عرفت فلسفة العصر الوسيط هيمنة كبيرة لإشكالية التوفيق بين الفلسفة من جهة والدين من جهة أخرى، ومن ثم كانت معالجة الفلاسفة في هاته المرحلة لأسئلة مرتبطة بذات الإشكال، مادام الفيلسوف يلتقط الإشكالات التي تعبر عن روح العصر الذي يعيش فيه. وبما أن المرحلة القروسطية الإسلامية والمسيحية قد تميزت بهذا التوتر بين الديني والفلسفي، فإن الفلاسفة الذين عاشوا خلال هاته الفترة، قد قدموا إنتاجات أشكلوا من خلالها هذا التوتر من خلال أزواج مفهومية تعكس طبيعة هذا الصراع: العقل/ النقل، الحكمة /الشريعة، الدين/ الفلسفة، الاتباع/ الإبداع، الرواية/ الدراية...لقد كانت كل الأسئلة التي شغلت اهتمام فلاسفة العصر الوسيط منتظمة ضمن إشكالية كبرى، وهي إقحام الفكر العقلاني المستلهم من الفكر اليوناني داخل حضارة يهيمن عليها الجانب الديني. من هنا يعتبر إيميل برييه أن الفلسفة الوسطوية هي تجربة فكرية واسعة لتقديم حل لمشكل للعلاقات القائمة بين العقل والإيمان.1 أي بين الحقيقة التي تستمد صلاحيتها من النص الديني المقدس وتلك التي تستمدها من الاستدلال العقلي المستمد بدوره من الفلسفة اليونانية. ولعل أبرز سؤال في هذا السياق هو سؤال البحث عن الله ومحاولة إثباته من خلال حجاج عقلي.
ويعتبر الغزالي/ ابن رشد ممن ترجموا هذا التوتر في المجال التداولي الإسلامي، في محاولة تناولهما علاقة الشرع بالفلسفة والمنطق: هل صحيح أن المنطق بما هو مدخل للفلسفة يودي بصاحبه للكفر؟ هل حقا كل من تمنطق قد تزندق؟ وهل يبيح الشرع الاشتغال بالفلسفة؟ وهي إشكالية جهل فيها الفلاسفة الفقهاء وكفر فيها الفقهاء الفلاسفة يقول المقري في كتابه " نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب" وهو يؤرخ لهذه المرحلة :" إن كل من عثر عليه يشتغل بالفلسفة والتنجيم إلا ورمي بالزندقة وربما طولب في دمه"2وفي هذه المرحلة طرحت مسألة التأويل بين دعاة الإبداع وتقديم العقل على النقل، من منطلق أن منطق الوحي يساير منطق التاريخ ويحايثه، وبين دعاة النص والاتباع ممن يعتبرون منطق الوحي يتعالى على التاريخ يقول محمد عابد الجابري متحدثا عن طبيعة الإشكالات التي حكمت الفلسفة الإسلامية لقد دشن الكندي عملية"تعريب"الفلسفة وتبيئتها (...)ويأتي الفارابي (...)لينادي بخطاب العقل(...) الذي لا يرى في الاختلاف بين الدين والفلسفة سوى اختلاف في طريقة التعبير(...)أما ابن سينا (...)فقد كرس بفلسفته اتجاها(...) كان له أثر(...) في ارتداد الفكر العربي الإسلامي من عقلانيته المتفتحة، التي حمل لواءها المعتزلة والكندي، وبلغت أوجها مع الفارابي، إلى "لاعقلانية"(...)لم يعمل الغزالي(...)إلا على نشرها وتعميمها في مختلف الأوساط(...) لنول وجهنا شطر المغرب العربي (...)، حيث سنجد الفلسفة العربية الإسلامية(...)تستعيد دورها الطلائعي مع بداية "الثورة الثقافية" التي دشنها "ابن تومرت"، وواصلها خلفاؤه من بعده (...)"ابن باجة "(...)،و"ابن طفيل"(...)ذلك مقال جديد أسس عليه "ابن رشد خطابه الفلسفي الأصيل."3
وإذا كان الجابري قد جعل من الغزالي معلما لتراجع ونكسة الخطاب الفلسفي العقلاني البرهاني، فإن المستشرق إرنست رينان قد رأى فيه رمزا للإبداع الفلسفي من خلال تجربته الصوفية، حيث يقول " وصوب الغزالي كتابه "تهافت الفلاسفة"، ضد ابن سينا على الخصوص، ولا مراء في أن الغزالي روح المدرسة العربية الأكثر إبداعا، وقد ترك لنا في كتاب طريف له، اعترافاته الفلسفية وخبر جولانه في مختلف مذاهب زمانه، وهو إذ لم يجد ما يرتاح له عمد إلى الشك، وهو إذ لم يجد في الشك ما يمسكه ألقى نفسه في الزهد...ولما صار الغزالي صوفيا حاول إثبات عجز العقل عجزا جذريا... وقد بدأ حملته على مذهب العقليين بانتقاده مبدأ العلة على الخصوص ...فنحن لا ندرك غير حدوث الشيء مع غيره في آن واحد...وليست السببية أمرا غير إرادة الله إذ يقضي بتعاقب الشيئين عادة ."5
لكن ما الذي جعل مشكل النص والتأويل، العقل والنقل، الوحي والتاريخ؛ يتخذ هذا الطابع من التوتر والصراع بين الفلاسفة والمتكلمين والفقهاء ورجال اللاهوت عموما؟
بالعودة إلى أسباب نزول هذا الإشكال نجد فكرة الخلق من عدم في الخطاب اللاهوتي وكيفية تلقيها في الخطاب الفلسفي، منذ اللحظة اليونانية إلى المرحلة القروسطية لدى المسلمين والمسيحيين. «فإذا تحدث أفلاطون عن الخلق، تصور مادة أولية تناولها الله بالتشكيل، وقل ذلك أيضا في أرسطو، فالإله عندهم أقرب إلى أن يكون فنانا أو مهندس عمارة، منه إلى أن يكون "خالقا"، فالمادة في رأيهم أزلية لم تخلق، والذي خلقته إرادة الله هي الصورة وحدها، فجاء القديس أوغسطين وذهب إلى ما يعارض هذا الرأي(...)إن وجهة النظر الإغريقية القائلة باستحالة الخلق من عدم، قد عاودت الظهور على فترات في العصور المسيحية، وانتهت إلى مذهب وحدة الوجود.(...)" هكذا أخذت مسألة قدم العالم وحدوثه حيزا مهما من سجالات المتكلمين والفلاسفة، ولا سيما عند محاولة تبيئة التصور اليوناني حول مسألة الخلق والقائلة بقدم العالم والتصور الديني القائل بإمكانية الخلق من عدم، هذا الإشكال سنلفي له حلا عند سبينوزا في تفسيره لأزلية الذات الإلهية بقوله:" الديمومة عرض من أعراض الوجود، وليست من أعراض الماهية. وهكذا فإننا لا نستطيع أن ننسب أية ديمومة إلى الله، لأن وجوده هو عين ماهيته(...)إلا أن بعضهم يتساءلون أليس وجود الله أطول الآن منه أيام خلق آدم (...) وهكذا فإنهم ينسبون إلى الله ديمومة أطول مع كل يوم يمر(...)لكن لن يقول أحد إن ماهية الدائرة أو المثلث، بوصفها حقيقة أزلية، قد دامت زمنا طويلا الآن بالمقارنة مع زمن آدم. ثم لما كانت الديمومة تعد أعظم أو أصغر، أي أنه يقع تصورها مركبة من أجزاء، فمن الواضح أنه لا يمكن أن ننسب إلى الله أية ديمومة، إذ لما كان وجوده أزليا، بمعنى أنه لا يمكن أن يوجد فيه لا قبلا ولا بعدا، فإنه لا يمكن أن ننسب إليه الديمومة دون أن نقوض التصور الصحيح الذي لدينا عن الله..."6 نلمس أن سبينوزا في تأثره بالمعمار الرياضي الهندسي في التعريفات والاستدلالات، يخرج عن التصور المجسم للذات الإلهية من خلال نظريته في التوازي والمحايثة.
وفي المواجهة بين الوحي والتاريخ، وما إذا كان منطق النص محايث للتاريخ أم مفارق له، يورد القديس أوغسطين ثنائية : مدينة الله/ مدينة الشيطان أو المدينة الأرضية، الأولى مدينة فاضلة مستقبلية تعبر عما ينبغي أن يكون والثانية مدينة الشر والرذيلة وتعبر عما هو كائن، يقول في هذا الصدد " إننا نغوص في أسرار الكتاب المقدسة تلك كيفما نستطيع وننجح في معرفة البعض أكثر مما ننجح بالنسبة للبعض الآخر، إلا أننا نؤمن يقينا أن هذه الوقائع لم تتحقق ولم تذكر إلا لأنها صورة أحداث المستقبل التي لا ترتبط إلا بالمسيح وبكنيسته، أي بمدينة الله. إن التنبؤ بهذه المدينة وجد منذ بداية الجنس البشري، وهو تنبؤ نراه يتحقق بكل جوانبه"7وعليه فمعرفة وجهة التاريخ لا تكون بالرجوع لمسيرته وأحداثه ووقائعه، قصد استشراف المستقبل وإنما بالرجوع للكتاب المقدس وللتصورات العقائدية، وهو ما يجعل من أوغسطين يؤسس للاهوت التاريخ، ولا يؤسس لفلسفة التاريخ، رغم أهمية ما أدرجه في كتابه "مدينة الله" من شواهد تاريخية في دفاعه عن العقيدة المسيحية، والتي وجهت لها انتقادات لاذعة بعد سقوط روما، من طرف الوثنيين والمسيحيين على حد سواء، أهمها ما وجهه فورفوريوس من حجج تحمل مسؤولية سقوط روما إلى أخلاق الزهد المسيحية، التي لا تعير أهمية للشؤون الدنيوية، ومحو صفة الخلود عنها، والفرار بها نحو العالم الأخروي، حيث الحياة الخالدة.**
يتضح من خلال ما تقدم أن مسارات الأشكلة في العصر الوسيط قد اتخذت منحى أساسيا يتجه في البحث عن تقليص التوتر القائم بين الحقيقة التي تُستمد من الوحي و تلك التي ينتجها العقل، و ذلك بطرق تختلف باختلاف السياقات التي أفرزتها، و انطلاقا من مبدإ عرض له ألكسندر كويري في حديثه عن القديسين أنسيلم و أوغسطين، وهو أنه لا توجد حقيقة تعارض النصوص الدينية، أو تعارضها النصوص الدينية، و أن كل الاختلافات الموجودة بين مقاطع مختلفة من النصوص الدينية أو بين معتقد (ديني) و بين حقيقة بديهية هي اختلافات ظاهرية فقط، فعلى مستوى السطح فقط يوجد مظهر للتناقضات. لذا فالنظام الذي يجب اتباعه في البحث عن الحقيقة يكمن في التصديق بالحقائق الإيمانية، قبل مناقشتها بالعقل، أي العمل لاحقا على فهم ما نعتقد به. فالإيمان بالله هو منطلق التفكير في كل مبحث فلسفي، وهو منتهاه أيضا وذلك لأن الله وحده كما قال القديس أنسليم يشبع عقلنا و محبتنا، على الفيلسوف أن ينطلق من الإيمان بالقلب، و الإيمان هو المعطى الذي يجب على الإنسان أن ينطلق منه، لأن الوحي قدم له مسبقا ما يريد فهمه و تأويله من وقائع و أحداث، و ينتهي إليه بالعقل، فنحن لا نفهم لكي نؤمن و إنما نؤمن لكي نفهم.8 يبدو إذن أن فعل الأشكلة في العصر الوسيط لم يتجاوز حدود النسق الديني، فجاءت الإشكالات في مجملها خلال هذه المرحلة عاكسة لطبيعة العقلانية السائدة في المجتمعات الوسطوية، وهي عقلانية دينية تحكمها مبادئ مستمدة من النص الديني المقدس لا يمكن للفيلسوف تجاوزها اعتبارا للمكانة الأساسية التي يحظى بها الدين في هذه الظرفية التاريخية المتسمة بقوة الخطاب الديني و تفوقه على أي خطاب آخر ، خصوصا الخطاب الفلسفي الذي لازال في بداياته الأولى باحثا عن موطئ قدم له ضمن مجتمعات تركن إلى اليقين أكثر منه إلى التساؤل و الاستشكال....
- المراجع باللغة الفرنسية:
[1] Bréhier, Emile, Histoire de la philosophie du moyen age, éditions électroniques les ecos des maquis. 2011.p
7 Koyré, Alexandre, l’idée de Dieu dans la philosophie de saint Ansèlme, Vrin, Paris, 1984, p28
8 Etienne, Gilson, la philosophie au moyen Age, Payot, Paris, 1922, p43
9 Etienne, Gilson, études de philosophie médiévale, commissions des publications de la faculté de Strasbourg, 1921, p 15
- المراجع باللغة العربية:
2 دولة، سليم، ما الفلسفة؟ دار نقوش العربية، الطبعة الثالثة سنة 1989م ص53.
3 الجابري، محمد عابد ، نحن والتراث المركز الثقافي العربي، الطبعة السادسة1993 ص،38..42 بتصرف.
4رينان، إرنست: ابن رشد والرشدية، ترجمة عادل زعيتر، دار إحياء الكتب العربية، القاهرة 1957.ص112.
5 أرندت، حنا ، في السياسة وعدا، ترحمة معز مديوني، مراجعة ناجي العونلي منشورات الجمل بيروت ـ بغداد 2018.ص 82
6 سعيد، جلال الدين معجم المصطلحات والشواهد الفلسفية، دار الجنوب للنشرـ تونس 2004م.ص 31
** يمكن العودة إلى كتاب حنا أرنت بين الماضي والمستقبل: ستة تمارين في الفكر السياسي في الجزء المخصص للتاريخ وفكرة الخلود الأرضي.