في نهاية الجزء السابق، وعدنا روبنس بيليدور بتوضيح ماهية الحرية الإنسانية التي هي موضوع هذه الدراسة. حان الوقت لكي نقوم بدراسة ماهية الحرية فعلياً. هكذا اصبح السؤال عن أساس جوهر الإنسان أمرا لا مفر منه. إنما نحو جذر وتجذر وجودنا الإنساني كما هو يقودنا السؤال الموجه بمضمونه الأساسي الخاص. نتساءل من خلال السؤال الأساسي عن فهم وجود الوجود، وهذا التساؤل عن السؤال الأساسي له في ذاته في نفس الوقت توجه متسائل نحو أساس إمكان الوحود الإنساني. يتساءل عن الإنسان في عمق جوهره، بمعنى أنه ينطوي في ذاته على إمكان دراسة لا تتناوله من الخارج، بل تصعد من عمق جوهره. أثبتنا أن عرض أفق مشكلة الحرية لم يكتمل إلا من خلال الخيط الهادي لتأويل الحرية الذي أظهره كانط. لكن من يقول لنا إن هذا التأويل، مهما كان أساسيا، هو التأويل الفلسفي المركزي؟ عند كانط، كما يؤكد شيلينج، ما تزال الحرية هي ما يجب أن يهيمن
على الحساسية، لكنها ليست كذلك فحسب، لأنها في هذا هي بالفعل استقلال ذاتي، صيانة نفسها على أساسها الخاص، وتحديد ذاتي باعتبارها تشريعا ذاتيا. إلا انه مع المفهوم الكانطي عن الحرية، فإن تحديد الجوهر الصوري لحرية الإنسان لم يكتمل بعد. ذلك أن كانط وضع هذه الحرية، بمعنى الاستقلال الذاتي، حصرا في العقل الخالص للإنسان.
لا يبقى العقل الخالص مختلفا عن الحساسية فحسب، بل يظل هو ما يختلف أيضا عنها جوهريا، ما يختلف عن "الطبيعة" كما هي مختلفة عنه تماما. أكثر من ذلك، من يقول لنا إن الحرية يجب أن تُفهم في المقام الأول في ارتباط بالسببية؟ بكل ذلك، اقتصرنا حتى الآن على تحصيل معرفة، وهو ما مكننا من أن نعلم في أي اتجاه ينبغي، على أي حال، أن يتحرك السؤال حول الحرية. ومع ذلك، ما قيل لنا أبدا ضمن ما قيل إن ذلك هو العرض الوحيد والضروريللمشكلة. أدرك كانط حقيقة الجوهر العام للحرية باعتبارها استقلالا ذاتيا وتحديدا ذاتيا وفق قانون أساسي وصحيح، لكنه لم يتصور بعد الفعل الأصلي للحرية الإنسانية في وقائعيتها.
عندما نتساءل حقا عن ماهية الحرية، نجد أنفسنا أمام السؤال عن ماهية الموجود كما هو. السؤال عن ماهية الحرية الإنسانية يتم إدراجه على هذا النحو وبالضرورة في السؤال الذي يطلب تحديد ما يكونه الموجود كما هو على الوجه الصحيح. لهذا ينبغي الآن، في المنظور الهايدجري لمفهوم الحرية، أن نطرح صراحة السؤال عن الحرية الإنسانية. نحن نعرف السؤال بالصيغة الشائعة لـ "مشكلة حرية الإرادة" - مشكلة الإرادة الحرة. هنا نخوض النقاش في ما إذا كانت حرية الإنسان حرة أم غير حرة، وكيف يمكن الاستدلال على ذلك بطريقة مقنعة كفاية. تعتبر الحرية بالتالي خاصية للإنسان؛ لما يكون ومن يكون الإنسان، ما نعتقد في هذه الحالة أننا نعرفه بالفعل - الشك الوحيد الذي ينتابنا بشأن هذه الخاصية التي هي الحرية: معرفة ما إذا كانت تنتمي إليه كما تنتمي أيضا إلى ملكته الإرادية، أو ما إذا كان يجب إتكارها. الحرية عند هايدجر لا تُعطى كخاصية للإنسان، إنما بالعكس الإنسان هو بالأحرى ملك خاص للحرية. الحرية هي الماهية التي تحتوي الوجود الإنساني وتنقله من طرف إلى آخر؛ هي ما يجب أن يُعاد توجيه الإنسان إليه ليصبح إنسانا حقا. ذلك ما يعني أن جوهر الإنسان يقوم على الحرية.
لكن الحرية نفسها هي تحديد الوجود بصفة عامة بما فيه من خاص، تحديد يتجاوز كل وجود إنساني. بقدر ما يكون الإنسان كذلك، يجب عليه بالضرورة أن يشارك في هذا التحديد للوجود، ويوجد الإنسان، عند الحد الذي يتمكن فيه الإنسان من المشاركة في الحرية. لنتساءل: كيف تكون الحرية تحديدا للوجود؟ بخصوص الحقيقة، عند هايدجر، هناك سبب للتمييز بين الخاصية اللامتححبة للوجود (الحقيقة الانطولوجية) وقابلية الموجود للانكشاف (الحقيقة الأنطيقية). الحقيقة الانطولوجية والحقيقة الأنطيقية متضامنتان في الجوهر على أساس علاقتهما مع الاختلاف بين الوجود والموجود، الاختلاف الأنطوولوجي.
لنحاول فهم أن الاختلاف الأنطولوجي يتم من خلال الوجود-هنا، الذي يتبتى حيال الموجود موقفا يتضمن فهم الوجود، وهكذا يميز بين الوجود والموجود. هذا التمييز، الصعود من الوجود إلى الموجود، يسميه هايدجر "تعالي الوجود هنا".هكذا، يؤدي السؤال عن الأساس إلى السؤال عن الحقيقة، والسؤال عن الحقيقة إلى السؤال عن الاختلاف الانطولوجي، والسؤال عن الاختلاف الأنطولوجي إلى السؤال عن تعالي الوجود-هنا. بالنسبة إلى هيدجر، فإن تعالي الوجود-هنا هو التجاوز، الذي حدث دائما بطريقة ما، لما وراء كل موجود وأي موجود، تجاوز من خلاله فقط يمكن للوجود-هنا أن يعود بطريقة أصيلة إلى الأشياء، إلى الوجود-مع وإلى ذاته. التجاوز لما وراء الوجود "مكون" للعالم، التعالي كوجود-في-العالم، يوفر فقط
ولوج الموجود إلى العالم بحيث يتمكن الموجود من أن ينكشف كما هو. من هنا، يكون التعالي هو الحدث الأصلي، التاريخ الأصلي. يجب أن يكون، بالنسبة إلى هايدجر، متصورا على أنه حرية، لأن الحرية تضع أمام نفسها نصب عينها وتقوم بالتالي بالسيطرة على العالم. إذن، لا وجود سوى في الوجود-الأأساس للتعالي (المُتصور على أنه حرية).
يتناول البحث حرية الإنسان، لكن هذا في حد ذاته يشير بالفعل إلى أنه يتناول نوعا معين من الحرية بمقتضى ماهية الوجود بشكل عام في ما له من خاص. تبحث هذه الدراسة في جوهر الإنسان، أي أنها تتساءل في ما وراء الإنسان، في اتجاه ما هو أكثر أهمية وقوة منه: في اتجاه الحرية. ونتيجة لذلك، يبدأ توجهنا بأكمله في الطفو. بكل تأكيد يجب علينا ىإخضاع كل ما سبق للتحديد. ونحن نمسك دائما بالخيط الهادئ في الفكر الهايدجري، يمكننا أن نؤكد أنه: إذا كانت مشكلة الحرية مرتبطة - كما هو الحال عند كانط - بالسببية، فإن هذا الارتباط يقودنا إلى المنظور الواسع الذي فتحناه - ولا يكون ذلك إلا بهذا الشرط. لنفترض على العكس من ذلك أن الحرية تسمح لنفسها منذ البداية بأن يتم تحديدها بطريقة أخرى، عندها يصبح المنظور أيضا آخر. الأكثر من ذلك: لا ينبغي علينا فقط أن نعترف بإحتمال تمكن العديد من المنطورات المختلفة من أن تكون منفتحة على موضوع الحرية، ولكن أيضا وقبل كل شيء يتعين أن نكون متأكدين من المكان الذي نحدد فيه الحرية قبل أي انفتاح لمنظور أكثر سعة، المكان الذي تقيم فيه، إذا جاز التعبير. إلا أن هذا المكان ظل غير محدد حتى الآن، ما دمنا، بعد استيلائنا على تعريفات مختلفة للحرية، لم نحدد صراحة أي مجال تنتمي إليها الحرية، ولا كيف تم توطينها في هذا المجال. هكذا، إذا كان لا بد لبحثنا عن ماهية الحرية الإنسانية من أن يجترح مسارا أكثر أمانا، فيجب علينا أولاً أن نتأكد من المجال الذي نكون ملزمين بالنظر إليه ونحن نسائل الحرية ذاتها ونعمل على إلقاء الضوء على ماهيتها. المطلوب منذ البداية هو إدراك ماهية الحرية الإنسانبة، إذن حرية الإنسان والإنسان نفسه، بطريقة يكون فيها للوهلة الأولى - مهما بقي محجوبا تماما عن محتواه المرئي - الجوهري مرئيا؛ ليس باعتباره إضافة تمنح لإرادة الإنسان، ولكن باعتباره جوهر الوجود في حد ذاته، باعتباره كشفا أساسيا للأساس بالنسبة للموجود في الكلية.
لهذا السبب استطاع هايدجر أن يكتب أن "الإنسان لا يمتلك الحرية كخاصية، بل بالعكس: الحرية، الدازاين المنفتح واللامتحجب، تمتلك الإنسان، وذلك بطريقة أصيلة بحيث تسمح وحدها لإنسانية بإقامة علاقة مع الموجود في كليته، وكما هو، عليها يتأسس ويرتسم كل تاريخ. إن عرض الموجود لا يكتمل إلا إذا استرشد بالفهم المسبق للوجود. الموجود لا يمكن أن يكون سببا أو دافعا حيال موجود آخر منكشف قبلا إلا إذا كان "مدفوعًا" مسبقا إلى الوجود. سبق أن قلنا إن الأساس يجب أن يرتفع فوق كل حقيقة أنطيقية بغية الوصول إلى الحقيقة الأنطولوجية لكل موجود (راجع ص: 74 في النص الأصلي). الحرية ليست شيئا محددا من بين أشياء أخرى، ومتجاورا مع الأشياء الأخرى، هي مأمورة مسبقا بأن..، وتحكم بالضبط من جانب إلى ٱخر
الكل بوصفه كلا. من ناحية أخرى، إذا كنا نبحث عن الحرية كأساس لإمكان الدازاين، فإذن هي ذاتها في جوهرها أكثر أصالة من الإنسان.
وما الإنسان إلا مدبر للحرية، إلا موجود ذو حرية في ترك الحرية لتكون حرية وفق الجهة التي استحقها، بحيث يصبح، عبر الإنسان، مرئيا كل استحقاق للحرية. حرية الإنسان، من الآن فصاعدا، لا تعني: الحرية كخاصية للإنسان، ولكن بالعكس: الإنسان كإمكان للحرية. إن الحرية الإنسانية، في اللغة الهايدجرية، هي الحرية بقدر ما تخترق الإنسان وتأخذه على عاتقها، تجعله هكذا ممكنا. إذا كانت الحرية هي أساس إمكان الدازاين، جذر الوجود والزمان، وبالتالي أساس تمكين وفهم الوجود بكل سعته وامتلائه، عندها يكون الإنسان، وهو يتأسس بوجوده على وفي هذه الحرية، هو الموقع الذي فيه والمناسبة (Gelegenheit) التي بها يصبح الموجود ظاهرا في كليته، إنه الموجود الذي من خلاله يتكلم الموجود في كليته وكما هو، هكذا يعبر هنا عن نفسه.
هنا تأخذ المكانة الأساسية لكتاب "الوجود والزمان" دلالتهاالكاملة. في بداية البعد الثاني، عندما تناولنا السؤال المطروح في موضوعنا كشيء في متناول اليد (Vorhandenheit)، اعتبرنا الإنسان موجودا ضمن موجودات أخرى، صغيرا، هشا، عاجزل، عابرا، مثل ركن صغير في الموجود كله (راجع ص: 50 في النص الاصلي). الآن وقد نظرنا إليه انطلاقا من أساس ماهيتها، من الحرية، تظهر لنا هذه الأعجوبة: يوجدالإنسان كالموجود الذي يكون فيه وجود الموجود، أي الموجود في كليته، ظاهرا. إنه الموجود في الوجود والأساس الجوهري الخاص الذي عنه يترتب فهم الوجود. هكذا إذن، تكون الحرية الإنسانية في جوهرها هذه الحرية التي تتيح للإنسان أن يكون من يكون؛ الحرية كأساس.
وصلنا الآن إلى نهاية هذا الفصل الثاني، ولم يبق إلا أن ننتقل إلى الخاتمة، ونسمح لأنفسنا بأن نقول ما يلي: مفهوم الحرية ليس فقط
مفهوما من بين مفاهيم أخرى، لكنه مركز كلية الوجود؛ فتحديد هذا المفهوم، كما يقول شيلينج، يعد بشكل صريح وصحيح جزء من
تحديد الكل ذاته. مفهوم الحرية ذو واقعية، لأن الوجود-الحر, باعتباره جهة للوجود، بشكل ماهية وأساس لجوهر وأساس الوجود في انتشاره الذي سوف نقف عليه من خلال شرح العلاقة بين الحقيقة والحرية وتناسق الفكر الهايدجري في الفصل التالي.
قدم بيليدور في الفصلين السابقين مختلف تعريفات مفهومي الحقيقة والحرية كما حددهما هايدجر في أعماله الرئيسية. في هذا الفصل الثالث، سيحاول (1) إضاءة الرابط أو العلاقة اللذين يوحي بهماالمفهومان. سوف يتساءل عن طبيعة العلاقة، بمعنى أننا سوف نتساءل معه عما إذا كان لهذين المفهومين نفس الطبيعة أم لهما طبيعة مختلفة. (2) سيحاول بإيجاز إلقاء الضوء على تناسق أو تماسك الفكر الهايدجري. وقبل أن يباشر مقاربته، رأى الباحث أته من الضروري، من وجهة نظره، أن يقول شيئا عن الوجود عند هايدجر، وهذا واحد من المفاهيم الأساسية التي سنحتاج إليها لتأسيس العلاقة المرغوب فيها، وعندما نفهم معنى هذا المصطلح سنتمكن، بمزيد من الأمان، من إقامة الرابط الموجود بين الوجود والحقيقة، بين الحقيقة والحرية. فماذا يعني "الوجود" عند هايدجر؟
في سائر كتاباته ومنذ البداية، في مؤلفه الأم، لم يتوقف هايدجر أبدا عن التأكيد على أن المشكلة الوحيدة التي كانت تشغله هي مشكلة الوجود. لقد كان الأمر يتعلق بالنسبة إليه بتذليل صعوبة تفسير معنى الوجود أو حقيقة الوجود. يقول هايدجر: "المعنى هو ما تنعقد به قابلية فهم شيء". معنى الوجود إذن هو ما تكمن فيه معقولية الوجود. عندما قال لنا هايدجر، في نهاية كتيبه: "في ماهية الحقيقة"، إنه يتوجب تعلم التفكير وفقا للأساس الذي هو الدازاين، فقد جعل تفكيره، بحسب برتراند ريو، ينخرط في المكان الاكثر اختفاء في الحقيقة،ا حقيقة الوجود نفسه.
بدأ هايدجر أولا من اللغة اليونانية لفهم "الوجود". والحال أن الوجود عند الإغريق ينفتح مثل Phúsis. تفهم هذه الكلمة بمعنى مزدوج: إنها تعني أولاً سيادة هذا الذي يستمر في الازدهار وهي في نفس الوقت وفي حد ذاتها التجلي المتجلي. هايدجر، المولع جدا بالإيتيمولوجيات (اشتقاقات الكلمات)، يدرس كلمة Phùsis من حيث جذورها نفسها. وفقا له، فإن الجذرين Phu و Pha يعنيان نفس الشيء. Phúsis تأتي من phúein، التي تعني الازدهار المرتكز على ذاته، phúein هي أيضا phaïnesthaï وتعني البدء في الإشعاع، الانكشاف، الظهور. لذلك، إذا فهمنا بشكل صحيح، يمكننا أن نؤكد متيقنين أن الوجود، بالنسبة إلى هايدجر، هو تبيان، ازدهار الواقعي، الذي هو ذاته ينكشف وينعقد في اللاكمون. لكنه ينتمي إلى حقيقة الوجود بحيث أن الوجود لم ينتشر ابدا بغير الموجود، أن موجودا لا يكون أبدا بغير الوجود. من خلال دراسة كلمة phúein المذكورة أعلاه، يلمح هايدجر إلى بندار، آخذا جذر phúa من كلمة phúein التي تشكل بالنسبة إلى بندار السمة الأساسية للوجود-هنا. Phua تعني الشخص الذي يوجد قبلا على نحو أصلي وحقيقي: الذي-كان-موجودا-قبلا. "الوجود هو التحديد الجوهري للنبيل والنبالة (أي كل ما له في جوهره أصل عال ويستقر فيه). ومن خلال الإشارة إلى ذلك، (إلى الوجود الأصلي)، يشدد هايدجر، كتب بندار: "هل تستطيع، وأنت تتعلم، أن تنتج نفسك، كمن أنت تكونه".
لكن هذا الانعقاد-في-الذات لا يعني شيئا ٱخر سوى الانعقاد-هنا، الانعقاد في النور على الدوام. "الوجود" يعني "الظهور". الظهور هنا ليس شيئا عرضيا يصادف أحيانا الوجود. الوجود مثل الظهور. الوجود هو Phúsis. ينكشف مثل ألق خالص. ويعني قبلا ما يلي: الوجود الذي ينكشف مثل Phúsis، مثل ألق خالص، يتيح الخروج من الكمون. بحكم أن الموجود، كما هو، يوجد، يقيم وبنعقد في اللاكمون، a-lèthèia. هكذا، بالنسبة إلى ليونانيين، لا تكون ماهية الأليثيا (التي نترجمها ألى حقيقة) ممكنة إلا بالاتفاق مع ما هي بالنسبة إليهم ماهية الوجود باعتباره Phúsis. إنما تأسيسا على الاتصال الماهوي، الفريد من نوعه، يؤكد هايدجر، بين Phúsis وalèthèia، استطاع اليونانيون أن يقولوا: الموجود، باعتباره موجودا، حقيقي. الحقيقي، باعتباره كذلك، موجود. وهذا يعني: أن ما يظهر غالبا يتخذ موقفا في الانكشاف. الحقيقة تنتمي إلى نفس جوهر الوجود. إذن، الphúsis، الوجود، ليس، في الأصل، هو ما جاء، لأنه مزدهر، ليظهر ويبقى في الحضور، لكنهىالانبثاق لكل موجود كما هو، مجيئه إلى الظهور، ولوجه إلى الحضور. إنه لا يسمي أي موجود، بل الوجود كتفقيس دائم.
وباتباع الخيط الفكري الهايدجري، يمكن أيضا تسمية التفقيس كشفا. الphúsis أو الكينونة، المفكر فيها ككشف، تفترض بالضرورة التحجب؛ لا يمكن ان يكون تفقيسا، مجيئا إلى الظهور أو إلى اللاتحجب إذا تنبثق باستمرار من التحجب، من هنا: علاقة لاتحجب-تحجب؛ وهو يتبثق منه يميل دائما إلى أن ينحني أمامه، كما لو ينحني أمام ما يضمن وحده انبثاقه. Phúsis هو حقا وجود الموجود، الموجود الذي ينتشر كلاتححب، والذي يتيح لنا بالتالي ذاته. ما يسعى هايدجر إلى إفهامنا إياه هو أن الازدهار، النشوء لم يوجد ولن يدوم إلا لأنه يتشكل من الداخل ببعد ضروري وحاسم من الاحتجاب: "في التفقيس انطلاقا من الذات، في الphusis,، في الوجود يسود طرح، وهذا بطريقة واضحة لدرجة أنه بدون هذا، لا يمكن لذاك أن يسود. ذلك لأن "الوجود" يعني "الظهور أثناء الازدهار، الخروج من الكمون" الذي إليه ينتمي الكمون و مصدره. هذا المصدر يشكل جوهر الوجود، جوهر الظاهر كما هو. إذا أخذنا في الاعتبار ما قيل للتو، فيمكننا أن نقول: الوجود، باعتباره phúsis، هو سيادة ما يزدهر. يتجلى كما لو كان الثبات، الحضور المستمر. إذا استخدمنا مرة أخرى عبارة "الوجود باعتباره phusis سيادة ما يزدهر"، فذلك من أجل التلميح إلى كلمة لم يغفلها هايدجر؛ ألا وهي لوغوس logós. ماذا تعني لوغوس في اللغة الهايدجرية؟ لهذه الكلمة ثلاثة حقول دلالية مهمة: (1) يتميز بالثبات، بالدوام. (2) إنه مثل المجموع في الموجود، مجموع "موجود"، الجامع (3) كل ما ينشأ، أي يأتي إلى الوجود، ينعقد هنا في تطابق مع هذا المجموع الثابت؛ وهذا الأخير هو المسييطر.
تتناسب كلمة "logós" اليونانية مع كلمة "sammlung" الألمانية التي تعني: (أ) الجمع؛ و(ب) تذكر. هكذا إذن، تعني لوغوس هنا التذكر الذي يجمع، الجامع الأصلي. اللوغوس عند هايدجر لا يعني لا معنى، ولا كلمة، ولا عقيدة (ولا حتى "معنى:عقيدة")، بل يعني بالأحرى: التذكر المهيمن باستمرار في ذاته والجامع في الأصل. اللوغوس هو التجميع الثابت، التذكر-المنعقد-في-ذاته للموجود، أي الوجود. phúsis وlogós هنا إذن شيء واحد ونفس الشيء؛ هكذا إذن يكون وجود كل موجود الأكثر ظهورا،ىالأكثر ثباتا في ذاته.
الوجود، كما يقول هايدجر، ليس قابلاً للإدراك ولا ملموسا، باعتباره لوغوس، وتجميع أصلي. أكثر من ذلك، لأن الوجود بالضبط لوغوس، تناغم، حقيقة، فوسيس، phaenesthaï . فهو لا ينكشف إراديا. بالفعل، رغم أن الوجود يشكل وحدة لا تنفصم بين الظهور والتحجب، بين التحجب واللاتحجب، فهو لا يستنير إلا باعتباره ظهورا، وهكذا تختفي السمة الأكثر حسما في جوهره، المصدر الخفي الذي منه يأتي كل لاتحجب. لهذا سيتحدث هايدجر في نصوص لاحقة عن "انسحاب الوجود".
(يتبع)
نفس المرجع