يتسلل الضوء حبالا من ذهب تنغرز في الجدران المقابلة وتنفجر في الغرفة معلنة أن هناك نهارا جديدا يحقق عبوره ، النهار عنيد وهذا دأبه ، و قد كانت النفس منذ الصبا ، تهفو وتندفع للقائه فيطيعها الجسد ، أما الآن....
الضوء نفاذ، يستغل كل شيء ليحقق عناده، فضولي يتسرب عبر الثقوب والشقوق، عبر الأنفاق والكهوف ليعلن وجوده للكائنات، ويعري المستور.
ويتذكر الطيب يوم اندفعت حبال الضوء لأول مرة عبر ثقوب الباب؛ لتطهرها وتمحو الألم ، وتطارد الرعب ، وتمنح الدفء للأشلاء ، وللدماء المقرورة المتخثرة المتعانقة في برك.
كانت حبال الضوء، تكتب، تقول وتغني : سيبقى الإنسان أخطر الآفات ، يهلك الأحياء والأحلام والحياة .
حبال الضوء تسللت من خلال الثقوب التي مر عبرها رصاص الجريمة واستقر في الأجساد المستريحة في استرخاء وطمأنينة ورضا ، كان الباب حين أمطرته الرشاشات موصدا ، وراءه ظلام دامس يلف نفوسا تلهث متوثبة، أعين تدور في محاجرها ، تقلص الإحساس وضاقت دائرته ، ورق الخط الفاصل بين الموت والحياة حتى كاد يمحي ،... ما معنى الموت ؟ الموت هو أن لا تكون هنا ، أو على الأقل هو ألا تعي أنك هنا ، وأن تتخلص إلى الأبد من أناك ، ومن فكرة الخوف و الانتقام من الآخر، عدوك المفترض . وأن تستغني الروح عن الجسد، وعن الأحلام.
ولاحت بذهن الطيب مقابر وبقايا مقابر بعضها وجوه أصحابها باتجاه المشرق ورؤوسهم نحو الجنوب ، وبعضها وجوه أصحابها باتجاه الشمال ورؤوسهم نحو المغرب . لم يعد للاتجاهات لديها معنى ، وكل مدفون فرح بنومه الأبدي .
رفع يده بصعوبة ومسح وجهه بجمع كفه، فشعر أنه أزاح قطعا من أكوام ضبابية داكنة استقرت على روابيه وأحاطته بهذا الخواء الرهيب، فراغ ممتد في فراغ أقسى، ومال برأسه قليلا نحو الباب و تساءل:
- ما وظيفة هذا الباب؟ .
الباب يسد منفذا أو يؤدي إليه فما وظيفة هذا الباب ، لاشيء إنه فقط أثر لموطئ قدم حمقاء ، لخطوة خاطئة خطاها التاريخ فداس ضحاياه في غفلة ، طحنهم وعبر ، وبقي الباب يحتفظ بمداخل الجرح ، بثقوب الدم ، شلالات تتدفق على الآفاق تزين شفق الأماسي ، وشفاه الأسحار ، ويزيد وله الأقمار العاشقة المهرولة لمواعيد اللقاء في مواقيتها .
كان من المفروض أن يدفن الباب في المقبرة إلى جانب من دفن؛ الجميع قد دفن حتى التاريخ ذاته، ولم يبق سوى الباب، وآثار الأغراب.
وأنا أيضا سأدفن عما قريب ، أما الباب فسيبقى في مكانه ، يدور على محوره الخشبي و يصر صريرا فيه مرارة الحزن الجاف الذي يلج إلى أعماق الأرض ، ويصعد إلى عنان السماء، يروي حزن الإنسان ووحدته ، يتنفس الهواء والنور من ثقوبه التي حولها إلى مسام للاستنشاق.
دفن العسكريون الأغراب الذين سددوا عليه رشاشاتهم منتشين ، ودفن ضحاياهم ، أهل تلك الدار ذات الباب ، التي كانت، و الذين كانت أجسادهم تلهث ، تريد استبقاء دمائها المندفعة إلى الخارج عبر الشرايين ، منساحة من الثقوب الوردية المرسومة على صدورهم تريد لثم النور والغوص في أعماق التربة تروي لظى الشوق وغم العطش وألمه.
تعاكست – يومها- اتجاهات الرشاشات وزخات الرصاص؛ شأنها شأن الصراخ والعويل وأصوات المواشي والطيور الداجنة ، وصار القتل مجرد لعبة ؛ لا تختلف عن غيرها من الألعاب إلا في درجة خطورتها بالنسبة للأحياء، كان الطيب يومها مشاركا في اللعبة ؛ صبيا منكمشا مكورا على ذاته في ركن البيت، ولحسن الحظ أو لسوئه أخطأته قدم التاريخ ، وادخرته للمشاركة في ألعاب أخرى لاحقة، تدور معظمها حول اختبار مدى قدرة الإنسان على التمسك بالحياة و احتمال الألم.
النور مازال يتسلل من ثقوب الرصاص ، يحاول بعناد أن يطرد العتمة ، أن يفضح المسرح الذي جرت على عتباته معركة التحرير ، تحرير الأرواح من ربقة الأجساد ، إزالة الحدود بين الأعداء، القاتل ليس عدوا للمقتول بالضرورة لأنه في أغلب الأحيان لا يعرفه ، وليس بينهما سابق خصومة، ولأنه بفعله يوجد حلا لمشاكل القتيل.
الباب الوفي لصدقه فقط هو الذي مازال يحمل مخطوط العداوة على ظهره؛ يبرزها لمن أراد الدخول أو الخروج ، والمخطوط يحدد العدو بدقة، العدو هو الذي يبرزه تلاشى الغريب ،يحترف توسيع الجراح ، يبقي جراح الضحايا مفتوحة لأطول مدى ، وبقلوبهم ما بالباب من الثقوب ، تنفتح كلما دنف دانف وكلما غادر مغادر ، تقوب ، مسارب ، تغور بأعماق القلوب ، تحفر بشظايا العجز مساحات أوسع للتعاسة؛ تجعل الجسد يتمرد عن الروح ، يخرج عن طوعها ، فلا يعود هناك معنى للحلم أو الأمل.
وتلك حال ورثتها -أيها الطيب- منذ هدر الرشاش بساحة البيت أمام الباب.ومنذ أن وقف جسدك قبالة روحك، كل مستقل بذاته.
سأل الناس،عن الضحايا كالعادة ، سألوا هل بقي هناك أحياء ، ثم تأسفوا كالعادة ، و انصرفوا ,تركوا نصفي مذبوحا من الوريد إلى الوريد لم يروه ، والنصف الآخر سليما واقفا ، رأوه ، أحنوا له رؤوسهم وانصرفوا.
كان الضرب في جنب الجبل ؛ وقد صار الواقف جزءا من الجبل ، و المشكلة كانت دائما في الجبل ، الجبل يرفض أن يتزحزح ، أن يركع ،لا يمكن لأحد أن يحاوره ، يصمد ، يدافع بشراسة عن هويته ، والحرب ضده كانت مستمرة و شرسة أيضا ، غسل بالنار عشرات المرات؛ بأيد الغرباء والأعداء وبأيد الأهل والأبناء ، ولكنه كان يستعيد جلده دائما، ينبعث من العدم ، تخرج الجذور من تحت الأرض خضراء زاهية تعيد نسج أنشودة الحياة بنولها الدوار، وتعيد تلقين نفس الأغاني الحزينة لنفس الطيور ، وتغذي الأغصان بنسق التاريخ الخالي من الزيف ، والطيب كان - في جزء منه - جزءا من الجبل يستعصي على الانحراف و الانجراف يستعصي على الصدأ والالتواء.
كتب في الباب بدم الضحايا : لا ضير من النار في جنب الجبل ، أرواح ساكنيه مباح قتلها بحكم العادة المتأصلة منذ الأزل، وللقتل لذة تغوي القتلة ، وتبهج الأعداء وترضي المتفرجين .
- أنا أهذي أين الكتابة التي ترى؟؟
- أنا لا أهذي الكتابة في قلبي وفي قلب الباب ولونها فاقع بلون الشفق.
- الأمر محزن ومأساوي.
- نعم الحياة كلها مأساة بالنسبة للضحايا.
- ومأساة أن تحدث الروح ذاتها ساعة احتضارها بأشياء لم يعد لها قيمة.
لا الوعي قيمة في ذاته .
تعمق أكثر يوم أنهدت أصوار البيت ، واتكأ الباب لسنوات يغتسل بماء المطر ، ثم عاد إلى مكانه ليواصل دوره ،فالبيت بدون باب ليست بيتا.
- والوعي في الروح الطاهرة أمة، والأمة الفاسدة الخامدة جثث تهلك الكون قبل أن تهلك.
-الأمة معظمها أغراب يعيشون بأقعنة تحمل ملامح أهل الجبل.
وتمنى الطيب لو تطاوعه حنجرته فيمد صوته بأنشودة: < من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا>.
انتكست أمنيته.
- كيف تصرفت الجثث يوم الإغارة؟؟!.
- كانت تقف هناك خلف أو داخل الأغراب ، تنتظر خلف الأقنعة أن يجف النجيع لتنسق من الزيف شعارات تزرعها في ثنايا الجراح وتقتات على الحكايات ومهرجانات المواسم والذكريات.
كان لا مفر للغرباء - و الجثث حينما تبدو - من التظاهر بالإحساس بالحرج ، تعبر عنه بشيء من الحزن العارض وبتلوين الملامح بعلامات الأسى تزفها إلى الآذان بعبارات الاعتذار المحفوظة ، ليرتفع الحرج وتعود كل الأمور إلى مواضعها ، وذلك ما فعله الطبيب والممرضتان وهم يتفقدون أشلاء البشر والحيوانات المتآلفة في وئام غريب.في اليوم الموالي لانشطار الطيب .
يدير الطيب وجهه بصعوبة باتجاه الباب ،يفتح جفنيه الواهنين بصعوبة.
لم تتوسع ثقوب الباب ، ولم تسمح للضوء بالمرور ، إلا بالقدر الذي كانت عليه أيام الجريمة ، ربما لأن الجريمة تواصلت على أيدي الأهل بصور أبشع ، من أواهم الجبل وابتلع القنابل الحارقة في جوفه ليحميهم يتفرجون على الحرائق تزرع الموت في حناياه ويجدون الفرجة ممتعة ، لم يعد الجبل بالنسبة إليهم جبلا ، تغير العهد صار القاتل للسلف صديقا للخلف ومالت الأقنعة وصار المنحاز للجبل نذلا ، و الغريب أكثر تحضرا يبقي الجسد و يجتث الروح. لا معنى للنور في الخارج.
حاول الطيب أن يطرد الصراع من باطنه، أن يضع نهاية للحرب التي استمرت خمسين عاما وأن يعيش لحظة النصر، لحظة الوداع بكل ما بقي لديه من إحساس.
- هذيان الروح هذا أم استراحة الروح؟؟.
أخذت مساقط النور تنحرف نحو اليمين معلنة حلول وقت الزوال، وتمنى الطيب لو استطاع الوقوف لآخر مرة ، لو استطاع أن يدفع الباب ،ويخرج لتوديع التربة النقية الطاهرة ، بألوانها البديعة ، يكحل عينيه المنهكتين بألوان آكامها الرمادية والشهباء التي شكلت من ندبات الحرائق خانات على جنباتها ،تشقها أخاديد تصدعات الفجيعة، وجريان الدمع المسكوب على الرمم ، ويودع لآخر مرة القلة الباقية من ساكنيها الذين رفضوا الرحيل رغم الموت والنار.
كان الطيب ممددا ينزع، حين راح العالم ينسحب شيئا فشيئا تغمره موجات من الضوء ، تنفتل حبالا لولبية تصل جسده بالسماء ، ترفعه على مهل و الموجودات من حوله تصغر مبتعدة ، وأعمدة الضوء تكبر وتتسع أقطارها وتصرط جسده النحيل في صمت مهيب وأشجار الزيتون الهرمة وجاراتها تخنقن فحيح بكائهن وفاء لطبعهن ، تختزن دموعهن حتى يحين أوان الموسم الذي قد يأتي وتصير زيتا مباركا عونا للصابرين.
في اليوم الموالي حمل جثمانه على الباب الشهيد فعانق كل منهما الآخر العناق الأخير وبعد الدفن أعيد تثبيت الباب في مكانه ليواصل صريره الحزين يشرب حبال الضوء ويتابع شهادته على زيف التاريخ، وساما يشهد للمرحوم معلقا على صدر الجبل.
رفع يده بصعوبة ومسح وجهه بجمع كفه، فشعر أنه أزاح قطعا من أكوام ضبابية داكنة استقرت على روابيه وأحاطته بهذا الخواء الرهيب، فراغ ممتد في فراغ أقسى، ومال برأسه قليلا نحو الباب و تساءل:
- ما وظيفة هذا الباب؟ .
الباب يسد منفذا أو يؤدي إليه فما وظيفة هذا الباب ، لاشيء إنه فقط أثر لموطئ قدم حمقاء ، لخطوة خاطئة خطاها التاريخ فداس ضحاياه في غفلة ، طحنهم وعبر ، وبقي الباب يحتفظ بمداخل الجرح ، بثقوب الدم ، شلالات تتدفق على الآفاق تزين شفق الأماسي ، وشفاه الأسحار ، ويزيد وله الأقمار العاشقة المهرولة لمواعيد اللقاء في مواقيتها .
كان من المفروض أن يدفن الباب في المقبرة إلى جانب من دفن؛ الجميع قد دفن حتى التاريخ ذاته، ولم يبق سوى الباب، وآثار الأغراب.
وأنا أيضا سأدفن عما قريب ، أما الباب فسيبقى في مكانه ، يدور على محوره الخشبي و يصر صريرا فيه مرارة الحزن الجاف الذي يلج إلى أعماق الأرض ، ويصعد إلى عنان السماء، يروي حزن الإنسان ووحدته ، يتنفس الهواء والنور من ثقوبه التي حولها إلى مسام للاستنشاق.
دفن العسكريون الأغراب الذين سددوا عليه رشاشاتهم منتشين ، ودفن ضحاياهم ، أهل تلك الدار ذات الباب ، التي كانت، و الذين كانت أجسادهم تلهث ، تريد استبقاء دمائها المندفعة إلى الخارج عبر الشرايين ، منساحة من الثقوب الوردية المرسومة على صدورهم تريد لثم النور والغوص في أعماق التربة تروي لظى الشوق وغم العطش وألمه.
تعاكست – يومها- اتجاهات الرشاشات وزخات الرصاص؛ شأنها شأن الصراخ والعويل وأصوات المواشي والطيور الداجنة ، وصار القتل مجرد لعبة ؛ لا تختلف عن غيرها من الألعاب إلا في درجة خطورتها بالنسبة للأحياء، كان الطيب يومها مشاركا في اللعبة ؛ صبيا منكمشا مكورا على ذاته في ركن البيت، ولحسن الحظ أو لسوئه أخطأته قدم التاريخ ، وادخرته للمشاركة في ألعاب أخرى لاحقة، تدور معظمها حول اختبار مدى قدرة الإنسان على التمسك بالحياة و احتمال الألم.
النور مازال يتسلل من ثقوب الرصاص ، يحاول بعناد أن يطرد العتمة ، أن يفضح المسرح الذي جرت على عتباته معركة التحرير ، تحرير الأرواح من ربقة الأجساد ، إزالة الحدود بين الأعداء، القاتل ليس عدوا للمقتول بالضرورة لأنه في أغلب الأحيان لا يعرفه ، وليس بينهما سابق خصومة، ولأنه بفعله يوجد حلا لمشاكل القتيل.
الباب الوفي لصدقه فقط هو الذي مازال يحمل مخطوط العداوة على ظهره؛ يبرزها لمن أراد الدخول أو الخروج ، والمخطوط يحدد العدو بدقة، العدو هو الذي يبرزه تلاشى الغريب ،يحترف توسيع الجراح ، يبقي جراح الضحايا مفتوحة لأطول مدى ، وبقلوبهم ما بالباب من الثقوب ، تنفتح كلما دنف دانف وكلما غادر مغادر ، تقوب ، مسارب ، تغور بأعماق القلوب ، تحفر بشظايا العجز مساحات أوسع للتعاسة؛ تجعل الجسد يتمرد عن الروح ، يخرج عن طوعها ، فلا يعود هناك معنى للحلم أو الأمل.
وتلك حال ورثتها -أيها الطيب- منذ هدر الرشاش بساحة البيت أمام الباب.ومنذ أن وقف جسدك قبالة روحك، كل مستقل بذاته.
سأل الناس،عن الضحايا كالعادة ، سألوا هل بقي هناك أحياء ، ثم تأسفوا كالعادة ، و انصرفوا ,تركوا نصفي مذبوحا من الوريد إلى الوريد لم يروه ، والنصف الآخر سليما واقفا ، رأوه ، أحنوا له رؤوسهم وانصرفوا.
كان الضرب في جنب الجبل ؛ وقد صار الواقف جزءا من الجبل ، و المشكلة كانت دائما في الجبل ، الجبل يرفض أن يتزحزح ، أن يركع ،لا يمكن لأحد أن يحاوره ، يصمد ، يدافع بشراسة عن هويته ، والحرب ضده كانت مستمرة و شرسة أيضا ، غسل بالنار عشرات المرات؛ بأيد الغرباء والأعداء وبأيد الأهل والأبناء ، ولكنه كان يستعيد جلده دائما، ينبعث من العدم ، تخرج الجذور من تحت الأرض خضراء زاهية تعيد نسج أنشودة الحياة بنولها الدوار، وتعيد تلقين نفس الأغاني الحزينة لنفس الطيور ، وتغذي الأغصان بنسق التاريخ الخالي من الزيف ، والطيب كان - في جزء منه - جزءا من الجبل يستعصي على الانحراف و الانجراف يستعصي على الصدأ والالتواء.
كتب في الباب بدم الضحايا : لا ضير من النار في جنب الجبل ، أرواح ساكنيه مباح قتلها بحكم العادة المتأصلة منذ الأزل، وللقتل لذة تغوي القتلة ، وتبهج الأعداء وترضي المتفرجين .
- أنا أهذي أين الكتابة التي ترى؟؟
- أنا لا أهذي الكتابة في قلبي وفي قلب الباب ولونها فاقع بلون الشفق.
- الأمر محزن ومأساوي.
- نعم الحياة كلها مأساة بالنسبة للضحايا.
- ومأساة أن تحدث الروح ذاتها ساعة احتضارها بأشياء لم يعد لها قيمة.
لا الوعي قيمة في ذاته .
تعمق أكثر يوم أنهدت أصوار البيت ، واتكأ الباب لسنوات يغتسل بماء المطر ، ثم عاد إلى مكانه ليواصل دوره ،فالبيت بدون باب ليست بيتا.
- والوعي في الروح الطاهرة أمة، والأمة الفاسدة الخامدة جثث تهلك الكون قبل أن تهلك.
-الأمة معظمها أغراب يعيشون بأقعنة تحمل ملامح أهل الجبل.
وتمنى الطيب لو تطاوعه حنجرته فيمد صوته بأنشودة: < من جبالنا طلع صوت الأحرار ينادينا>.
انتكست أمنيته.
- كيف تصرفت الجثث يوم الإغارة؟؟!.
- كانت تقف هناك خلف أو داخل الأغراب ، تنتظر خلف الأقنعة أن يجف النجيع لتنسق من الزيف شعارات تزرعها في ثنايا الجراح وتقتات على الحكايات ومهرجانات المواسم والذكريات.
كان لا مفر للغرباء - و الجثث حينما تبدو - من التظاهر بالإحساس بالحرج ، تعبر عنه بشيء من الحزن العارض وبتلوين الملامح بعلامات الأسى تزفها إلى الآذان بعبارات الاعتذار المحفوظة ، ليرتفع الحرج وتعود كل الأمور إلى مواضعها ، وذلك ما فعله الطبيب والممرضتان وهم يتفقدون أشلاء البشر والحيوانات المتآلفة في وئام غريب.في اليوم الموالي لانشطار الطيب .
يدير الطيب وجهه بصعوبة باتجاه الباب ،يفتح جفنيه الواهنين بصعوبة.
لم تتوسع ثقوب الباب ، ولم تسمح للضوء بالمرور ، إلا بالقدر الذي كانت عليه أيام الجريمة ، ربما لأن الجريمة تواصلت على أيدي الأهل بصور أبشع ، من أواهم الجبل وابتلع القنابل الحارقة في جوفه ليحميهم يتفرجون على الحرائق تزرع الموت في حناياه ويجدون الفرجة ممتعة ، لم يعد الجبل بالنسبة إليهم جبلا ، تغير العهد صار القاتل للسلف صديقا للخلف ومالت الأقنعة وصار المنحاز للجبل نذلا ، و الغريب أكثر تحضرا يبقي الجسد و يجتث الروح. لا معنى للنور في الخارج.
حاول الطيب أن يطرد الصراع من باطنه، أن يضع نهاية للحرب التي استمرت خمسين عاما وأن يعيش لحظة النصر، لحظة الوداع بكل ما بقي لديه من إحساس.
- هذيان الروح هذا أم استراحة الروح؟؟.
أخذت مساقط النور تنحرف نحو اليمين معلنة حلول وقت الزوال، وتمنى الطيب لو استطاع الوقوف لآخر مرة ، لو استطاع أن يدفع الباب ،ويخرج لتوديع التربة النقية الطاهرة ، بألوانها البديعة ، يكحل عينيه المنهكتين بألوان آكامها الرمادية والشهباء التي شكلت من ندبات الحرائق خانات على جنباتها ،تشقها أخاديد تصدعات الفجيعة، وجريان الدمع المسكوب على الرمم ، ويودع لآخر مرة القلة الباقية من ساكنيها الذين رفضوا الرحيل رغم الموت والنار.
كان الطيب ممددا ينزع، حين راح العالم ينسحب شيئا فشيئا تغمره موجات من الضوء ، تنفتل حبالا لولبية تصل جسده بالسماء ، ترفعه على مهل و الموجودات من حوله تصغر مبتعدة ، وأعمدة الضوء تكبر وتتسع أقطارها وتصرط جسده النحيل في صمت مهيب وأشجار الزيتون الهرمة وجاراتها تخنقن فحيح بكائهن وفاء لطبعهن ، تختزن دموعهن حتى يحين أوان الموسم الذي قد يأتي وتصير زيتا مباركا عونا للصابرين.
في اليوم الموالي حمل جثمانه على الباب الشهيد فعانق كل منهما الآخر العناق الأخير وبعد الدفن أعيد تثبيت الباب في مكانه ليواصل صريره الحزين يشرب حبال الضوء ويتابع شهادته على زيف التاريخ، وساما يشهد للمرحوم معلقا على صدر الجبل.