تقديم
أولى ميشيل فوكو اهتماما خاصا بسؤال العلاقة بين الذات والحقيقة، دفعته إلى الرجوع إلى الروحية المسيحية في مرحلة عرفت تطور المؤسسات الرهبانية، وظهور قواعد حياة جديدة، تعزى أساسا إلى هجرة مجموعة من المبادئ من الأوساط الوثنية إلى الفكر والممارسة المسيحيين، وخاصة ما تعلّق بنظام الأفروديسيات. يشير فوكو إلى اهتمامه بالذات والحقيقة والتحول إلى النفس عند المسيحيين عندما لاحظ في إطار اشتغاله حول تاريخ الجنس، العلاقة الموجودة، بين أشكال التحريم في مجال الجنس وضرورة قول الحقيقة عن الذات. ما أخذه آباء الكنيسة الأوائل من الفلاسفة الوثنيين هو مفاهيمهم عن قواعد الحياة، وخاصة تدبير اللذة (le régime des aphrodisia) كما يمكن تلقّيه داخل فكر مسيحي مشغول بمسائل الزواج وعلاقته بالعلاقات الجنسية والإنجاب وكبح الشهوة (la continence) (1). إن بحث ميشيل فوكو في الذات والحقيقة وقواعد الحياة عند المسيحيين، يأتي في سياق تفحصه للطريقة التي تؤسس بها الذات نفسها عبر سلسلة من التقنيات الذاتية، وتحليله الجينيالوجي لتكون الذات تاريخيا والتي لها نزعة أن تصبح في نفس الآن"أنطولوجيا تاريخية لذواتنا" بتعبير فوكو. قاد هذا البحث إلى التساؤل حول مفهومي الإتصال والإنفصال بين الأخلاق الوثنية والأخلاق المسحية، وخصوصية نمط الوجود المسيحي، وأشكال التحول إلى النفس وقول الحقيقة في شأنها والإهتمام بها.
1-هجرة مبدأ الإهتمام بالذات والتحول إلى النفس في المسيحية
طرح ميشيل فوكو في كتابه "استعمال اللذات" سؤالا محوريا حول مفهومي الإتصال والإنفصال بين أنواع الأخلاق الفلسفية للعصور القديمة والأخلاق المسيحية، وتساءل عن التاريخية المعقدة والغنية في كيفية دعوة الفرد إلى اكتشاف نفسه كذات أخلاقية للسلوك الجنسي. وانطلاقا من مفهوم "استعمال اللذات" (chrèsis Aphrodision) الشائع آنذاك في الثقافة اليونانية، سينظر فوكو في الطريقة التي أعدّ بها الفكر الطبي والفلسفي، والتي صاغ بها بعض الموضوعات التزهدية التي ستكرر حول أربعة محاور للتجربة هي: العلاقة بالجسد، العلاقة بالزوجة، العلاقة بالغلمان، والعلاقة بالحقيقة(2). ففي هذه الأنواع من العلاقات، ثمة أشكلة للسلوك الجنسي لرجل مهتم بنفسه، مع وجود مشكلة أخلاقية في كيفية ممارسة اللذات. في ظل هذه الظروف، ستتطور أشكال من التزهد والروحانية(3)؛ كممارسات وتجارب تتضمن معايير وقواعد وقوانين سلوكية تشدد على العلاقة بالنفس.
يربط فوكو بين الإهتمام بالنفس والإنعتاق من الزواج (أي العزوبية) كلحمة وسداة بالنسبة للتنسك والرهبنة المسيحية(4). ويشير إلى الكتاب الثامن لغريغوريوس النيصصي Grégoire de Nysse الذي يحمل عنوان "في أن اهتمامك بالنفس إنعتاق وتحرر وخلاص من الزواج"، كشكل أول وتفكير أولي ومدخل إلى تأمل حياة الرهبنة والزهد(5). إن هذا التفكير في مبدإ "الإهتمام بالذات" كان له معنى إيجابي، كما تشكلت انطلاقا منه الاخلاق الاكثر زهدا والأكثر صرامة والأكثر تقييدا التي عرفها الغرب والتي ينبغي ألا نحيلها إلى المسيحية –يؤكد فوكو- وإنما يجب إحالتها أكثر إلى أخلاق القرون الأولى قبل عصرنا (أي إلى الأخلاق الرواقية والكلبية وإلى حد ما الأخلاق الأبيقورية)(6). فهذه الأخلاق الأخيرة ستظهر من جديد في صورة الأخلاق المسيحية، وسيتم تنشيطها من جديد، وسنجدها منقولة ومحوّلة داخل سياق أخلاق عامة غير أنانية (...)، في شكل مسيحي قائم على واجب التنكر للنفس والزهد(7).
يرى فوكو أن الأفكار الأخلاقية في العصور القديمة اليونانية أو اليونانية-الرومانية كانت أكثر توجّها بكثير نحو المران الذاتي pratique de soi)) ومسألة التزهّد(Askesis) منها نحو قوننة (Codification) التصرفات والتحديد الدقيق للمسموح والممنوع، كما سيظهر لاحقا في المسيحية. وهنا وجب التفريق بين أخلاق موجهة نحو "الآداب" (والتي لا تتطابق بالضرورة مع أخلاق ما يسمى الإمتناع التزهّدي)، وأخلاق موجهة نحو "القانون". لكن من المفيد جدا تقصّي التقاربات والتآلفات والخصومات والصراعات بين أخلاق وثنية يونانية – رومانية تدعو إلى معرفة النفس والإتيان بممارسات تسمح بتغيير نمط الوجود، و"أخلاق" مسيحية اقتبست عناصر قانونية للأخلاق الوثنية(8)، وأضافت قواعد أخلاقية جديدة من ابتكار آباء الكنيسة والمرشدين الدينيين والمفكرين الأخلاقيين المسيحيين.
يوضح ميشيل فوكو العلاقة التي ربطت بين مفهوم التحول إلى النفس في النموذج المسيحي وفي النموذج الهلينستي بقوله:"هذا النموذج الهلنستي، المتمركز حول التحقيق الغائي للعلاقة بالنفس، للتحول نحو النفس، كان رغم كل شيء الوسط والمكان الذي شكل أخلاق استقبلتها وورثتها المسيحية، وقامت بتوطينها وإعدادها من أجل أن تقوم بما أصبحنا نسميه خطأ "الأخلاق المسيحية"(9)، والتي ارتبطت تحديدا وفي الوقت نفسه بتفسير النفس. إن الأخلاق التقشفية للنموذج الهلنستي قد تم أخذها واستعمالها بواسطة تقنيات النفس المحددة من قبل التفسير والتخلص والتخلي عن النفس الخاصة بالنموذج المسيحي(10). ستعطي المسيحية الإمتياز للأخلاق التقشفية الصارمة والمقيدة التي نمت وتطورت داخل النموذج الهلنستي، وستقوم باستيطانها واستعمالها، ثم تبيئتها وإعدادها وخدمتها بتطبيقات وممارسات. هذه التطبيقات والممارسات هي بالتحديد تلك المتعلقة بتفسير الذات والتخلي عنها(11).
لا يمكن إذن، الفصل بين التحول إلى النفس في المسيحية والإرث الهلنستي وخاصة اليوناني المتعلق بالحمية والجنس والتمارين الرياضية. فقد فهم بورفيري Porphyre (234-305م) هدف الفلسفة بأنه ذلك التأمل في روح الحقيقة الإلهية أيضا بمثابة عملية توحّد مع الإله. إن استخدامه للإستعارة الرياضية:"الذهاب عراة، من دون رداء، إلى مدارج الألعاب الرياضية ليتنافسا في أولمبياد الروح" في كلمته لمن أهداه كتاب "عن التعفّف" On Abstinence، ومن خلاله لجمهور قرائه، يعظم كلا من الهدف والفيلسوف الذي حقق الهدف؛ فقد منحت الصورة المستخدمة مهابة الإنتصار لهذا الأخير في أكثر الالعاب الإغريقية شهرة، ومنحته أيضا بعضا من النفوذ الروحاني للمنتصر. اتخذت هذه الإستعارة منحى أبعد من ذلك، لتصور هذا الهدف بأنه ثمرة التدريب الصارم (في الزهد اليوناني)، مقارنة مع حمية الطعام والتعفف الجنسي وتمارين اللاعب الرياضي العاري. كما أنها بمثابة استعارة مثالية بالقدر الذي كان على الفيلسوف فيه تجريد ذهنه من الهموم والإنفعالات المتعددة، التي من شأنها تشتيت ذهنه من خلال علاقتها مع الجسد(...). وكان هذا المجاز في محلّه، حيث اعتقد فورفوريوس أن التدريب المنضبط والصارم من شأنه تسهيل عملية التامل المنشود بين أمور أخرى، وهو ممارسة يومية للتعفّف الزهدي في أمور الغذاء، والنشاط الجنسي، والثروة، والتفاعل الإجتماعي الأوسع، وهي جميعها عناصر تشكل الإنعزال التام عن الأمور المادية والفانية(12).
يمكن أن نستخلص من هجرة مبدإ الإنهمام بالذات والتحول إلى النفس في العصر الهلينستي إلى الثقافة المسيحية، تبلور تفكير أخلاقي يهم النشاط الجنسي ولذات الجسد مدعّم بموضوعات التقشف والقلق إزاء الممارسات الجنسية وتفضيل "البتولة" على استعمال اللذات. فمنذ زمن بعيد جدا، كان الإهتمام بالجسد والصحة، والعلاقة مع المرأة والزواج، والعلاقة مع الغلمان دوافع لتكوين أخلاق متشددة. وبشكل من الأشكال، فإن التقشف الجنسي الذي نجده عند فلاسفة القرون الأولى من عصرنا يرسخ في هذا التقليد القديم، أقله بقدر ما ينبئ بأخلاق مستقبلية(13). تلك الاخلاق التي ستدعمها المسيحية وتجري عليها تعديلات تمثّلت أساسا في تكثيف شكل القانون، وتحريف ممارسات الذات، باتجاه تأويلية الذات وفك رموزها باعتبارها ذاتا للرغبة(14). وهنا وجب أخذ احتياطات لازمة لتمييز الأمر الأخلاقي والفصل بين أخلاق العصور القديمة التي كانت موجهة نحو الإيتيقا واعتبرت ممارسة تعكس أسلوبا للحرية، والأخلاق المسيحية التي كانت موجهة نحو القاعدة والقانون وشكلت تحريضا على إنكار النفس ومحو الذات.
2- إحراجات الخطيئة ومفهوم الإعتراف عند المسيحيين وإرادة التخلي عن النفس
شكلت فلسفة وأخلاق العالم الإغريقي والروماني أرضية خصبة لانطلاق تجربة أخلاقية مسيحية ذات خصائص مميزة. فالريبة إزاء اللذات، والتشديد على آثار الإسراف فيها على النفس والجسد، وتثمين الزواج والواجبات الزوجية التي طورها اليونان والرومان أثمرت علاقة أخرى للذات بذاتها وبالحقيقة، وعلاقة معيّنة بين الشر والحق، بين المغفرة عن الخطايا، وتطهير القلب والكشف عن الذنوب المخفية للفرد وعن أسراره وأغواره، عند مراجعة النفس وفي الإعتراف بالذنب (l’aveu) وفي توجيه الضمير أو الأشكال المختلفة من اعتراف (confession) التوبة(15). كل هذه الأفكار والتمارين والممارسات المسيحية تطورت في ظل نوع من الحياة المطلوبة والمتميّزة بالقناعة والتقشّف وبساطة العيش، وتجنب حب الشرف والشهرة و"العمل التجاري الدنيوي"(16)، وفي ظل سعي حثيت نحو النقاء والقداسة من أجل تحقيق الإستيعاب التأملي لله، يقول فورفوريوس:"بالقدر الذي يكون فيه أب الجميع أكثر بساطة، وأكثر نقاء، وأكثر قناعة، فإنه يربأ بنفسه ويترفع عن التأثير الذي تحدثه المادة، فإن على من يسعى إلى التقرب منه أن يتمتع بالنقاء والورع (katharos te kai hagnos ) في جميع المناحي، بدءا بالجسد وانتهاء بالروح، بحيث يعطي كل عضو من أعضائه، أو جميعها، القداسة (hagneia) التي يتمتع بها كل عضو من أعضائه بالفطرة"(17).
تشكل إذن، هذه الأفكار والممارسات والتمارين مدخلا ضروريا لما سماه فوكو ب"إنكار النفس" و"التخلي عن النفس"، وهذا ما توضحه فكرة "التوبة" وطقس "الإعتراف":
- ف"التوبة" و"التكفير عن الذنب" عند المسيحيين يعني التغيّر الجذري للفكر والروح؛ فالأمر يتعلق بتحول وهداية ناتجة عن حدث فريد ووحيد ومفاجئ سواء كان حدثا تاريخيا أو ميتاتاريخي، يقلب ويحول دفعة واحدة نمط وجود الذات (...)، [وبالتالي] الإنتقال من نمط وجودي إلى نمط وجودي آخر، من الموت إلى الحياة، ومن الفناء إلى الخلود، ومن الظلمة إلى النور، ومن سيادة الشيطان إلى سيادة الإله(18). لكن في هذا التحول وفي هذه التوبة والهداية، هنالك قطيعة داخل الذات نفسها. لإن النفس التي تتوب وتهتدي هي نفس تتخلى عن نفسها: التخلي عن النفس والولادة في نفس أخرى وحياة أخرى وفي شكل جديد ليس له علاقة بكينونته ووجوده، ولا في نمط وجوده وكينونته، ولا في عاداته، ولا في خلقه مع النفس السابقة، وهذا بالضبط ما يشكل أحد العناصر الأساسية للتوبة والهداية المسيحية(19). وانطلاقا من هذا الشكل الجديد للعلاقة بالنفس، ستتطور نوع من الأخلاق ينزع نحو إنكار النفس ومحو الذات(20).
- أما "الإعتراف" فيقصد به هذا القول الذي يصدر عن الموجّه، على اعتبار أن عليه أن ينتج خطابا حقيقيا حول ذاته، موجها إلى الآخر(المرشد أو المعترف له...) على الموجه أن يتخذ من نفسه مرجعا لخطاب حقيقي وأن يكشف للآخر، الذي يظل (...) أساسا صامتا، ما يملكه من رغبات وأفكار إلخ(21). ليس المطلوب فقط قول الحقيقة، بل قول الحقيقة بخصوصه هو، وبخصوص أخطائه ورغباته وحالته النفسية. إن الإعتراف ك"شهادة إيمان" ضروري للمسيحي الذي ليست الحقائق المكشوفة والملقنة بالنسبة إليه مجرّد مسألة معتقدات يسلّم به، بل إنها التزامات يلتزم بها – الإلتزام بالحفاظ على معتقداته وقبول السلطة التي تمنحها الشرعية، وبالمجاهرة بها علنيّا عند الإقتضاء والإمتثال لها(22).
يشير فيليب شوفالييه Philippe Chevalierإلى التطورات التي سيخضع لها مفهوم الإعتراف، خاصة مع شريعة "التعميد"، واجتهادات الكتاب المسيحيين كهرماس Hermas و ترتليانوس Tertullien:
- حسب هرماس، الإنسان الذي يخضع للتعميد، تنزل عليه روح الله، فتهبه معرفة بالحقيقة تكون نورانية وقطعية، وتطهره من ذنوبه(23). لكن الشخص المعمّد هو من يمكنه دوما، حتى لو تلقّى (استلهم) الحقيقة بجمالها ورونقها خلال التعميد، أن يقع مرة أخرى في الخطيئة. فإذا قبلنا بإمكانية السقوط للمرة الثانية، فمن اللازم علينا أن نمنح المعمّد فرصة ثانية للخلاص. وهذا ما سيتم شرعنته بدءا من القرن الثالث باسم: "الثوبة الثانية". (...) وإذا كانت هذه التوبة، باعتبارها فرصة أخرى للخلاص، تمنح للذين أذنبوا مرة أخرى، فهي ما يسمح بإمكانية الإندماج الكلي في الكنيسة، وهي مع ذلك ما لا يقبل التكرار. إن التوبة الثانية تيقى حدثا فريدا مثل التعميد، وإن لم تكن تجديدا له، فهي على الأقل إحياء لذكراه، إنها حدث يمنح للمؤمن المذنب وضعا جديدا لمدة محددة. بحيث على هذا الأخير أن يقوم بنوع من الإعتراف " une exomologése" (اشتقت هذه اللفظة من كلمة إغريقية تُترجم لاثينيا كذلك ب"اعتراف" confessio)، حتى ينال الصفح بصفة نهائية؛ أي أن عليه أن يكشف للعموم أنه مذنب(24). إن الإكزومولوجيس هو طقس خاص قبل المصالحة، يتعلق الامر فيه بتعبير مأساوي وتركيبي يعترف المذنب من خلاله أمام الجميع بأنه مذنب؛ ويثبت هذا الإعتراف في تظاهرة تربطه بجلاء بحالته كمذنب وتهيء خلاصه في آن واحد(25).
ومقابل اعتراف التوبة الثانية، سوف يبرز في القرن الموالي نموذجا آخر، نموذج أكثر سرية وصمتا، إنه نموذج "الإكزاغوروزيس" (l’exagoreusis) الخاص بحياة الرهبان؛ وهو عبارة عن طقس سيظل لوقت طويل حبيس الفضاء المغلق للأديرة. أما "الإكزاغوروزيس" فتعني الحوار الدائم مع الذات حول كل أفعالها، لكن أساسا حول كل فكرة من أفكارها، التي يجب للمُعترف أن يعجّل بالإفصاح عنها على نحو انفرادي لرئيسه ومديريه(26).
- بعد مرور بضعة عقود من بعد "هرماس"، دافع "ترتليانوس" بدوره عن "فرصة خلاص أخرى". لكن لا يمكن الإستفادة من هذه الفرصة دونما بذل مجهود كبير: إذ يلزم التائب أن يفصح عن حسن نيّته أولا، أي أن عليه أن يُدلي ببراهين وحجج تكشف عن رغبنه حق في التوبة (...). يجب على التوبة أن تؤلم زيادة. وهذه الزيادة "ce plus" سنحصل عليها بفعل الإظهار؛ إذ بإظهار توبتنا للآخر إنما نُظهر ذواتنا بكل ما تحمله من حقيقة:"(...) وها هنا تتجلى الوظيفة المزدوجة للتوبة: أن نُهيئ وأن نُؤمن الطريق التي تؤدي نحو الحقيقة، وأن نظهر أو نكشف بشكل من الأشكال لنظرة الله العمودية، الله الذي يرى كل شيء ويراقبنا على الدوام، وأن نكشف له عن حقيقة من نكونه"(27).
يجب التشديد على أن الهدف من هذا الجهر بالحقيقة ليس التمكّن من التحكّم في النفس؛ بل إن ما ينتظر تحقيقه على العكس من ذلك؛ هو الخضوع وإماتة الجسد، ثم الإنفصال بالنسبة إلى الذات وتكوين علاقة خاصة بها تنزع إلى هدم شكلها(28). هكذا ستتطور مع القرون الأولى للمسيحية أخلاق سوف تحدد طرائق أخرى للعلاقة مع الذات: تمييز للجوهر الأخلاقي، انطلاقا من التناهي والسقوط والشر؛ نمط من الإخضاع في شكل الطاعة لقانون عام، هو في الوقت نفسه مشيئة إله شخصي؛ طراز من العناية بالذات ينطوي على الكشف عن خبايا النفس والتأويل التطهيري للرغبات؛ وطريقة لبلوغ الكمال الأخلاقي تنزع إلى نكران الذات(29).
3- العلاقة بين الذات والحقيقة في المسيحية
ينبه ميشيل فوكو إلى الكيفية المعقدة التي تربط معرفة النفس ومعرفة الحقيقة في المسيحية، كما نجدها في نص الوحي؛ وأن معرفة النفس هذه قد تورطت، وبالتالي عليها أن (30) تتطهّر، وعلى القلب أن يتطهر حتى يفهم الكلمة، وأنه لا يمكن أن يتطهر إلا بمعرفة النفس، وأنه يجب أن تكون الكلمة قد استُقبلت حتى يمكن الشروع في تطهير القلب، وبالتالي الشروع في معرفة النفس. إنها علاقة دائرية في المحصلة ما بين معرفة النفس ومعرفة الحقيقة والإهتمام بالنفس(31). في هذه العلاقة الدائرية ترتسم مجموعة من المهمات تتعلق ب:
- الذات: عليها أن تمتلك تقنيات وتطبيقات وممارسات لمعرفة النفس هدفها تبديد وإزالة الأوهام الداخلية، والإعتراف بالوساوس والإغواء الذي يتكون في النفس والقلب، وإبطال الغواية التي يمكن أن تكون النفس ضحيتها. وكل هذا يتم بواسطة طريقة في الكشف والتحليل للعمليات والحركات السرية التي تحدث وتتم في القلب، حيث يجب تعيين وتحديد أصلها وهدفها وشكلها، أي ضرورة تفسيرها للنفس(32)، والكشف عن طبيعة الحركات الداخلية التي تحدث في الروح.
- الوحي: تستمد منه الذات حقائقها.
-العودة إلى إلنفس: تتأسس هذه العودة في المسيحية على التخلي والتخلص وإنكار النفس بشكل أساسي وجوهري.
إن العلاقة ما بين الذات والوحي والعودة إلى النفس تقوم على التضحية الدائمة من قبل النفس وإنكار النفس والخضوع لنسق من القواعد، في الوقت ذاته، أصبح قول الحق يتحدد بالوحي أساسا وانطلاقا من النص [المقدس] ومن علاقة بالإيمان(33). وبات قول الحق على النفس أو ذات النفس شرطا للخلاص، وقول الحق على النفس أصبح مبدأ أساسيا في علاقة الذات بنفسها، وقول الحق على ذات النفس أضحى عنصرا أساسيا لانتماء الفرد إلى جماعة معينة(34).
هكذا أخذ تتبلور مع القرون الأولى للمسيحية نموذج آخر من التجربة و"ذاتية جديدة"،
يقول فوكو:"إن الأمر يتعلق فعلا بشكل الذاتية: تمرين النفس على النفس، معرفة النفس بنفسها، تشكيل أنفسنا كموضوع للتفتيش وللخطاب، تحرير النفس وتطهيرها، والخلاص عبر عمليات تجلب النور إلى أعماق النفس، وتقود الأسرار الأشد عمقا إلى نور التجلي الغفور. إن ما تبلور عندئد هو شكل من التجربة - علينا أن نفهمها في كرة واحدة بوصفها نمطا من الحضور لدى أنفسنا وخطاطة عن تغيير أنفسنا. وإن هذه التجربة هي التي عملت شيئا فشيئا على أن تضع مشكل "الجسد (la chair)" في مركز عتادها. وبدلا من امتلاك نظام للعلاقات الجنسية، أو للأفروديسيات، يندمج في القاعدة العامة لحياة مستقيمة، فإن ما سوف يتم الحصول عليه هو علاقة أساسية مع الجسد تخترق الحياة برمتها وتسند القواعد التي نفرضها عليها"(35).
يكشف تتبع طقسي التوبة والإعتراف عن العلاقة بين الذاتية والحقيقة، وعن ذلك الإلزام بأن تقول الذات الحقيقة على نفسها، وإقامة علاقة مع الحقيقة حتى تجد الخلاص. فالإعتراف هو طلب المغفرة والعفو من الآلهة والقضاة. إنه مساعدة تُسدى إلى طبيب الروح، وذلك بإعطائه عناصر التشخيص. أن تظهر التقدم في ما تقوم به، وذلك بالشجاعة التي تملكها في الإعتراف بالخطإ، (...). إن الذات المُنقادة في الروحانية المسيحية هي التي يجب أن تكون حاضرة داخل الخطاب الحقيقي باعتبارها موضوعا لخطابها الحقيقي. يجب أن يكون خطاب المنقاد مرجعا لمنطوقه: وهذا هو تعريف "الإعتراف"(36). يمثل طقسي التوبة والإعتراف امتحانا للضمير، وواجب التصريح بكل شيء عن نزعات التفكير، والطاعة بشكل لامشروط والتي ينبغي عليها أن تكون في شكل خضوع، علاقة دائمة بالنفس وبالآخرين(37). يتعلق الأمر إذن في الإعتراف بالتعبير من خلال الكلمات عن "خفايا" الضمير بصورة مستمرة.
يشير فوكو إلى اختلاف امتحان الضمير عن ذلك الذي كان يطالب به في المدارس الفلسفية في العصور القديمة. إنه بلا ريب يضم مثله شكلين كبيرين: التأمل المسائي في اليوم المنقضي ثم مراقبة النفس بشكل دائم. إن هذا المشكل الثاني خصوصا هو الشكل الهام في الرهبنة كما يصف ذلك كاسين Cassien. فإجراءاته تبين جيدا أن الأمر لا يتعلق بتحديد ما يجب فعله لكي لا يقترف المرء خطأ فيما أمكن فعله. ويتعلق الأمر بالمسك بحركة التفكير (cogitati=logismos) وتفحصّها كليا لإدراك مصدرها والكشف عن منبعا (أكان من الله، أو من النفس أو من الشيطان) وإجراء فرز(38). وبصفة خاصة يتم "الفرز" الذي يمثل هدف من أهداف الإمتحان عن طريق المجاهرة، بفضل أولية الخجل الثلاثية التي تمنع صياغة كل فكرة سيئة، والتحقيق المادي عبر الكلمات المنطوقة لما يخطر في النفس وإثارة الحياء إزاء تعارض الشيطان (الذي يُغوي ويخدع مختفيا في طيات النفس) مع النور الذي يكشف ذلك(39).
4- التحول إلى النفس و"فن العيش بطريقة مسيحية": تأكيد للحياة أم نفي لها.
يربط ميشيل فوكو تطور مفهوم التحول إلى النفس في المسيحية بتطور مخطط التوبة، والتي تنتظم حول التضحية بالنفس والتخلي عنها وإنكارها والإنقلاب المفاجئ والمأساوي لكينونة الذات(40)، والذي يتخذ شكل قطيعة وتغيّر داخل النفس.
من أهم الإجراءات المسيحية التي تأسس عليها مفهوم التحول إلى النفس، ذلك النداء المسيحي والرهباني الذي أتى في صورة نصيحة الحذر التي تترجمها عدة وصايا مثل:
- انتبه إلى كل الصور والتمثلات والتصورات التي تنفذ إلى الروح.
- لا تتوقف عن اختبار كل حركة تحدث في قلبك.
- حاول أن تفك رموزها وعلاماتها وآثار غوايتها.
- حاول أن تحدد ما إذا كان الذي ينفذ إلى روحك قد أوحى به الله أم الشيطان. أو أكثر من هذا: ألا يوجد أثر للشهوة في الأفكار التي تنفذ إلى فكرك وروحك، وتبدو وكأنها صافية وخالصة؟(41).
إن الأخذ بهذه الوصايا وتمثلها وممارستها، يؤدي إلى تكوين ما سماه فوكو ب"الداخلية المسيحية" كنمط خاص من العلاقة مع النفس، ينطوي على أشكال معينة من التيقظ والريبة، والكشف، وتحرير المحاضر، والإعتراف، والإتهام الذاتي، ومقاومة الإغراءات، والتخلي، والصراع الروحي، إلخ(42). كما يساعد المؤمن المسيحي إلى بلوغ الحياة الأخرى، أي بلوغ النور والحقيقة والخلاص. ولا نستطيع بلوغ الخلاص إذا لم نتخلص [من أنفسنا] ولم نرفض أنفسنا(43). في عملية الرفض والإنكار والتخلي هذه، تترابط معرفة النفس ومعرفة الحقيقة والإهتمام بالنفس في علاقة دائرية. فإذا أردنا أن نحصل على الخلاص، فإنه يجب استقبال الحقيقة والتسليم بها: الحقيقة المعطاة لنا في النص، والمتجلية في الوحي. ومع ذلك فإنك لا تستطيع معرفة هذه الحقيقة إذا لم تهتم بنفسك في شكل معرفة تطهرية للقلب. وأن هذه المعرفة التطهرية لذات النفس غير ممكنة إلا بشرط أن تكون لديك علاقة أساسية بالحقيقة، أي حقيقة النص وحقيقة الوحي(44).
تبين تجربة ميشيل فوكو وهو يواكب الثورة الإيرانية ويكتب عن المسيحية أواخر السبعينات وبداية الثمانينات من القرن العشرين، وصوله إلى الباب المسدود، ويتضح ذلك من خلال مستويين:
- المستوى الأول: يتعلق بجوهر المسيحية التي تقدم نفسها كديانة محبة وخلاص، لكن فوكو بعد قيامه بتحليل وتفسير نصوص بعض آباء الكنسية في القرون الأولى بعد ميلاد المسيح، استخلص التعامل الإرتكاسي مع الحقيقة والذات والحياة. فالممارسة المسيحية تفرض ضرورة استقبال الحقيقة والتسليم بها، وإنكار الذات والتخلص منها، ونفي الحياة(45).
- المستوى الثاني: يتعلق برهان فوكو على الفلسفة الهلنستية والرومانية(46)، بعد هجرته للفكرة التي تقول بإمكانية خلق الدين ل"إرادة سياسية"، واعتباره الدين "روح العالم"(47).
كيف يمكن إذن تفسير دفاع فوكو عن "فن عيش بطريقة مسيحية"، في الوقت الذي يؤكد فيه على إنكار النفس والتخلي عنها في هذا النمط من علاقة النفس بنفسها؟
5- ملاحظات على هامش موضوعة التحول إلى النفس عند فوكو
إن الخلاصات التي توصل إليها فوكو بخصوص جوهر المسيحية، دفعته إلى الإهتمام أكثر بالنموذج الهلنستي والروماني في التحول إلى النفس. هكذا انتصر للرغبة في بناء "ذاتية جديدة" وإبداع فن للعيش وجمالية في الوجود، وبالتالي الإشادة بموضوعة التحول إلى النفس على الطريقة الهلنستية والرومانية، واستبعاد الطريقة المسيحية. لكن هذا الإنتصار أثار تساؤلات حول:
-أولا: طبيعة أخلاق اليونان نفسها والتي كانت أخلاق مجتمع ذكوري(ذكور أحرار)، حيث كانت النساء "مضطهدات". فقد كانت الأخلاق الجنسية، (...)، ترتكز على نظام قاس من التفاوتات والقيود (خصوصا بشأن النساء والعبيد).
-ثانيا: المشكل الذي يطرحه حب الغلمان، ك"أمر طبيعي"، وكرغبة في الجسد(الدور الانثوي الذي يساق إليه الغلام) أو الروح(اختبار تجربة القلب)، والذي فرض الإحترام الواجب لرجولة المراهق ولوضعه المستقبلي كرجل حر. وازدواجية التعامل مع الغلمان حسب الموقع الإجتماعي، (...). كان أرباب العائلات يريدون فرض احترام السلطة التي يمارسونها على أبنائهم؛ وقانون سكانتينيا(Scantini) الشهير، الذي لم يكن يمنع اللواط - كما أثبت ذلك بوزويل Boswell))- كان يحمي المراهق حر النسب مع التعسف والعنف. من جهة أخرى، وبناء عليه طبعا، كان حب الغلمان يمارس بخاصة مع العبيد الصغار، الذي لا مجال للقلق بشأن وضعهم. ويقول فاين ( Paul Veyne) بهذا الصدد:"في روما، كان يستبدل الفتى حر النسب بالعبد".
-ثالثا: الوضعية الإجتماعية للعبيد والاجانب، والتي تطرح إحراجات حقيقية، في عالم يسعى فيه البعض إلى "حماية كرامة البشر"(48).
أطرح أيضا على هامش موضوعة التحول إلى النفس، الجهد الذي يبدله بعض المثقفين والأساتذة والكتاب الصحفيين شمال وجنوب شرق حوض البحر الأبيض المتوسط لإقناع شريحة من المتعلّمين والقرّاء والطموحين بإصلاح وتجديد الدين وضرورة العودة إلى المسيحية (وكذا إلى البوذية وديانات أخرى...) للبحث عن وصفات علاجية لأزمات "عصر الحداثة وما بعدها" وأمراض الإنسانية.
في هذه العودة، ترتسم رغبات الحصول على السعادة والطمأنينة والسلام وتحقيق الديمقراطية وحقوق الإنسان، لكن دون مساءلة دور النظام الرأسمالي وإيديولوجيته الليبرالية في الوصول إلى حالة التدهور الشامل للوجود الإنساني. لهذا لن نندهش للإرتهان الإرادي للشرط السياسي والإقتصادي والإجتماعي والديني والفكري الذي يسم اللحظة الراهنة مع تلك المداعبة اللطيفة ل"الفضائل الكبرى" les grands vertus وللحياة والعيش بحرية؛ بطريقة "تقليدية" أو "حداثية". في ظل هذا الشرط التاريخي، نلحظ عودة انتقائية إلى مذاهب وتيارات فكرية ودينية وروحية وفلسفية تستجيب للحاضر، مع اهتمام كبير بالدعوة إلى تجديد الدين وإصلاحه والرغبة في تحويله إلى "إرادة سياسية"(49)، أو إلى "إرادة روحية" عبر الدعوة إلى ترميم ذلك "العنصر الإبراهيمي" الذي بات اليوم متفجّرا، وجمع شتات المنتمين إلى الأديان الكبرى الثلاث تحت راية "الديانة الإبراهيمية" بحثا عن أواصر السلام المشتركة روحيا(50).
إن البحث في "الهويات العميقة" والرغبة في خلق تسويات من خلال "تحرر مختلف التعبيرات" ومنه "التحرر الروحي" كأعلى رتبة، والبحث في إمكانية التآلف بين الحكمة الشرقية والفلسفة الغربية قد أفرز "تركيبا نظريا هجينا" لا يمس جوهر الصراعات الحالية في ظل تغوّل الرأسمالية.
فهل بإمكان العودة إلى الهويات الدينية تقديم حلول مناسبة لمشاكل العالم والإنسان؟
خاتمة
تزامن اهتمام ميشيل فوكو بالمسيحية في أحد جوانبه بالاثر الذي خلفته الثورة الدينية الإيرانية، وباهتمام خاص بروحانيات الشرق (فنون الزن). لكن هذا الإهتمام كان مخترقا بأبحاثه حول المعرفة والسلطة، وحول الذات والحقيقة والحرية ونماذج الحياة الإيجابية. ففي خضم الثورة الإيرانية، أصبح مطلب التغيير رهانا جذريا، وخاصة تغيير النفس(51)، في حين فرض تشعّب البحث حول المعرفة والسلطة وحول التجربة الأخلاقية للجنسانية العودة إلى القرون الأولى للمسيحية وإلى الحقبة الإغريقية والرومانية. في ظل هذه الظروف، أخذت تتشكل لدى فوكو صورة عن الوجود مع العالم تعكس "الحياة بوصفها عملا فنيا".
استخلص فوكو من التجربة الإيرانية التحكم العجيب للدين في الناس، والمكانة التي احتلها دائما مقارنة بالسلطة السياسية، بل اعتبر الدين بحق الكلمة، والطقس، والمأساة اللاتاريخية، التي يمكننا أن نحل بداخلها المأساة التاريخية لشعب جعل وجوده في تأرجح مع وجود ملكه(52).
تحت تأثير هذه الظروف، تحوّل فوكو إلى الإهتمام بالطريقة الجديدة التي أرستها المسيحية فيما يخص العلاقة مع النفس، وإجراءات امتحان النفوس وممارسة الإعتراف. لكن نظرته إلى النموذج المسيحي ستتغيّر بعد تركه لمخطوط "اعترافات الجسد" غير مكتمل، وتوجيه اهتمامه إلى التجربة اليونانية-الرومانية، والنموذج الهلنستي الذي سيمنحه أهمية قصوى في إعداد فن للحياة tecknê tou biou مبني على القيمة المركزية للتحول إلى النفس وتكوينها باعتبارها هدفا يجب بلوغه وتحقيقه.
الهوامش:
1- فتحي المسكيني: فتحي المسكيني: جنسانية المؤمن أو فوكو واعترافات الجسد المسيحي"، موقع مؤمنون بلا حدود، 17 ماي 2018.
2- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ترجمة جورج أبي صالح، مركز الإنماء القومي، بيروت-لبنان، 1991، ص25.
3- يقول ميشيل فوكو في تعريفه للروحانية:"نستطيع إطلاق تسمية الروحانية على البحث والممارسة والتجربة التي من خلالها تقوم الذات بعملية حول نفسها وبالتحولات الضرورية التي تجريها، من أجل بلوغ الحقيقة. نسمي إذن ب"الروحانية" مجموع هذه البحوث والممارسات والتجارب التي يمكنها أن تكون تطهيرا وتزكية وتقشفا وتنسكا وتحولا في النظرة وتغيّرا في الوجود، ليس بالنسبة للمعرفة وإنما بالنسبة للذات، وبالنسبة لكينونة الذات نفسها، الثمن الذي يجب أن تدفعه الذات لكي تقترب من الحقيقة"، ميشيل فوكو: تأويل الذات، دروس ألقيت في "الكوليج دو فرانس" لسنة 1981-1982، ترجمة وتقديم وتعليق د.الزواوي بغوره، دار الطليعة-بيروت، الطبعة الأولى، يناير 2011، ص24.
4- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص19.
5- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص19.
"بعد ثمانية قرون، يظهر مفهوم الepimelia heautou نفسه لاعبا دورا له نفس الأهمية عند غريغوريوس النيصي Grégoire de Nysse. إنه يطلق على هذه العبارة على المبادرة التي يتم من خلالها التخلي عن الزواج والتجرّد من الشهوة والعثور بفضل بتولة القلب والجسد على الخلود الذي جُردنا منه. في مقطع آخر من (مقالة البتولة) يجعل من الإستعارة والحكميّة للدرهم الضائع مثالا للإنهمام بالذات: إذا ضاع درهم يجب إشعال المصباح وتفتيش كامل البيت واستكشاف كل الزوايا إلى أن ترى قطعة المعدن تلمع في العتمة، كذلك علينا أن نفعل لكي نعثر على الصور التي رسمها الله في روحنا والتي غطاها الجسد بالدنس، إذ يجب "الإعتناء بالنفس" وإشعال نور العقل واستكشاف كل زوايا الروح"، دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ترجمة محمد ميلاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1994، ص78.
6- ميشيل فوكو: تأويل الذات، دروس ألقيت في "الكوليج دو فرانس" لسنة 1981-1982، ترجمة وتقديم وتعليق د.الزواوي بغوره، دار الطليعة-بيروت، الطبعة الأولى، يناير 2011، ص22.
7- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص22.
يشير ليوتين زانتاLéotine Zanta إلى "اللقاء الذي جمع بين الرواقية والمسيحية؛ بمعنى بين فلسفتين هما أساسا أخلاقيتين ودينيتين، في بداية القرون الأولى للعصر المسيحي"،
- Léotine Zanta : La renaissance du Stoicisme au 16e siècle, Librairie ancienne honoré champion, Paris, 1914, p10 , 11.
8- يقول فوكو بصدد مقصد القوانين الوثنية: "إذا استثنينا [ محاورتي] "الجمهوية" و"القوانين"، فلن نقع إلا على إشارات قليلة جدا إلى مبدإ قانون يحدّد بالتفصيل السلوك الواجب اتّباعه، وإلى ضرورة وجود مرتبة سلطوية مكلفة بمراقبة تطبيقه، وإلى إمكانية وضع عقوبات تجازي المخالفة المرتكبة. حتى ولو كان هناك في كثير من الاحيان تشديد على ضرورة احترام القانون والأعراف -Nomoi- فإن العنصر المهم لم يكن في مضمون القانون وشروط تطبيقه بقدرما كان في الموقف الذي يجعل الناس تحترمها"، ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص24.
9- يعلق فوكو على خطإ تسمية "الأخلاق المسيحية" بتأكيده على أن "المسيحية مثل كل الديانات ليست أخلاقا. المسيحية ديانة على كل حال إنما من دون أخلاق"، ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص244.
10- ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص244.
11- ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص244.
يشير ميشيل فوكو إلى أن المسيحية تتهم، عموما، بأنها عوّضت نمطا حياتيا إغريقيا رومانيا متسامحا، بشكل كاف، بنمط حياتي تقشفي يتميز بسلسلة من التخليات والتحريمات والممنوعات. لكن يمكن أن نلاحظ أن الشعوب القديمة، في هذا النشاط التي تمارسه الذات على نفسها، قد طوّرت عددا من ممارسات التقشف التي أخذها المسيحيون عنها مباشرة.ميشيل فوكو (يحاوره: هوبير دريفوس وبول رابيناو): بصدد نسابة فلسفة الأخلاق (نظرة عن عمل قيد الإنجاز)، ميشيل فوكو: هم الحقيقة ، ترجمة محمد المسناوي مصطفى كمال ومحمد بولعيش، ، منشورات الإختلاف، الطبعة الجزائرية الأولى، 2006، ص87.
12- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي - الروماني، ترجمة علي للو وناجح شاهين، هيئة أبو ظبي للثقافة والتراث، أبو ظبي، 2012، ص21 و22.
13- ميشيل فوكو: الإنهمام بالذات، ص161.
14- ميشيل فوكو: هم الحقيقة، حوار فوكو مع فرانسوا إيوالد، ترجمة مصطفى المسناوي- مصطفى كمال- محمد بولعيش، منشورات اختلاف، الطبعة الأولى، 2006، ص108.
15- فتحي المسكيني: جنسانية المؤمن أو فوكو واعترافات الجسد المسيحي.
16- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي – الروماني، ص23.
17- ريتشارد فين: الزهد في العالم الإغريقي – الروماني، ص23.
18- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص204.
19- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص204.
20- كانت التوبة تمثل حالة يدخل فيها المرء إثر إجراء طقوس ما، وتتم (أحيانا على فراش الموت) بعد تأدية مجموعة أخرى من الطقوس. ويؤدي التائب بين هاتين اللحظتين الإعتراف بأخطائه عبر الإماتة والتقشف و ونمط العيش واللباس وموقف الندم الواضح - باختصار عبر درامية كاملة لا يقوم فيها التعبير الشفاهي بالدور الأساسي، ويبدو فيها جليا غياب كل بيان تحليلي للأخطاء من حيث خصوصيتها. دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ص68.
21- محمد ازويته: ميشيل فوكو: الإنهمام بالذات، جمالية الوجود وجرأة قول الحقيقة، أفريقيا الشرق، المغرب، 2015، ص94و95.
22- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ترجمة محمد ميلاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء-المغرب، الطبعة الأولى، 1994، ص68.
23- فيليب شوفاليي: ميشال فوكو ومفهوم الذات المسيحي، ترجمة حسن أوزال، موقع مؤمنون بلا حدود، 10 ديسمبر 2014.
24- فيليب شوفاليي: ميشال فوكو ومفهوم الذات المسيحي.
25- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ص68.
26- فيليب شوفالييه: ميشال فوكو ومفهوم الذات المسيحي.
27- فيليب شوفالييه: ميشال فوكو ومفهوم الذات المسيحي.
28- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ترجمة محمد ميلاد، ص70.
29- ميشيل فوكو: الإنهمام بالذات، ص163.
إن الكمال الأخلاقي في المسيحية يهدف إلى "توجيه الأفراد للعمل على "استماتة" أنفسهم، في هذا العالم. وبطبيعة الحال، فإن الإستماتة ليست الموت.، وإنما التخلي عن هذا العالم، وعن النفس بالذات: إنها نوعا من الموت اليومي. إنها الموت الذي يهب الحياة في عالم آخر". ميشيل فوكو: المفرد والجمع، نقد العقل السياسي، موقع حكمة، 5 يونيو 2015.
30- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص241.
31- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص242.
32- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص242.
33- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص306.
يقول فوكو:" شكلت المسيحية، مع النص الديني وفكرة إرادة الله، مبدأ انقياد وامتثال، ... [وهكذا] أخذت الأخلاق كثيرا شكل قانون للقواعد الأخلاقية". جمالية الوجود، حوار مع ميشيل فوكو. المرجع؟؟؟؟
34- ميشيل فوكو: تاريخ الجنسانية، الإنهمام بالذات، الجزء الثالث، ترجمة جورج أبي صالح، مراجعة مطاع صفدي، مركز الإنماء القومي، 1992، ص163.
35- فتحي المسكيني: جنسانية المؤمن أو فوكو واعترافات الجسد المسيحي.
36- تاويل ص382 و343.
37- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ص69.
38- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ص69.
39- دروس ميشيل فوكو 1970-1982، ص70.
40- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص208 و209.
41- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص210.
42- ميشيل فوكو: استعمال اللذات، ص46.
43- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص236.
44- ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص242.
45- سنلمس تغيّرا في موقف فوكو من "الأخلاق المسيحية" ومفهوم التحول إلى النفس. وهنا نميز بين الفترة التي كتب فيها فوكو درس "حكومة الأحياء" (درس1979-1980)، والذي أدى إلى كتابة مخطوط "اعترافات الجسد" (Les Aveux de la Chair) (الجزء الرابع من تاريخ الجنسانية). وفيه يظهر فوكو حماسته للنموذج المسيحي ول"تكوين تجربة جديدة" تدور حول "تقنيات الذات" و"البكارة" و"الزواج". تم تليها مرحلة اهتمام فوكو بالتجربة اليونانية-الرومانية، وموضوعات "استخدام اللذات" و"الإهتمام بالذات" و"حكم الذات والآخرين" و "الذاتية والحقيقة" و"شجاعة قول الحقيقة"...، والتي راهن عليها فوكو للفوز ب"ذاتية جديدة".
في التجربة اليونانية-الرومانية، أظهر فوكو رغبة قوية في إرساء "فن عيش" أو "إستيطيقا للوجود"، مستلهما النموذج الهلنستي المبني على أولوية التحول إلى النفس والعناية بها. في حين كان رهانه الفلسفي وهو يتناول التجربة المسيحية، رسم "شكل الذاتية" (forme de la subjectivité) باعتباره شكلا يتميز بعلاقة جديدة للنفس بنفسها، ألا وهي العلاقة بالجسد(فتحي المسكيني: جنسانية المؤمن أو فوكو واعترافات الجسد المسيحي، مؤمنون بلا حدود، 17 مايو 2018). إن قطب الرحى في أبحاث فوكو -يقول فتحي المسكيني- هي هنا على الدوام رصد "قواعد الحياة" (les règles de vie) لأن ما يجمع بين المسيحي والوثني هو بالضبط فن تدبير الحياة، ولا شيء آخر. والرهان هو: العثور على "شكل الوجود" (forme d'existence)؛ أي ما سماه الرواقيون "kathêkinta": جملة "السلوكات الملائمة"، من أجل عيش حياة أبدية فاضلة، وذلك هو معنى "الإيمان" عند المسيحيين الأوائل. الإيمان هو نوع من قواعد الحياة (une règle de vie) وليس أي شيء آخر(فتحي المسكيني: جنسانية المؤمن أو فوكو واعترافات الجسد المسيحي، مؤمنون بلا حدود، 17 مايو 2018).
46- يميّز ميشيل فوكو بين التحول إلى النفس في المسيحية، والتحول إلى النفس في الفكر اليوناني والروماني (التحول الفلسفي) عند إبقتاتوس وماركوس أورليوس وسنيكا وأفلاطين؛ والذي يعني القيام بالإستدارة نحو ذات النفس، اعتمادا على تصور "مبني" للتحول. إنه بالأحرى نوع من المخطط العملي، مخطط عملي له بالطبع بناؤه الصارم(ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص200). إنه تصور فلسفي مبني على تحرير من داخل النفس وهذا هو المحور المحايث؛ إنه تحرير بالنسبة لما لسنا فيه أسيادا وإلى ما سنصير فيه أسيادا، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى هذه الميزة الأخرى للتحول الهلنستي والروماني: إنه لا يتخذ مسلك وهيئة ومظهر التحرر من الجسد، ولكن يفضي بالأحرى إلى إقامة وتأسيس علاقة كاملة ومنجزة ومطابقة للنفس مع النفس حتى يتم التحول(ميشيل فوكو: تاويل الذات، ص203).
ففي هذا التحول وجب التأكيد على القطيعة من أجل النفس، وقطيعة حول النفس، وقطيعة في صالح النفس أو من أجل النفس [مقابل القطيعة في النفس أو داخل النفس في المسيحية]. إن الفلسفة تجعل الذات تدور حول نفسها، كما تحول النظر إلى النفس من أجل ملاحظتها ومراجعتها وتدريبها كما يؤكد ماركوس أورليوس، والعودة إليها وتغييرها وتحريرها. فالتحول الفلسفي عملية طويلة تهدف إلى تأسيس علاقة تطابقية وتامة بين النفس والنفس، وذلك من خلال جعل النفس هدف وغاية، يطلق عليها فوكو التذويت الذاتي auto-subjectivité، في حين يطلق على التحول المسيحي التذويت العابر trans-subjectivité(ميشيل فوكو: تأويل الذات، ص207).
47- يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى حوار فوكو مع كلير بريير، والمنشور تحت عناون :"روح عالم بلا روح" ضمن كتاب:" فوكو صحافيا: أقوال وكتابات"، ص127 وما بعدها.
48- ادريس شرود: مفهوم "الإهتمام بالنفس" وأسئلة الحاضر: رهان فوكو على الفلسفة الهلينستية، موقع أنفاس من أجل الثقافة والإنسان، 2 أغسطس 2017.
49- من اللازم الإشارة هنا إلى موقف ميشيل فوكو الثورة الإيرانية والدين الإسلامي والشخصيات الإسلامية:
- بالنسبة للثورة الإيرانية: اعتبر أحداث "الثورة الإيرانية" فرصة لإدخال بعد روحي إلى الحياة السياسية، يقول:"إنني لأشعر بالحرج حينما أتحدث عن الحكم الإسلامي باعتباره "فكرة" بل وحتى "نموذجا"، بل أعجبني بما هو "إرادة سياسية"، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، ص51.
- بالنسبة للإسلام، يقول فوكو:"الإسلام الذي ليس مجرّد دين فحسب، بل نمط حياة وانتماء لتاريخ معين وحضارة معينة"، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، ص152. ويزيد:"...، وعليه فلنقل إن الإسلام لم يكن في تلك السنة 1978 أفيون الشعوب، بالضبط لأنه كان روح عالم لا روح له"، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، ص135.
- بالنسبة للشخصيات الإسلامية، يقول عن علي شريعتي:"أعجبني في جهده الرامي إلى تسييس بنيات اجتماعية ودينية لا ينفصل بعضها عن بعض استجابة لبعض المشكلات الراهنة. وقد أعجبني أيضا في محاولته لفتح بعد روحي في السياسة"، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، ص52.
50- فتحي المسكيني: الإبراهميون والعدم؛ السيرة الخفية للإستخلاف -1- ، مؤمنون بلا حدود، 3 يوليو 2018.
حين يبحث فتحي المسكيني عن القاسم المشترك العميق الذي يجمع بين الإبراهيميين، فهو لا يجده في الحياة، بل في عنصري "الموت" و"العدم" الذي يعتبر أخطر اختراع روحي نجح الإبراهيميون فيه و صارت بفضله سردية "التوحيد" ممكنة، وحتى التمييز بين الحضارات لا يربطه المسكيني بالحياة، بل بحسب ما تتوافر عليه من اختراعات روحية حول تجربة الموت، باعتبارها بؤرة المعنى الخلفية في كل ثقافة (نفس المرجع أعلاه). ويمكن الإعتراض على هذا الموقف، باستحضار الحضارة اليونانية، مع فيلسوفها الكبير أبيقورEpicure الذي اعتبر الموت لاشيء، ودعا إلى عدم الخوف منه ومن الآلهة.
فهل ستساعدنا دعوة المسكيني إلى التأريخ لفكرة العدم و"الخلق من عدم" ولإصلاح تصور تجربة الموت عند الإبراهميين على تجاوز ذلك التبرير الميتافيزيقي لعلاقتنا بأنفسنا وبالعالم؟.
51- يقول فوكو:"يجب علينا أن نغيّر هؤلاء الموظفين الفاسدين، يجب علينا أن نغير كل شيء في هذا البلد: النظام السياسي والنظام الإقتصادي والسياسة الخارجية. لكن على الأخص يجب علينا تغيير أنفسنا (التشديد مني)"، فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، ص135.
52- فوكو صحافيا: أقوال وكتابات، ص131.