانوا يرومونه، لتصادفه مع حقيقة أنه ما فيهم من صفات. لذلك، في نظام القيم المسيحية، تحول اللاجنس إلى "نقاء"، وأصبح الضعف "خيراً"، والخضوع للأقوياء المتسلطين "طاعة" - وفي عبارة نيتشه - تحولت "عدم القدرة على الانتقام" إلى "مغفرة".
في نهج نيتشه الفلسفي صارت المسيحية تبريراً عملاقاً للسلبية وآلية لاستنزاف الحياة من إمكاناتها.
3. لا تشرب الكحول
لقد شرب نيتشه نفسه الماء فقط، وفي بعض المناسبات الخاصة كان يشرب الحليب. وكان يعتقد أننا يجب أن نفعل الشيء نفسه. لم يكن يحاول اختطاط نهج تغذوي غريب الأطوار وبعيد عن نسقه الفلسفي. فقد اتجهت الفكرة السابقة إلى صميم فلسفته، على النحو الوارد في تصريحه: "كان هناك مخدران عظيمان في الحضارة الأوروبية: المسيحية والكحول".
لقد كره الكحول لنفس الأسباب التي بسببها سخر من المسيحية: لأن كل منهما يخدر الألم، وكلاهما يطمئن ويهدئ روع النفوس القلقة المضناة إلى أن الأمور على ما يرام كما هي، مما يقوض من إرادتنا لتغيير حياتنا للأفضل. ينتج شرب الكحول شعوراً عابراً بالرضا يمكن أن يفسد على نحو مُهلك الدافع لاتخاذ الخطوات اللازمة لتحسين حياتنا. ليس الأمر أن نيتشه أعجب بالمعاناة إكراماً لها. لكنه أدرك الحقيقة المؤسفة - ولكن الحاسمة - بأن التقدم والإنجاز لهما جوانب مؤلمة لا رجعة فيها:
برأي نيتشه ماذا لو كان السرور والمعاناة مرتبطين ببعضهما البعض لدرجة أن أي شخص يريد الحصول على حصة أكبر من إحداهما يجب أن يكون لديه أكبر قدر ممكن من الآخر: "لديك خيار في الحياة: إما أقل قدر ممكن من المعاناة، وأقل قدر من السعادة والسرور أو أعلى قدر ممكن من المعاناة بمثابة ثمن للوفرة من المباهج والأفراح ".
إن فكر نيتشه يسعى لإعادة تحديد معنى المعاناة. إذا وجدنا أن متطلبات الحياة الناجحة صعبة أو مضنية، فهي ليست بالضرورة علامة على قصورنا، فقد تكون مجرد دليل على نبل ومشقة المهام التي قمنا بها أو نسعى للقيام بها.
4. "الإله ميت"
إن تأكيد نيتشه المثير حول زوال الإله ليس - كما هو معتاد في كثير من الأحيان - بمثابة بيان احتفالي. على الرغم من تحفظاته على المسيحية، لم يعتقد نيتشه أن نهاية الإيمان كان شيئاً يستحق الاحتفاء به.
لقد كانت المعتقدات الدينية خاطئة بحسب نيتشه؛ لكنه لاحظ أن تلك المعتقدات كانت في بعض المناطق الجغرافية والمراحل الزمنية مفيدة جداً للأداء الوظيفي السليم للمجتمع. إن التخلي عن الدين يعني أن البشر سوف يُتركون لإيجاد طرق جديدة لتزويد أنفسهم بالتوجيه، والعزاء، والأفكار الأخلاقية، والطموح الروحي. وهذا سوف مستنقعاً للأفكار المخاتلة المخادعة، ومقصراً دائماً كما قد تنبأ نيتشه.
اقترح نيتشه أن الفجوة التي خلفها الدين يجب أن تُملأ بشكل مثالي بالثقافة (الفلسفة، الفن، الموسيقى، الأدب)، وبحسب رأيه يجب أن تحل الثقافة محل الكتاب المقدس.
ومع ذلك، كان نيتشه يشكك بشدة في صلاحية الطريقة التي تعامل بها عصره مع الثقافة. لقد اعتقد أن الجامعات تقتل العلوم الإنسانية، وتحولها إلى تدريبات أكاديمية جافة، بدلاً من استخدامها لما كان من المفترض دائماً أن تكون عليه مقاربة العلوم الإنسانية بكونها أدلة على وإلى الحياة الصالحة. لقد أعجب بشكل خاص بالطريقة التي استخدم بها الإغريق المأساة بطريقة عملية وعلاجية، باعتبارها مناسبة للتطهير والتربية الأخلاقية، وتمنى أن يكون عصره ساعياً على نحو مشابه في الحقل التعليمي التربوي.
واتهم الجامعة والثقافة السائدة في عصره بالانسحاب من دورها المحوري كبوصلة للحياة الهادفة، ونزع الأخلاق من ممارسة الثقافة.
ودعا نيتشه إلى إصلاح كلياني، حيث لا بد أن يملأ الناس - الذين يدركون حديثاً الأزمة التي نشأت بحلول نهاية الإيمان الديني - الفجوات التي أوجدها اختفاء الدين بالحكمة والجمال الشافي للثقافة.
الخلاصة
إن كل حقبة تواجه تحديات عقلية خاصة - كما يعتقد نيتشه – ومن هنا فإن مهمة الفيلسوف هي تحديد هذه المشكلات والمساعدة في حلها.
بالنسبة لنيتشه، كان القرن التاسع عشر يترنح تحت تأثير تطورين: الديمقراطية الجماهيرية والإلحاد. وكان الأول منهما المدخل لإطلاق وابل من الحسد الفظ والاستياء السام؛ والثاني مقدمة لترك البشر دون توجيه أو أخلاق.
وفيما يتعلق بكلا التحديين، صمم نيتشه بعض الحلول الفريدة فلسفياً، والتي قد لا يتفق الكثيرون معها، والتي من خلالها يمكن مقاربة مسألة معاناة البشر السرمدية في عصرنا الحالي جسدياً وعقلياً، وهي مقاربة تنطلق عموماً من دور الثقافة والمعرفة التنويري لتمكين الإنسان من قراءة وفهم ذاته، وملئها بالبعد الأخلاقي الذي لا يمكن من دونه العيش سوياً على وجه البسيطة.