اِرتدى قميصه الحريري الأبيض، عقد أزراره المرمرية ، ومن فوق نظارتيه رنا إلى دزينة ربطات العنق، سحب الأرجوانية دون تردد؛ لفها فوق ياقته وتابع يده الدربة تعالجها عبر المرآة ، أعاد الياقة لوضعها الصحيح وطفق يزحزح ـ يمينا وشمالا ـ العقدة لتستقر وسط نحره لتعطيَ القميص ذاك الرونق البديع الذي طالما افتتن به... فجأة ، توقفت الحركة ، وسهم شاردا في أفق المرآة حينا ، ثم طأطأ رأسه؛ لقد تذكرها ... تذكر (سلماه ) ما انمحى شيء يخصها من ذاكرته: عطرها رائحة عرقها ،طيفها المياس، وشوشاتها ، كلها لازالت حاضرة في حياته لم تنسه إياها السنون، ولا يأسه من اللقاء بها من جديد، بل حتى زواجه لم يفلح في ردم ما تركت وراءها من فراغ عاطفي !.
كانت أول امرأة عرفها في حياته ، اكتشف معها ماهية الحب، وذاق في مملكتها لوعة الصبابة وحرقة الوجد. !
غيابها عنه كان يفقد بوصلتَه اتزانها ، ويضحى بلا اتجاهات، و يغرق في لج التيه وينسحق تحت ضغط الكآبة ليتحول ركاما من الصمت!.
كانت شعلة من نور تدفئ قلبه، وشلالات سخية من الحب والوداد تغسل سخام وحدته؛ مدرسته صارت، وشيئا من طيف أمه التي فقدها وهو يافع بالكاد يدرج على دروب الحياة.
غالبا ما يتذكرها ، خاصة عند عقد ربطة العنق أو لدى التعطر؛ هي التي من علمته طرق العقد بأنواعها وبثت في روحه معاناة التناسق في الألوان بين ثالوث البذلة والقميص وربطة العنق؛ قد كانت ابدا تشرف على عقدها له، وتعطره بطيب من اختيارها بعدما كان يجهل ان العطر صنوان نسوي ورجالي !
ظهرت فجأة في حياته، واختفت فجأة، ولم تترك وراءها شيئا يخصها إلا بوحا صريحا على مرآته بأحمر شفاهها ؛ ظل صامدا لعوادي الزمن اياما واياما : " احبك " .
ما كان يعرف شيئا عنها سوى اسمها (سلمى الماروني) وما دون ذلك لم تكشفه، ربما ما كانا فيه من السعادة والانسجام جعلها ترى توسيع زاوية التعارف لا طائل منه.
كانت ذكرى بلا أثر...وأزاهير تنعم بنور ولا ظل..! أحيانا يجحد أنه عرفها ، وأنها ليست سوى وهم عاشه خلال حمى أصابته يوما ما ! ولكن حبه لها يجعله يفند كل تهيؤاته.
عاد من شروده، ثم انتعل حذاءه اللميع، وانتصب أمام المرآة الحائطية. مسح بنظرة متفحصة قده رأسا، من قدميه إلى رأسه، وماس يمينا وشمالا ، وابتسم... لعله سر لحاله ! .
من درج أخرج زجاجة عطر و رش رذاذا تحت ذقنه وجاد بقليل منه على راحتيه، و بمشطه سوى شعره المخضب؛ لمح شيبة فدسها دسا حتى لا تُرى...! ومرر مرة اخرى المشط من جديد ليصلح ما أفسدت يده .
لبس أخيرا بذلته، وبدبوس ذهبي ربط أطراف ربطة عنقه ،حارصا أن يكون وسطا ومتعامدا وخط الأفق وخرج تاركا الدولاب مفتوحا وعلى الأرض متناثرات ثياب، وأغراض زينة ....
أمام الباب ،السيارة مركونة ، فتح بابها واستوى قاعدا أمام عجلة القيادة، أدار المحرك فلبى عند اللفة الأولى للمفتاح؛ في انتظار احتراره سحب من علبة سجائر على لوحة القيادة لفافة ، اشعلها وعب منها نفسا طويلا بثه دفعات متباعدة كرر العملية مرتين و سحق بقية السيجارة على المرمدة؛ أحسن بخدر يغزو جسمه ودوخة تساور رأسه ، أغمض عينيه لها تاركا الفعل الكيميائي يقضي أمره؛ إنه لا يدخن إلا لماما.
أحس بالمحرك قد أخذ قسطه اللازم من الحرارة فداس على البنزين وانطلق.
هذا هو الديدن... كل مساءِ أحدٍ تحج زوجته وأبناؤه إلى بيت الجدة وهو يطلق الريح لعجلات سيارته في جميع الجهات ومن غير تحديد. هائما بلا وجهة ولا غاية، ليتزود بهواء أنظف وهو على الشاطئ أو بالضواحي، ليجدد نشاطه ويتخلص من أوزار الحياة وهمومها و يقبل على عمله ـ يوم الإثنين ـ خفيف الروح سالمها .
كان يسير بسرعة مقبولة ، لينفلت في أقرب وقت من الزحام والسخام ورائحة البنزين المحروق المنبثة حوله. وكأن روحا أخرى تقوده، تختار مشيئته لم يشعر أنى وكيف اقتحم شارع الحرية مندفعا قِبَل شاطئ البحر، لم يتراجع ولم يغير الاختيار التلقائي ، وإنما استرضاه.
كان الشارع ظليلا، شبه فارغ، سيارات قليلة تخترقه بين الحين، والحين، مغان بديعات الهندسة نائمات تحت صفين طويلين من باسقات النخيل تؤثث جانبيه، وطيور الدوري تنط هنا وهناك بين الظلال وأنوار الشمس التشرينية غير عابئة لا بالسيارات ولا المارة، خفف السير فأضحى بعضها تقع على مقدمة سيارته طلبا لرحلة مجانية لكن سرعان ما كان تعود وتطير، ربما حرارة المحرك وأزيزه يفزعها.
في الأفق لمح سحنة امرأة، تمشي الهوينى، على إيقاع رتيب ، ربما مجهدة أو تتظاهر .... اِقترب منها وحاول أن يحافظ على مسافة تسمح له بقراءة سحنتها.
كانت ذات قدٍ أهيف وكشح ضامر يعصره قميص أبيض بدون أكمام، والشمس المائلة للغروب ـ نسبيا ـ تخترق مسامات جبتها الساتانية لتشي بفخذين مكتنزين يعتليان ساقين بضين يئن تحتهما حذاء رفيع الكعب، طويله..
اقترب جانبها و فتح الباب ودعاها للركوب:
ـ هيا، يا حلوتي، اصعدي أقربك . لم تعر اهتماما له، بل تابعت سيرها كأنها ما سمعته.
لم ييأس، إنه هو مدرب على هذه المواقف ، فبين الحين والآخر تصحو داخله بقايا مراهقة متأخرة لا يستطيع مقاومة ضغطها عليه ، ترك إذا السيدة تأخذ شوطا عنه ثم عاود الكرة، لكن جوبه بالرفض و اللامبالاة ...
شعر ببرودة في المطاردة، وشيء من التوتر يلف الوضع و باليأس يكلل المحاولات ؛ قرر أن ينسحب. غير أن عناده المراهق جعله يتابع تعداها ووقف ، التفت حوله ، فلاحظ عيونا تتلصص عليه، تتفرج تتابع المطاردة الصبيانية لم يأبه لها، لقد قرر أن تكون محاولته الأخيرة. وقرر أن ينتهج تكتيكا آخر ...
لما أصبحت جانبه فتح الباب، وقبل أن يبوح بكلمة تفاجأ وهي تمسك بالباب وتقول له بلهجة آمرة: "هل تقلني معك إلى الشاطئ إن كانت وجهتك إليه" وتفاجأ اكثر لملامحها الشبابية ؛ قد كانت بالكاد في أواسط العشرينات، إنها أصغر بكثير مما كان يفترض. أراد أن يتراجع وينهي اللعبة ! لكنها لم تدع له خياراً فلقد جلست جانبه وأغلقت الباب قبل أن ينبس ببنت شفة.
تهالكت على المقعد وهي تتنهد، ثم تخلصت من حذائها ومددت رجليها، وأرخت رأسها وراءً، وأغمضت عينيها؛ لعلها مجهدة .
ساد صمت ثقيل جو السيارة، استباحت مساحتَه أنغام رائعة وتمدد على أثيره. طيبٌ جميل ينم عن نبل وذوق صاحبته ...لطف من فلول دخان ظلت حبيسة الجنبات.
أراد أن يختلق حدثا ما يفتح به سلسلة الحديث لكنه، لم يجد، فحول إرادته سعالا حادا، واكتفى باختلاس نظرة جانبية كانت كافية ليكوّن عنها صورة كاملة التفاصيل.
النهدان نافران متحديان، حلمتاهما بارزتان كحبتي كرز بريّ، والعينان جميلتان ذات سواد طبيعي، والشفة مليئة .يعتليها أنف أرستقراطي ، والشعر خصلات معطلة ثائرة لا أثر للمشط عليها ... اما القد فناضج ينضح استروجين والمحيا لطفلة ما زال يغازل عقلها حجلة وحبل ! أعجبه استرخاؤها وهدوؤها وإحساسها بالأمان لديه فاعتبره شكرا له...فحاول أن يحافظ على سكونه ورتابة سرعة سيارته حتى تتمتع بغفوتها لوقت أطول.
مد يده إلى قارئ الأشرطة وادخل شريطا جديدا انطلق منه ـ بعد لحظة ـ صوت السيدة فيروز وهي تشدو : " زروني كل سنة مرة حرام تنسوني بالمرة..." عندئذ استوت وقالت هامسة : " ذوقك جميل واختيارك أجمل...!
رد عليها بصوت فارغ من كل إحساس: " شكرا سيدتي..."، ثم لاذ بالصمت .
وصل بهما المطاف إلى نهاية شارع الحرية ،فكانت نهاية النخيل الباسق والهدوء وبداية الهرج والمرج ، وقف والإشارةَ الحمراء فأطل عليه شاب ومد له قطعة صغيرة في سولوفان وقال: " مسك…. يا سيدي بدرهم لا غير "
أخذ القطعة قلبها بيده وبالأخرى ناول الشاب درهما وهو يقول بلهجة إنكارية تهكمية : " أ حقا مسك هذا .. ؟"
انتزع الشاب الدرهم من بين أصبعيه وصد من غير جواب، أما هو فأخذ يكور ويدعك القطعة حتى تقزمت ثم رماها في المرمدة، والفتاة تتابع العملية في صمت .حينها أتى شيخ رث الثياب مد يده من خلال النافذة وقال : " صدقة يرحمك الله ويبلغك مراد " .
أشاح عنه ورد : "يفتح لنا ولك الله ..."
اتفق جوابه مع اشتعال الإشارة الخضراء ، فداس على البنزين وانطلق .
استوت الفتاة في جلستها مرة أخرى وقالت له:
ـ أمرك غريب يا سيدي كيف تشتري شيئا لست بحاجة إليه، وتمنع صدقة عن شيخ في حاجة ماسة إليها ؟
ابتسم ابتسامة عريضة وظل صامتا برهة ثم قال :
ـ أفضل أن أبتاع وهما محسوسا بثمن وهم كاذب على شراء حقيقة مطلقة غير محسوسة، فالشاب ظن أنه خدعني ببيعه لي مسكا مزورا وأنا خدعته بكوني صدقته أما طالب الصدقة ...
قاطعته الفتاة قائلة:
ـ أ مؤمنٌ أنت ؟
قهقه ، قهقهة خفيفة ورد:
ـ أنت ذكية ... صمت ثم أردف دعينا من هذا ...لم نتشرف بعد.
ـ سهاد... ردت
صمت قليلا يفكر في اسم يقدم به نفسه، ثم قال :
ـ حسن...مهندس معماري حر، وأنت ما مهنتك ؟
ـ أستاذة فنون جميلة.
ـ جميل جدا، لنا على كل حال... قاسم مشترك .
ـ نعم.. الخطوط ، وبعض الألوان. ردت
أحس بالأنس معها واعترت ذاته مشاعر غريبة نحوها وتبدلت رؤيته لها فأخذ على نفسه أن يكون شهما ...
تضخمت غريزة الفضول عنده وصار تواقا ليعرف عنها أكثر؛ فبادر بمساءلتها:
ـ لهجتك غريبة لست أنت من هنا ، أي نسيم طيب حملك إلى بلدتنا ؟
تنهدت تنهيدة وقالت بنبرة كسيرة :
ـ ماتت جدتي أخيرا ولم يبق لي أحد أعيش معه علما أن أمي على قيد الحياة، لكنها تعيش مع زوجها في الخارج ،وقد حللت هنا بحثا عن أب لي ، عله يكون عزاء لي في موت جديّ.
سكتت قليلا ثم أردفت:
ـ بلدتكم صغيرة نسبيا هل من الممكن أن تسدي لي معروفا و تساعدني في البحث عليه؟ إنك تبدو لي رجلا طيبا، قسماتك السمحة جعلتني أركب معك وفعلا ما خابت فراستي، إذ أحسست براحة وأمن شاملين وأنا معك.
ـ الإحساس متبادل.. .ما اسم أبيك ؟
ـ إدريس الراوي محمد.
وكأن غصة استبقت ردّه استفهمها قائلا:
ـ ما قلت من فضلك ...؟
ـ إدريس الراوي...
ما كادت تؤكد جوابها حتى كان متوقفا على جانب الطريق ورأسه على عجلة القيادة وبقبضته يلكم فخذه.
جافلة، مرتبكة سألته :
ـ ما بك يا سيدي ... هل بإمكاني مساعدتك؟
لا..لا وما اسم أمك؟
ـ سلمى الماروني ...لماذا؟.
لم يجبْ وإنما غمغم : " لم يا رب..لم أذكرها يوما وهي خائرة القوى تقاوم نوبات القيء وتقول لي : ربما يا إدريس اصبحت والدا... ! "