إننا لا نفكر بعد في ماهية الممارسة بشكل حاسم، لذا فنحن لا ننظر إليها إلا باعتبارها نتاج أثر تكمن حقيقته الثمينة في ما يسديه من خدمات وصلاحيات. هذا في حين أن ماهية الممارسة تكمن في الإنجاز، والإنجاز معناه: بسط شيء ما في تمام ماهيته، وبلوغ ذلك التمام، بحيث يكون الإنجاز هو الإنتاج بمعناه الأصيل.
لا يمكننا إذن أن ننجز على الوجه الصحيح إلا ما "يوجد" مسبقا. والحال أن ما "يوجد" مسبقا هو الوجود. وإذا كانت مهمة الفكر هي أن ينجز العلاقة التي للوجود بماهية الإنسان، فإن هذه العلاقة لا تنتج أبدا عنه ولا تشكل من طرفه، بل إن الفكر لا يعمل سوى على عرضها عن الوجـود باعتبار ما من الوجود يعود على الفكر نفسه. هذا العـرض يكمن فيما يلي: في الفكر على الوجود أن يأتي إلى اللغة. واللغة هي مـأوى الوجود، حيث يقيم الإنسان. المفكرون والشعراء هم أولئك الـذين يسهرون ويحرسون على هذا المأوى. حراستهم وعنايتهم هما الإنجاز التام لتجلي الوجود، إذ من خلال قولهم وبه يحملون إلى اللغة ذلك التجلـي ويحتفظون به هناك. والفكر قبل كل شيء لم يرق إلى مرتبة الفعل لمجرد أن أثرا ما قد نجم عنه، أو أنه قابل لأن يطبق على… أو يوظف في… إن الفكر يتصرف ويمارس بقدر ما يفكر. هذه الممارسة ما دامت تخص العـلاقة التي للوجود بالإنسان، فهي على أعظم تقدير الأكثر بساطة. لكنها ولنفس السبب الأكثر رفعة في نفس الوقت. وعليه فإن كل فعالية إنـما تستقر في الوجود لتتجه من ثم صوب الموجود.
بيد أن الفكر على العكس من ذلك يطاوع دعوة الوجود ونشدانه له ليقول حقيقته. إنه ينجـز هذه العفوية في التفكير في الوجود والتخلي عن الموجود. فالتفكير هو تـهيؤ الوجود لقول الوجود ذاته. لا أعرف ما إذا كانت اللغة تستطيع أن تجمع بين هذه الثنائية: "من" و"ل" في عبارة واحدة كهذه: "الفكر هو تجنيد الوجود". إن صيغة الإضافة هنا "تجنيد الوجود" يجب أن تعبر عن كون المضاف إليه، هو في نفس الوقت الذاتي والموضوعي معا. (الفاعل والمفعـول). لكن مصطلحي "الذات" و"الموضوع" (الفاعل والمفعول) هما بالمقابل مصطلحان ميتافزيقيان غير بريئين، بقدر عدم براءة هذه الميتافزيقا التي استحوذت باكرا في شكل الـ "منطق" والـ "نحو" الغربيين على تأويل اللغة. إن ما يختفي في حدث من هذا القبيل، لا يمكننا أن نتبينه اليوم إلا بمشقة النفس. كما أن تحرير اللغة من قيود النحو لصالح تـمفصل أكثر أصالة بين عناصرها، يظل رهينا بالفكر وبالشعر. إن الفكر ليس فقط تجنيـدا في الفعل لأجل الموجود ومن طرفه وقد أدرِك باعتباره واقع الحال الراهن. بل إنه تجنيد من طرف حقيقة الوجود لصالح هذه الحقيقة. هذا الوجود الذي لم ولن يكتمل تاريخه أبدا، وإنما يظل دائما في حالة ترقب وانتظار لطور الاكتمال. إن تاريخ الوجود هذا هو الذي يتحمل ويحدد كـل ظرف وشرط إنساني. فإذا كان علينا بادي ذي بدء أن نتعلم كيف نختبر بصفاء ماهية الفكر هذه التي نتحدث عنها، الشيء الذي يعود على إنجازها، فإن هذا يقتضي منا أن نتحرر من التأويل التقني للفكر الذي ترجـع أصوله إلى أفلاطون وأرسطو. في ذلك العصر كان الفكر نفسه ذا قيمة تخنية (نسبة إلى تخني: t c n h ). لقد كان سيرورة من الفكر في خدمة العمل والإنتاج. لكن الفكر قد تم تمثله آنذاك من وجهة نظر البراكسيس ((p r a x i V ) الممارسة) والبويسيس (الشعر بمعناه الأصلي: (p r a x i V ). ولهذا فالفكر إذا ما نظرنا إليه في ذاته ليس ممارسة. هذه الكيفية في النظر إلى الفكر باعتباره "نظرية" (تيوريا ـ q e w r i c )، وهذا التحديد للمعرفة باعتبارها "موقفا نظريا"، حدثا مسبقا في قلب وبداخل تأويل تقني للفكر. إنـها محاولة رجعية وردة فعل استهدفت الحفاظ على ما تبقى للفكر من استقلالية في مواجهة الممارسة والعمل. ومنذ ذلك الحين و"الفلسفة" في نـزاع دائم مع ضرورة تبرير وجودها أمام الـ"علوم". ولقد ارتأت أن النجاح المؤكد في هذه المهمة هو أن ترتقي بنفسها إلى مرتبة العلم. لكن هذا المجهود كان في حقيقة الأمر هو التخلي الفعلي عن ماهية الفكر. لقد بات يلاحقها الخـوف من ضياع مكانتها وصلاحيتها إذا هي لم تصر علما. إننا نقف هنا على ما يشبه نقصا يناط بما ليس ـ علمويا. هكذا تم ترك الوجود من حيث هو عنصر الفكر تحت رحمة التأويل الذي أصبح معمولا به منذ عصر السفسطائيين وأفلاطون. ومن ثمة أصبحنا نحكم على الفكر حسب قياس ليس من طينته. هذه الكيفية في الحكم تشبه إلى حد بعيد، تلك الطريقة التـي تروم التعرف على ماهية الأسماك وأصولـها من خلال القدرة التي لـها على العيش في اليابسة. وقد أبان الفكر عن فشله في اليابسة هذه منذ زمن بعيد وبعيد جدا. فهل يجوز لنا الآن أن ننعث هذا المجهود الذي يسعى إلى إرجاع الفكر إلى عنصره، بكونه "نـزعة لاعقلانية"؟
إن الأسئلة الواردة في رسالتكم تتضح بيسر أكبر من خلال الحوار المباشر. أما في حالة الكتابة فإن الفكر يفقد بسهولة حافزه. لكنه لا يستطيع على وجه الخصوص الحفاظ على الأبعاد الخاصة بمجاله إلا بصعوبة. إن نجاعة الفكر لا تكمن فقط، بخلاف العلوم، في الدقة المصطنعة (أي التقنية ـ النظرية) للمفاهيم، بل ترجع إلى ما يلي: في عنصر الوجود على القول أن يبقى خالصا، ويسمح بـهيمنة ما في أبعاده المتنوعة من بساطة. لكن الشيء المكتوب يمنحنا من ناحية أخرى الحاجة الملائمة لفهم يقظ من خلال اللغـة. وسأكتفي اليوم بعزل سؤال واحد من بين أسئلتكم وعرضه، لعل الاختبار الذي سأجريه له يلقي بشيء من الضوء على الأسئلة الأخرى.
إنكم تسألون: "كيف يمكننا أن نعطي من جديد معنى لكلمة "النـزعة الإنسانية؟" هذا السؤال يؤشر على الرغبة في الحفاظ على نفس الكلمة. وإني لأتساءل عمَّا إذا كان ذلك ضروريا. ألم تتجل بعد بما فيه الكفاية، المصيبة الكبرى التي تنجم عن مثل هذه الإضافات ؟ صحيح أننا بدأنا منذ زمن بعيد نحتاط من إضافة ياء النسب وتاء التأنيث "…ية = …isme" (للدلالة على النـزعة إلى…). لكن سوق الرأي العام لم يتوقف عن المطالبة بالمزيد. كما أننا دائما على استعداد لتلبية هذا الطلب. إن مصطلحات من قبيل "منطق"، "أخلاق"، فيزياء" لم تظهر هي نفسها إلا في اللحظة التي أصبح فيها الفكر الأصيل على مشارف غروبه. أما الإغريق إبان عصرهم العظيم، فقد فكروا دونما حاجة إلى مثل هذه الإضافات إلى حد أنـهم لم يطلقوا على الفكر اسم "فلسفة". لقد كانت هذه الأخيرة في طريقها إلى الأفول عندما ابتعدت عن عنصرها. والعنصر هنا، هو ما يستطيع الفكر انطلاقا منه أن يكون فكرا. إنه بحق ما ـ له ـ القدرة: إنه القدرة ذاتـها أو السلطة. فهو يتكفل بالفكر ليحمله بذلك إلى ماهيته. وبكلمة واحدة نقول: إن الفكر هو فكر الوجود. والإضافة هنا، لـها معنيان: الفكر من الوجود على قدر حصوله من هذا الأخير وانتمائه إليه ؛ الفكر فـي نفس الوقت تفكير في الوجود مادام إذ ينتمي إلى الوجود فهو يصغـي له. إن الفكر يكون بما هو عليه تبعا لمصدر حصوله الأساسي؛ بحيث بانتمائه للوجود إنما يصغي للوجود. الفكر يكون : وهذا معناه أن الوجود يتكفل في كل مرة تبعا لتجلي عصوره بماهيته. أن تتكفل بـ"شيء" ما أو بـ"شخص" ما في ماهيته، معناه أنك تحبه، أي ترغب فيه. هذه الرغبة إذا ما فكرنا فيها بشكل أصيل، تجلت لنا كهبة من الماهية. ومثل هذه الرغبة هي الماهية الخاصة بالقدرة التي ليس بوسعها فقط أن تحقق هذا أو ذاك، وإنما أن تعمل أكثر من ذلك على بسط شيء ما انطلاقا من مصدر حصوله، أي أنها تسمح بحصول كينونته. إن قدرة الرغبة وسلطتهـا هي هذا الذي "بموجب" ـه تكون لشيء ما بوجه خاص القدرة على الانوجاد(1). هذه القدرة عينها هي الـ "ممكن" الذي تستقر ماهيته في الرغبة. ما ينشده الوجود ويستطيعه انطلاقا من هذه الرغبة فيجعله ممكنا هو الفكر. فالوجود من حيث هو رغبة ـ تُـنْجَزُ ـ قُـدْرَة هو الـ "ممكن". إنه من حيث هو العنصر، الـ "قوة الهادئة" للقدرة المحبة، أي للممكن. إن كلمتي: "الممكن" و "الإمكانية" لم يفكر فيهما بفعل هيمنة الـ "المنطق" والـ "ميتافزيقا" إلا في تعارضهما مع مفهوم "الواقع"، أي انطلاقا من تأويل ميتافيزيقي معين للوجود باعتباره وجودا بالفعل ووجودا بالقوة. هذا التعارض هو ما تتم مماهاته مع الوجود (existentia) بمعنى العرض ومع الماهيـة (essentia) بمعنى الجوهر. عندما أتحدث عن "القوة الهادئة" للممكن" فأنا أقصد بـها إمكان إمكانية متمثلة فقط، ولا أعني بـها الكمون باعتباره جوهر الوجود الفعلي كعرض، بل أقصد بـها الوجود ذاته. هذا الوجود الذي إذ يرغب، يحتفظ في رغبته بالسلطة وبالقدرة على الفكر. ومن ثمة على ماهية الإنسان، أي على العلاقة التي للإنسان بالوجود. فأن تقدر على شيء ما معناه : أن ترعاه في ماهيته وتحافظ عليه في عنصره.
حينما يكون الفكر على مشارف أفوله مبتعدا بذلك عن عنصره، يستعيض عن خسارته تلك بأن يضمن لنفسه قيمة ذات صبغة تقنية كأداة للتكوين، ليصير عاجلا تمرينا مدرسيا وينتهي بالتحول إلى ما يشبه مشروعـا ثقافيا. وشيئا فشيئا تصبح الفلسفة تقنية للتفسير من خـلال العلل والأسباب الأولى. هكذا نكف عن التفكير وننشغل ب "الفلسفة". وفي لعبة السبق والتنافس هذه، يتم تقديم مثل هذه الانشغالات إلى المجال العمومي في شكل نـزعات… (… ية/…isme) تنـزع إلى المزايدة والمضاربة. وتفوق مثل هذه الملصقات وهيمنتها لا يرجع في شيء إلى الصدفة، وإنما يرتكز على ديكتاتورية الإشهار الخاص، خصوصا في الأزمنـة الحديثة. فما ندعوه بالـ "وجود الخصوصي" ليس بعد هو المهم ذلك الكائن الإنساني الحر، بل مجرد تصلب لنفي ما هو عمومي. ويبقى ذلك المطمور الذي يتوقف على كل هذا، ولا يقتات إلا من اختفائه في مواجهته، شاهدا بذلك رغما عنه على خدمته للإشهار. والحال أن الإشهار هو ذلك المجهـود اللامشروط ميتافزيقا ـمادام يمتح من هيمنة الذاتيةـ الذي يوجه انفتاح الموجود نحو الموضعة اللامشروطة لكل شيء ويدفع به نحو الإقامة هناك. لهذا السبب تسقط اللغة نفسها في خدمة الوظيفة التوسطية لوسائل المبادلة التي تستطيع الموضعة بواسطتها، من حيث هي ما يجعل كل شيء فـي متناول الجميع على نحو متشابه، أن تذهب إلى حد الاستهانة بكل الحدود. هكذا بصدد تقع اللغة تحت رحمة ديكتاتورية الإشهار. هذه الأخيرة هي التي تقرر مسبقا بصدد ما هو قابل للفهم وما هو بخلاف ذلك فينبغي التخلي عنه وإقصاؤه. إن ما قيل في "الوجود والزمان (1927" عن الـ"هم" (الفصل : 27 و 35)(2) لم تكن الغاية منه أبدا أن يتحول هذا الموضوع إلى مساهمة في السوسيولوجيا. كما أن ضمير الـ "هم" لا يشير فقط إلى المطالبة على الصعيد الأخلاقي/الوجودي بالكينونة الحقة للشخص. إن ما قيل عن ضمير الـ "هم" يحتوي، من حيث انتماء الكلمة الأصيل للوجود، على إشارة مفكر فيها انطلاقا من السؤال عن حقيقة الوجود. إلا أن هذه الصلة تظل محتجبة مادامت تقع تحت هيمنة الذاتية التي تعرض نفسها كإشهار. ولكن عندما تصبح حقيقة الوجود وقد تذكرها الفكر، جديرة بأن يفكر فيها لذاتـها، آنذاك يصير التفكير في ماهية اللغة أيضا ملزما بأن يضمن لنفسه مكانة أخرى، فلا يسعه أبدا أن يكون مجرد فلسفة للغة. هـنا يكمن السبب الوحيد الذي من أجله يحتوي "الوجود والزمان" على إشارة إلى البعد الجوهري للغة تلامس هذا السؤال البسيط : على أي نحو من الوجود توجـد اللغة واقعيا كلغة ؟ إن اجتياح اللغة الذي طال كل الأنحاء وبوتيـرة سريعة، لا يتوقف فقط على المسؤولية ذات الطابع الجمالي والأخلاقي التي نتحملها في استعمالنا للكلام. بل يصدر عن وضع ماهية الإنسان موضع الخطر. وليست العناية البالغة التي قد نبديها في استعمالنا للغة، بدليل على أننا تخلصنا من هذا الخطر الجوهري، بل قد يكون اليوم دليلا على أننا لا نرى أبدا هذا الخطر، ولا يمكننا أن نراه لأننا لسنا بعد معرضين لبريقه. إن انحطاط اللغة الذي أصبحنا نتحدث عنه منذ وقت قريب وحتى وقت متأخر، ليس في جميع الأحوال سببا، بل نتيجة لسيرورة بموجبها خرجت اللغة شبه مرغبة تقريبا من عنصرها تحت سطوة الميتافزيقا الحديثة للذاتية. إن اللغة من حيث هي مأوى حقيقة الوجود، ما تزال تحجب عنا ماهيتها، رغم أنـها تقدم لنا نفسها في محض ما نريد وفي ممارساتنا كأداة للسيطرة على الموجود، حيث يتجلى لنا هذا الأخير نفسه في نسيج العلل والنتائج باعتباره الواقعي، فنعالجه من جانبا بـما هو كذلك ليس فقط بمواربة الحساب والممارسة، وإنما أيضا بواسطة علم وفلسفة ينهجان التفسيـر والتعليل. مع أننا نسمح لهما بدون شك، بالتخلي عن جزء مما ليس بقابل للتفسير، ونعتقد مع مثل هذه العبارات أننا في حضرة الغريب والعجائبي. كما لو كان من الممكن لحقيقة الوجود ألا تسمح لنفسها أبدا بأن تقوم على منوال العلل والأسباب المفسرة. أو وهذا نفس الشيء، على منوال عدم قابليتها للإدراك الخاصة بـها.
ولكن إذا كان على الإنسان أن يصل في يوم ما إلى الإقامة بالقرب من الوجود، فإن عليه قبل كل شيء أن يتعلم كيف يوجد فيما لا اسم له. وأن يعرف كيف يعترف بواقعة الإشهار على قدر اعترافه بضعف الوجود الخصوصي. إن عليه قبل أن ينبس ببنت شفة أن يدع نفسه أولا رهن إشارة دعوة الوجود له، وتحذيره إياه بفعل هذه الدعوة، من خطر عدم وجود ما يقوله سوى النزر اليسير، أو عدم وجود ما يقوله إلا نادرا. وحينئذ فقط يعود للكلام غنى ماهيته اللامتوقع، وللإنسان مسكنه في قلب حقيقة الوجود ليقيم فيه.
ولكن، أليس في دعوة الوجود هذه للإنسان، كما في محاولة إعداد الإنسان لـهذه الدعوة، مجهودا يهم الإنسان ذاته ؟ ما هي غاية "الـهمّ" (le souci) إذا لم تكن هي إعادة تشييد الإنسان في ماهيته ؟ هل يعني هذا شيئا آخر غير جعل الإنسان إنسانا ؟ هكذا تحظى الإنسانية بمكانتها في قلب مثل هذا الفكر، لأن النـزعة الإنسانية تقتضي ما يلي : لنفكر ونحرص على أن يكون الإنسان إنسانا لا "همجيا"، أي خارج ماهيته. والحال أين تكمـن إنسانية الإنسان ؟ إنـها تستقر في ماهيته.
كيف وانطلاقا مماذا تتحدد ماهية الإنسان ؟ إن ماركس يلح على أن "الإنسان الإنساني" تجب معرفته والاعتراف به. وقد وجد هذا الإنسان في الـ "مجتمع". إن الإنسان "الاجتماعي" بالنسبة له هو الإنسان "الطبيعي". إذ في "المجتمع" تؤمن بشكل منتظم "طبيعة" الإنسان، أي مجموع "حاجياتـه الطبيعية" (الغذاء ـ اللباس ـ إعادة الإنتاج ـ والضرورات الاقتصادية). أما المسيحي فيرى إنسانية الإنسان في تقاطعها مع الصفات الإلهية. فمن منظور تاريخ الخلاص، يكون الإنسان إنسانا باعتباره "ابن الله" الذي يبصـر نداء الأب في المسيح فيستجيب له. إنه ليس من هذا العالم مادام الـ"عالم" مفكرا فيه على نحو أفلاطوني/نظري، ليس سوى ممر عابر نحـو الماوراء. ولأول مرة تعرف فيه الإنسانية ويشار إليها صراحة بـهذا الاسـم، كان ذلك في عهد الدولة الرومانية، حيث الإنسان الإنساني يتعارض مع الإنسان "البربري". لقد كان الإنسان الإنساني هو الروماني الذي يعظم ويعلي من شأن المهارة الرومانية من خلال "إدماج" ما كان قد باشره الإغريق تحت اسم الـ"بيديا" (p a i d e ß a ) (التكوين). والإغريق هنـا، هم أناس الهلينستية المتأخرة ذات الثقافة الملقنة في المدارس الفلسفية. هذه الثقافة تختص بالتنقيـب والتأسيس في الفنون الجملية. وقد كانت (البيدييا) مفهومة على هذا النحو تترجم بالإنسانية. وفي مثل هذه الإنسانية تكمن بحق رومانية الإنسان الروماني. هكذا انعثر على أول نزعة إنسانية في روما، وبهذا تكون الإنسانية في ماهيتها تجليا رومانيا محضا صادرا عن التقاء بين الرومانية والثقافة ذات النـزعة الهلينستية المتأخرة. وما سمي بالنهضة في روما إبان القرن الرابع عشر والخامس عشر، إنما هي نـهضة ذات نـزعة رومانية. ومادام الأمر يتعلق بالنزعة الرومانية، فالمسألة تتعلق بالإنسانية، ومن ثم بالـ"بيدييا" الإغريقية. لكن الهيلنستية المقصودة هنا، هي دائما تلك المعروفة في شكلها المتأخر ذي الصبغة الرومانية تحديدا. فالإنسان الروماني لعصر النهضة يتعارض بدوره مع الإنسان البربري (اللاإنساني). والمقصود باللاإنسانـي هنا، هو تلك البربرية المزعومة للسكولائية القوطية في العصر الوسيط. لـهذا السبب نجد أن النـزعة الإنسانية في تجلياتـها التاريخية، تحتوي دائما على دراسة إنسانوية تقترن صراحة بالعهد القديم، وتقدم نفسهـا كل مـرة في شكل إحياء جديد للنـزعة الـهيلنستية. وهذا هو الشيء الذي يوقظ فينا النـزعة الإنسانية للقرن الثامن عشر، كما جسدها "وانكلمان" Wincklman، غوته Goethe، وشلير Schillea. أما هولدرلين “Holderlin”فهو على العكس من هؤلاء لا ينتمي إلى النـزعة الإنسانية، لسبب وجيه وهو أنه يفكر في قدر ماهية الإنسان بشكل أكثر أصالة مما تستطيعه هذه "النـزعة الإنسانية".
ولكن، إذا كنا نفهم من النزعة الإنسانية بصفة عامة ذلك المجهود الذي يرمي إلى جعل الإنسان حرا في إنسانية، ويخول له اكتشاف كرامته، فإن النـزعة الإنسانية ستختلف والحالة هذه حسب المفهوم الذي لنا عن "الحرية" وعن "طبيعة" الإنسان. كما ستختلف بنفس الكيفية وسائل تحقيقها. فالنزعة الإنسانية عند "ماركس" لا تقتضي أي رجوع إلى العهد القديم مثلها في ذلك مثل النـزعة الإنسانية التي يدرجها "سارتر" تحت اسم: الوجودية. والمسيحية بدورها إذا ما نظرنا إليها بالمعنى الواسع المشار إليه سابقا، تمثل أيضا نـزعة إنسانية من حيث أن كل شيء في مذهبها رهين بخلاص الروح، وإن تاريخ الإنسانية يندرج في إطار تاريخ الخلاص هذا. ومهما اختلفت هذه النـزعات الإنسانية وتعددت من حيث هدفها، أساسها، نـمطها ووسائل تحقيقها أو من خلال شكل مذهبها، فهي تتفـق مع ذلك حول هذه النقطة الجوهرية : وهي أن إنسانية الإنسان الإنساني تكون دائما محددة انطلاقا من تأويل معد سلفا للطبيعة والتاريخ والعالم وأساس العالم، أي الموجود في كليته.
كل نـزعة إنسانية تقوم على أساس ميتافزيقي أو تكون هي نفسها هذا الأساس. وكل تحديد لـماهية الإنسان يفترض مسبقا، بوعي منـه أو بدون وعي، تأويلا للموجود دون أن يطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود، يكون عبارة عن ميتافزيقا. لـهذا السبب نـجد أن كل ميتافزيقـا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الكيفية التي تحدد بـها ماهية الإنساني، تتجلى في كونـها " تنـزع منـزعا إنسانيا" (إنسانوية). وبنفس الكيفية تظل كل نـزعة إنسانية ميتافزيقية. فالنـزعة الإنسانية في تحديـدها لإنسانية الإنسان، لا تكتفي فقط بعدم طرحها للسؤال عن علاقة الوجود بماهية هذا الأخير، وإنما تحول أكثر من ذلك دون طرحه متجاهلة إياه. والسبب في ذلك أنـها تضرب بجذورها في الميتافزيقا. هذا في حين أن الضرورة والشكل الخاص بـهذا السؤال الذي يروم حقيقة الوجود ـ وهو سؤال منسي في الميتافزيقا وبسببها ـ لا يمكنه أن يرى النور إلا إذا طرحنا في خضم الميتافزيقا ذاتـها هذا السؤال: "ماهي الميتافزيقا؟". بل أكثر من ذلك أن على كل سؤال بصدد الـ "وجود"، وحتى ذلك الذي يروم حقيقة الوجود، أن يقدم نفسه منذ البداية كسؤال ميتافزيقي.
إن أو لنـزعة إنسانية، وأعني بـها تلك الخاصة بروما، وباقي أنواع النـزعات الإنسانية التي تلاحقت منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا، يفترضن جميعا الـ "ماهية" الأكثر شمولية للإنسانية كبداهة. لقد اعتبر الإنسان حيوانا عاقلا. وهذا التحديد ليس فقط ترجمة لاتينية للكلمات الإغريقية التالية (x y o n l o g o n x c o n ) بل تأويلا ميتافزيقيا. وكل تحديد من هذا القبيل لماهية الإنسان لا يكون خاطئا بل مشروطا بالميتافزيقا. وما اعتبره "الوجود والزمان" جديرا بالسؤال، ليس فقط هو حدود هذا التأويل وإنما مصدره الأساسي كذلك. إن ما هو جدير بأن يوضع موضع سؤال، بـدل تركه تحت رحمة الفعل الهدام لنـزعة فارغة، قد أنيط بالفكر باعتباره ما ينبغي له هو نفسه أن يفكر فيه.
صحيح أن الميتافزيقا تتمثل الموجود في وجوده، وبذلك فهي تفكر في وجود الموجود. ولكنها لا تفكر في الاختلاف بين الوجود والموجود. (في ماهية السبب 1929 ص 8) (كانط ومشكلة الميتافزيقا. 1929، ص 225): (الوجود والزمان، ص 230). إن الميتافزيقا لا تطرح السؤال بصدد حقيقة الوجود نفسه، لهذا السبب فهي لا تتساءل ابدا عن الكيفية التي من خلالها تنتمي ماهية الإنسان إلى حقيقة الوجود. فهذا السؤال ليس فقط لم تطرحـه الميتافزيقا بعد، وإنما ليس في متناولها كميتافزيقا. إن الوجود ينتظـر دائما من الإنسان أن يتذكره باعتباره ما هو جدير بأن يفكر فيه.
بالنظر إلى هذا التحديد الماهوي للإنسان، سواء أحددنا عقلانية الحيوان أو عقل الكائن الحي كـ"ملكة مبادئ" أو كـ"ملكة مقولات" أو بأي كيفية أخرى، فإن ماهية العقل تتأسس دائما وفي كل جوابـها على ما يلي: بالنسبة لكل إدراك للموجود وفهم له في كينونته، يكون الوجود نفسه قد أضيء مسبقا وحصل في حقيقته. وبنفس الكيفية يقتضي مسبقا مصطلح "حيوان" ( x y o n ) تأويلا للـ "حياة" يستند بالضرورة على تأويل للموجود كبدن ( x w Þ ) وكفيزيس ( ö ý ü i V ) بداخلهما يظهر الكائن الحي. ولكن يبقى علينا من جهة أخرى أن نتساءل قبل كل شيء، ومن وجهة نظر أصيلة تقرر مسبقا بصدد كل شيء، هل ما إذا كانت ماهية الإنسان تكمن في بعد الحيوانية ؟ وبصفة عامة، هل نحن على الطريق الصحيح عندما نحدد الإنسان وطالما بقينا نحدده ككائن حي معارضين إياه بالنبات وبالحيوان وبالله ؟ بإمكاننا أن نسلك هذا النهج. وباستطاعتنا على هذا النحو أن نـموقع الإنسان داخل الموجود كموجود بين الموجودات الأخرى، فيكون بإمكاننا دائما أن نصدر في حقه عبارات صائبة. ولكن علينا أن نفهم جيدا أننا بـهذا ندفع بالإنسان إلى المجال الماهوي للحيوانية حتى وإن كنا نخصه باختلاف جوهري لنبتعد عن مماهاته بالحيوان. إذ مبدئيا سنفكر دائما في الإنسان الحيواني حتى وإن افترضنا أن هذا الحيوان حي وعاقل، واعتبرناه بعد ذلك ذاتا أو شخصا أو روحا. ومثل هذا الموقف هو ما تتوخاه الميتافزيقا. لكنه تقدير فقير جدا لماهية الإنسان، مادام لم يفكر فيها من خلال مصدر حصولـها؛ ذلك المصدر الماهوي الذي يظل باستمرار بالنسبة للإنسانية التاريخية المستقبل الأساسي.
إن الميتافزيقا تفكر في الإنسان انطلاقا من الحيوانية، لكنها لا تفكر باتجاه إنسانيته. إن الميتافزيقا تصدر عن أبسط معطى أساسي، وهو كون الإنسان لا يبسط في ماهيته إلا من حيث هو مدعو من طرف الوجود. إذ انطلاقا من دعوة الوجود هذه له ومطالبته به، أنوجد هناك حيث تقيم ماهيته. وانطلاقا من هذه الإقامة "كانت له" اللغة كمأوى يحرس لماهيته خاصيتها الدهولية اللدنية(3). وما ادعوه بالانوجاد هو المكوث في نور الوجود وانفتاحه. إنه كيفية تخص الإنسان وحده. ولهذا فالانوجاد من حيث هو كذلك ليس فقط أساس إمكانية العقل، بل هو الذي فيه ومن خلاله ترعى ماهية الإنسان مصدر حصولها وتحديدها.