لا أحد يعلم ماالذي جعل مرجانة تسدُ نوافذ البيت ؟ سدّتها جميعها إلا فوهة الباب وكوّة صغيرة في السقف تعدُ عبر ضوئها الشحيح طعامها وترتبُ أشياءها وترتقُ أثوابها وما كانت لتستعين بأحد في ذلك بل خلطت بنفسها الطين والقش والماء وقطع الزجاج والصفيح ورصّفت الحجر في النوافذ ثم طلته بحرص شديد ووقفت ترقبُ أن يجف البناء وهشت الصبيان لئلا يعبثوا بجهدها . لم تكن مرجانة كثيرة الكلام ولا كانت تستسيغ هذر الآخرين لذك لم تر موجبا لشرح ما أقدمت عليه, ولكن زوجة إبنها التي كانت تسكنُ غير بعيد عنها ذكرت أنها ترى ما لا يُرى وأن عينها كعين الحية لذلك كانت تُبصرُ في الظلام وتنقي القمح من الحصى والدنيا غبش وتعد نقودها وتعين الإبرة دون مصباح. بل ذهبت إلى أكثر من ذلك فاتهمتها بالسّحر والشيطنة وإلا ما حاجتها إلى الحرابي تلك التي كانت تجمعها ؟وما حكاية القطة السوداء التي تلازمها كظلها وما نصبها الفخاخ في الخرائب القبلية لاصطياد ذكر البوم ,؟ وما هذا البخور الحارّ الذي يصدرُ كل مساء من بيتها فيُعمي العيون ويحرقُ الحناجر ؟
ولم تكتف زوجة الإبن بذلك بل أضافت أنّ مرجانة تتعامل مع جنّي إسمه بلاّر وتحبسه في صندوق أثوابها وتبعثه إذا نام النّاس الى كلّ ما تحتاجه فيحتال لها على المال والمصوغ والسّكر واللّحم حتّى إذا عاد ضربته لإبطائه على رأسه الى أن يتطاير منه الشرر وتعيده الى الصّندوق بعد أن تلعقه الملح ولا تعطيه ماء أبدا لأنّه إن شرب فإنه سيتخلّص من سحرها وينقلب عليها . لكنّ النسوة لا يصدّقن شيئا من خرافاتها بل تعتبره بعضهنّ من باب الافتراء لا غير لأن مرجانة لم تمكّن إبنها من ميراث أبيه وقالت يكون له ذلك بعد موتي لهذا كرهتها زوجته وحقدت عليها وباتت تلفّق حولها الحكايا والأباطيل، إذ كيف لمن كانت تسيطر على جنّي أن تخزّن كلّ هذا الدقيق والتمر والسّمن ولماذا تراها تجفّف البقول وتجمع الحطب بل إنها فكّرت أن تدخل معها الى قعر البيت إوزّاتها البيّاضات وعنزاتها البيضاوات ؟ أما كان للجنّي أن يرفع عنها كلّ هذه الكلف ؟ لكن مرجانة لم تقدم بعد على استدعاء حيواناتها الى داخل الدّار والخطب لم يحلّ بعد ،ومازالت غادية رائحة جامعة مانعة تسرح كالنملةكامل اليوم وتعود محمّلة بالقش والشعير وأكواز الذرة وما لا يخطر على بال أحد، وتجسّ بإصبعها الحجرالمطيّن تتفقّد صلابته ولا تعدم أن ترصّ طوبة هنا أوحصاة هناك تمتّن بها الجدارحتى لا ينفذ عبره أحد وتضمن لنفسها السّلامة إذا أزف البلاء العظيم .
تجلس مرجانة إذا دار الظلّ أمام دارها بعد أن تكنس السّاحة وترشها بالماء وتبسط النطع وتتربّع , مهراسها بيمينها وغربالها بشمالها تغزل " الطّعمة " لشتاء متلفّع بالغموض وترفع بصرها بين الحين والحين الى السّماء وهي مقطّبة تتأمّل ما يأتي به السّحاب . تقول لجارها الأسود الذي يصل متعبا ويتهالك قربها على التراب
ـ ألا ترى ما أرى من أشكال السّحب ؟ انظر يا أعمى, أليست سحليات تلك وثعابين وسلاحف في حجم الغيلان؟ انظرأرجلها وأفواهها وعيونها, حدّق ألا ترى كيف تتململ وتنذر بالهلاك القريب؟ثمّ الا ترى كتل الجمر المتوقّدة في الغيم الأسود؟ أو تظنها من الشمس تلك؟ لا يا أبله إ نها حمم ستقذف شواظها عن قريب ، ألا تسمع معي هذا الأزيز البعيد وهذا الصرير وهذه الدمدمة ؟لو كان رعدا كان وصل الينا سحابه ولو كان زلزالا لدكّت الأرض علينا وما انتظرت كلّ هذا الوقت ألم أخبركم ان خطبا يتربّص بكم وكم نصحتكم فما انتصحتم وكم أمرتكم ان تتزوّدوا بما يفيدكم لئلاّ تبيدوا عن آخركم فما أصغى الي أحد وظننتم أن بي خرفا فلتذهبوا الى الجحيم إذن !
يجلس الأسود مرتعشا الى جوار مرجانة ، ذاك دأبه منذ عرفها يعتريه ارتعاش في قلبه بمجرد أن يراها ولو ما زال على شهوته لخيّل إليه أنه يعشقها ، ولكنها تأسره على نحو يشبه العشق .
يمدّ ساقيه المعروقتين المعفّرتين بالتراب ويرتاح عند بابها مستمتعا بحديثها وبرنين مغزلها في المهراس ويظلّ ببصره الكليل يتابع قطعان السحاب محاولا قراءة ما تقرؤه مرجانة فلا يفلح فيحوّل بصره صاغرا مستفسرا ليريح نظره فوق وجه مليح عتيق بسمرة كالخزف المحمي ّتوشيه زخارف وشم من وقت غابروقد التفت حية خضراء فوق الذقن الذي بدأت تكسوه التجاعيد.
ـ قلت ثعابين وغيلان أجل . هي غيلان وثعابين ولكني لا أسمع الأزيزالذي تسمعين فسمعي ضعيف كما تعلمين ولكنه رعد على كلّ حال.
تضع مرجانة بين يديه بضع حبات من التين الجاف مغموسة في الزيت
وتصرخ في وجهه :
ـ كل , كل يا رجل ستكون اوّل من يلتهمه الثعبان .
يقبل الأسود على الحبات يمتصّها بتلذذ وهدوء ، هو لا يستطيع أن يجمع شيئا ممّا جمعته مرجانة وهو محتار من أين تأتي بكلّ هذه الأ شياء ولا يستطيع أن يسدّ نوافذ بيته ولو سدّها فإنّ جدرانه هشة وهي تسقط بضربة كفّ واحدة فماله وهذا العناء وليستمتع بحديث مرجانة وتكهناتها وما تجود عليه من الطيبات .
*****
يخرج بلاّر متسلّلا من ثقب المفتاح ويمشي على أطراف أصابعه حتى يصل الى العتبة .يتوقف لاهثا ,يلمح مرجانة وهي تمدّ خيوط الصوف مترنّمة بصوت أحمر فيصيبه الفرق تلمحه مرجانة فترفع في وجهه نعلها
فيأتيها متسحّبا خانعا ضارعا، تصيح المرأة حانقة :
ـ يا جنيّ , يا غدّاريا ناريّ اللّحم ألم آمرك بأن تظلّ في الصندوق ريثما أمكنك من فسحة الليل.
يضطرب بلاّر، يظهر ذلك من الغبار الثائر أمام النطع لا أحد يبصر بلاّر غير مرجانة طبعا فهي التي روّضته وسجنته في قمقمها. يتخبّط امامها طلبا للصّفح يرسل صريراحادّا كالجدجد يلتفت الأسود فزعا يسأل عن مصدر الصوت .
تسأله مرجانة إن كان سمع شيئا فيردّ متلجلجا :
ـ شيئ يمزق شغاف اذني؟
تعلّق مرجانة :
ـ طبعا تسمع ذلك ولا تسمع هزيم الرّعد البعيد هو صوتهم الذي يفوق أصواتنا أضعافا ، صوت النار لا صوت الطين يا مسكين.
يمطّ الأسود شفتيه مستمرئا ما بقي من حلاوة التين. لا يفهم الشيء الكثير في حضرة مرجانة لكنه لا يستوعب المكان إذا خلا منها.تقبض مرجانة على بلار من عنقه النحيل ينكمش حتى يصير في حجم الجعل يستحلفها أن لا تضربه على رأسه.
ـ غفرت لك هذه المرّة ,لكن إياك أن تفغلها ثانية أنا أعرف أنك تبحث عن الماء أيها الشقيّ .
تمسكه بحذر تربطه بخيط من خيوط حزامها وتعلّقه في الخلال الفضيّ الذي يعلو صدرها فيظلّ متأرجحا كالمشنوق لا حيلة له.
تواصل مرجانة غزل الصّوف وهي تلعن بلاّر وأهله والأسود يصيخ بأذنه اليمنى مرّة وباليسرى مرّة فلا يفقه من الأمر شيئا .
****
تقفز زوجة إبنها وتقف غير بعيد عنها مسرّة لبعض جاراتها وهي تشير إليها :
ـألم أخبركنّ أنها أفعى إذ كيف لها أن تميز خيط الصّوف الأسود في الظلام الدامس إلا ان تكون مبصرة بغيرها وما صحبتها مع هذا الأسود إلا صحبة سوء إنها دون شكّ تستخدمه في بعض الأعمال التي لا ينفع فيها الا عبد أسود أو ديك أسود أو خروف بلا علامة ، حتى زوجي لم يسلم من أعمالها ,يأخذاللّحمة السمينة من امامي ويجري بها اليها وينام عند الليل متوسّدا محرمتها ولايحلف الا بإسمها .
*****
تقول مرجانة للأسود عندما تلتقيه في الصباح وهو يجدّ السير الى البحر
ـأنا خلّصت ذمّتي منكم وانا بريئة من ذنوبكم جميعا , نصحتكم بأن تسدّوا جميع النوافذ والكوى وأن لا تبقوا الا فوهة الباب تصلكم بالعالم الخارجي وأن تجمعوا مايمكن أن يكون لكم فيه سند عند وعون عند الحاجة حتى إذا حلّ البلاء العظيم انكفأ كلّ في جحره وأغلق عليه فوهة بابه فلا يطاله الأذى وأنا جمعت ما لا يمكن أن يشاركني فيه أحد حتى إبني لأنه لا يملك أن يتخلّص من حربائه تلك وإني أرى الأفاعي والسحالي السامة زاحفة على أرضكم ومبيدة زرعكم وقاطعة نسلكم وإني أكاد أرى الجبل ينهار والرّعد يهزم ويأتيكم بمطر أسود كالويل .
يريح الأسود عينيه المجعدتين عتى سماحة وجهها ويكشّر عندما يحطّ
نظره على أفعى ذقنها ويجدّ في السير وهو يقول:
ـ لو عدت المساء قبل حلول الخطب , أعدّي لي من ذلك التين.
*****
رفع بلاّر سقف الصندوق بحذر فارتفع ، ماكان من عادة مرجانة أن تترك الصندوق مفتوحا .تسلل بخفة إلى الخارج ، اختفى تحت الغربال وظل يتلصّص من خلال ثقوبه أحس بخطوها فانكمش ، لا يمكن أن تلمحه والغرفة مظلمة لكنه كان يرى كل تفاصيل جسمها ويبصر حركاتها حركة حركة:أجفانها، نفسها وهو يعلو ويهبط ، تلمط شفتيها. هناك عند الجرة وقبضة الصوف لفتها ورصتها في الزاوية عند أكياس المؤونة ورأى المفتاح يتارجح في الخلال في نفس المكان الذي شنقته فيه ذاك المساء.ستكون مطمئنة مادام المفتاح يتدلى على صدرها وهي متوهمة ان بلار في الصندوق .تمددت مرجانة.رصت الوسادة جيدا تحت رأسها، بدأ النوم يراودها، لاحظ حركة هدبيها وهي تهدأ قليلا قليـلا .
رفع الغربال وتسلل الى الخارج ، حلقه ملتهب وشفتاه مشققتان كالسبخة.زحف إلى الجرة زحفا وهو يحاذر أن يحدث ما يريب نوم مرجانة .وصل إلى الماء تسلق الجرة ثم نزل فيها فاتحا فمه . لم يعد يهمه إن كان أحدث سقوطه فيها شقشقة.شرب بكل ما أوتي من عطش ، شرب إلى أن لعق لسانه قعر الجرة ثم هب واقفا كالسياط ورأسه يلامس سقف الحجرة. لم تكن مرجانة واعية ن فكر أن يحرقها أو أن يشنقها كما فعلت به ذاك المساء لكنه لم يفعل ثم خطرت بباله فكرة.
***
خرج من البيت ووقف في الباحة ثم جعل ينادي الحجر فينصاع إليه مستجيبا من كل صوب ثم أمر الحجرات أن تسد فوهة الباب ففعلت في الحين وأشار باصبعه نحو الباب فانسد بصفع قاس لا تنفع معه المعاول ولا الفؤوس ثم طار في الظلام.
***
جاء الأسود في الصباح وطاف حول البيت فهاله ما رأى ، قال في نفسه مستاء.فعلتها مرجانة الخبيثة ، حصنت نفسها ولم تأبه لأمري .أما كان لها أن تخبئني معها والكارثة قادمة، هي تعلم أني يتيم إذا غابت ، وبمن تراي أستجير وسمعي لا يدرك الرعد إذا اقترب ؟
نظر إلى السماء فرأى مزيدا من السحالي والأفاعي والغيلان .نزع خفه وهرع يجري مستجيرا بالبحر.
تجلس مرجانة إذا دار الظلّ أمام دارها بعد أن تكنس السّاحة وترشها بالماء وتبسط النطع وتتربّع , مهراسها بيمينها وغربالها بشمالها تغزل " الطّعمة " لشتاء متلفّع بالغموض وترفع بصرها بين الحين والحين الى السّماء وهي مقطّبة تتأمّل ما يأتي به السّحاب . تقول لجارها الأسود الذي يصل متعبا ويتهالك قربها على التراب
ـ ألا ترى ما أرى من أشكال السّحب ؟ انظر يا أعمى, أليست سحليات تلك وثعابين وسلاحف في حجم الغيلان؟ انظرأرجلها وأفواهها وعيونها, حدّق ألا ترى كيف تتململ وتنذر بالهلاك القريب؟ثمّ الا ترى كتل الجمر المتوقّدة في الغيم الأسود؟ أو تظنها من الشمس تلك؟ لا يا أبله إ نها حمم ستقذف شواظها عن قريب ، ألا تسمع معي هذا الأزيز البعيد وهذا الصرير وهذه الدمدمة ؟لو كان رعدا كان وصل الينا سحابه ولو كان زلزالا لدكّت الأرض علينا وما انتظرت كلّ هذا الوقت ألم أخبركم ان خطبا يتربّص بكم وكم نصحتكم فما انتصحتم وكم أمرتكم ان تتزوّدوا بما يفيدكم لئلاّ تبيدوا عن آخركم فما أصغى الي أحد وظننتم أن بي خرفا فلتذهبوا الى الجحيم إذن !
يجلس الأسود مرتعشا الى جوار مرجانة ، ذاك دأبه منذ عرفها يعتريه ارتعاش في قلبه بمجرد أن يراها ولو ما زال على شهوته لخيّل إليه أنه يعشقها ، ولكنها تأسره على نحو يشبه العشق .
يمدّ ساقيه المعروقتين المعفّرتين بالتراب ويرتاح عند بابها مستمتعا بحديثها وبرنين مغزلها في المهراس ويظلّ ببصره الكليل يتابع قطعان السحاب محاولا قراءة ما تقرؤه مرجانة فلا يفلح فيحوّل بصره صاغرا مستفسرا ليريح نظره فوق وجه مليح عتيق بسمرة كالخزف المحمي ّتوشيه زخارف وشم من وقت غابروقد التفت حية خضراء فوق الذقن الذي بدأت تكسوه التجاعيد.
ـ قلت ثعابين وغيلان أجل . هي غيلان وثعابين ولكني لا أسمع الأزيزالذي تسمعين فسمعي ضعيف كما تعلمين ولكنه رعد على كلّ حال.
تضع مرجانة بين يديه بضع حبات من التين الجاف مغموسة في الزيت
وتصرخ في وجهه :
ـ كل , كل يا رجل ستكون اوّل من يلتهمه الثعبان .
يقبل الأسود على الحبات يمتصّها بتلذذ وهدوء ، هو لا يستطيع أن يجمع شيئا ممّا جمعته مرجانة وهو محتار من أين تأتي بكلّ هذه الأ شياء ولا يستطيع أن يسدّ نوافذ بيته ولو سدّها فإنّ جدرانه هشة وهي تسقط بضربة كفّ واحدة فماله وهذا العناء وليستمتع بحديث مرجانة وتكهناتها وما تجود عليه من الطيبات .
*****
يخرج بلاّر متسلّلا من ثقب المفتاح ويمشي على أطراف أصابعه حتى يصل الى العتبة .يتوقف لاهثا ,يلمح مرجانة وهي تمدّ خيوط الصوف مترنّمة بصوت أحمر فيصيبه الفرق تلمحه مرجانة فترفع في وجهه نعلها
فيأتيها متسحّبا خانعا ضارعا، تصيح المرأة حانقة :
ـ يا جنيّ , يا غدّاريا ناريّ اللّحم ألم آمرك بأن تظلّ في الصندوق ريثما أمكنك من فسحة الليل.
يضطرب بلاّر، يظهر ذلك من الغبار الثائر أمام النطع لا أحد يبصر بلاّر غير مرجانة طبعا فهي التي روّضته وسجنته في قمقمها. يتخبّط امامها طلبا للصّفح يرسل صريراحادّا كالجدجد يلتفت الأسود فزعا يسأل عن مصدر الصوت .
تسأله مرجانة إن كان سمع شيئا فيردّ متلجلجا :
ـ شيئ يمزق شغاف اذني؟
تعلّق مرجانة :
ـ طبعا تسمع ذلك ولا تسمع هزيم الرّعد البعيد هو صوتهم الذي يفوق أصواتنا أضعافا ، صوت النار لا صوت الطين يا مسكين.
يمطّ الأسود شفتيه مستمرئا ما بقي من حلاوة التين. لا يفهم الشيء الكثير في حضرة مرجانة لكنه لا يستوعب المكان إذا خلا منها.تقبض مرجانة على بلار من عنقه النحيل ينكمش حتى يصير في حجم الجعل يستحلفها أن لا تضربه على رأسه.
ـ غفرت لك هذه المرّة ,لكن إياك أن تفغلها ثانية أنا أعرف أنك تبحث عن الماء أيها الشقيّ .
تمسكه بحذر تربطه بخيط من خيوط حزامها وتعلّقه في الخلال الفضيّ الذي يعلو صدرها فيظلّ متأرجحا كالمشنوق لا حيلة له.
تواصل مرجانة غزل الصّوف وهي تلعن بلاّر وأهله والأسود يصيخ بأذنه اليمنى مرّة وباليسرى مرّة فلا يفقه من الأمر شيئا .
****
تقفز زوجة إبنها وتقف غير بعيد عنها مسرّة لبعض جاراتها وهي تشير إليها :
ـألم أخبركنّ أنها أفعى إذ كيف لها أن تميز خيط الصّوف الأسود في الظلام الدامس إلا ان تكون مبصرة بغيرها وما صحبتها مع هذا الأسود إلا صحبة سوء إنها دون شكّ تستخدمه في بعض الأعمال التي لا ينفع فيها الا عبد أسود أو ديك أسود أو خروف بلا علامة ، حتى زوجي لم يسلم من أعمالها ,يأخذاللّحمة السمينة من امامي ويجري بها اليها وينام عند الليل متوسّدا محرمتها ولايحلف الا بإسمها .
*****
تقول مرجانة للأسود عندما تلتقيه في الصباح وهو يجدّ السير الى البحر
ـأنا خلّصت ذمّتي منكم وانا بريئة من ذنوبكم جميعا , نصحتكم بأن تسدّوا جميع النوافذ والكوى وأن لا تبقوا الا فوهة الباب تصلكم بالعالم الخارجي وأن تجمعوا مايمكن أن يكون لكم فيه سند عند وعون عند الحاجة حتى إذا حلّ البلاء العظيم انكفأ كلّ في جحره وأغلق عليه فوهة بابه فلا يطاله الأذى وأنا جمعت ما لا يمكن أن يشاركني فيه أحد حتى إبني لأنه لا يملك أن يتخلّص من حربائه تلك وإني أرى الأفاعي والسحالي السامة زاحفة على أرضكم ومبيدة زرعكم وقاطعة نسلكم وإني أكاد أرى الجبل ينهار والرّعد يهزم ويأتيكم بمطر أسود كالويل .
يريح الأسود عينيه المجعدتين عتى سماحة وجهها ويكشّر عندما يحطّ
نظره على أفعى ذقنها ويجدّ في السير وهو يقول:
ـ لو عدت المساء قبل حلول الخطب , أعدّي لي من ذلك التين.
*****
رفع بلاّر سقف الصندوق بحذر فارتفع ، ماكان من عادة مرجانة أن تترك الصندوق مفتوحا .تسلل بخفة إلى الخارج ، اختفى تحت الغربال وظل يتلصّص من خلال ثقوبه أحس بخطوها فانكمش ، لا يمكن أن تلمحه والغرفة مظلمة لكنه كان يرى كل تفاصيل جسمها ويبصر حركاتها حركة حركة:أجفانها، نفسها وهو يعلو ويهبط ، تلمط شفتيها. هناك عند الجرة وقبضة الصوف لفتها ورصتها في الزاوية عند أكياس المؤونة ورأى المفتاح يتارجح في الخلال في نفس المكان الذي شنقته فيه ذاك المساء.ستكون مطمئنة مادام المفتاح يتدلى على صدرها وهي متوهمة ان بلار في الصندوق .تمددت مرجانة.رصت الوسادة جيدا تحت رأسها، بدأ النوم يراودها، لاحظ حركة هدبيها وهي تهدأ قليلا قليـلا .
رفع الغربال وتسلل الى الخارج ، حلقه ملتهب وشفتاه مشققتان كالسبخة.زحف إلى الجرة زحفا وهو يحاذر أن يحدث ما يريب نوم مرجانة .وصل إلى الماء تسلق الجرة ثم نزل فيها فاتحا فمه . لم يعد يهمه إن كان أحدث سقوطه فيها شقشقة.شرب بكل ما أوتي من عطش ، شرب إلى أن لعق لسانه قعر الجرة ثم هب واقفا كالسياط ورأسه يلامس سقف الحجرة. لم تكن مرجانة واعية ن فكر أن يحرقها أو أن يشنقها كما فعلت به ذاك المساء لكنه لم يفعل ثم خطرت بباله فكرة.
***
خرج من البيت ووقف في الباحة ثم جعل ينادي الحجر فينصاع إليه مستجيبا من كل صوب ثم أمر الحجرات أن تسد فوهة الباب ففعلت في الحين وأشار باصبعه نحو الباب فانسد بصفع قاس لا تنفع معه المعاول ولا الفؤوس ثم طار في الظلام.
***
جاء الأسود في الصباح وطاف حول البيت فهاله ما رأى ، قال في نفسه مستاء.فعلتها مرجانة الخبيثة ، حصنت نفسها ولم تأبه لأمري .أما كان لها أن تخبئني معها والكارثة قادمة، هي تعلم أني يتيم إذا غابت ، وبمن تراي أستجير وسمعي لا يدرك الرعد إذا اقترب ؟
نظر إلى السماء فرأى مزيدا من السحالي والأفاعي والغيلان .نزع خفه وهرع يجري مستجيرا بالبحر.