تأن قليلا وأنت تفتح باب قصائده
قد تخاله طفلا يلهو بقطعة غيم
أو جنديا يكتب بدم الكون عذاباته
محمد بنميلود، هذا الشاعر الذي يأخذ البياض بتلابيب حبره، كي يكتب بدمع أصابعه عن شتاء مُرٍّ يقيم بين أطراف روحه.
فهل هو ذلك الشاعر الذي يلعب بأوتار الريح، فتأخذنا عباراته نحو هذا المدى العاري، حيث تتناثر كأس الأحلام شظايا لا يجمعها غير خيط ناي حزين؟
أم هو ذلك المستحم بماء القلق أنى اتجهت ركائبه انمحق؟
انخطاف فوق شفاه اللغة
فوق كتفي التمرد تسافر قصائده، حاملة قيثارة الذين عبروا أرض الروح، إذ لا تسمع غير صدى خطاهم وهي تتأوه بين أنامله، مطلا من سور شريد على شمس غادرت صهوة النهار. فلا نكاد نرى غير آثار ضائعة في اللامكان، تردد مع امرئ القيس: (ألا أيها الليل الطويل ألا أنجلي).
يقول:
كثيرون ذهبوا
وكان الشتاء يبلل أضواء النيون
ومعاطفنا قصيرة على الرعشات
ووقفنا نتوسل إليهم بنظراتنا المبلولة
كثيرون انعكسوا في صفاء دموعنا وهم يبتعدون دون التفات
عادت الفصول في أوانها
عادت الطيور وأزهر الأصيص عند النافذة
ولم يعودوا. (من قصيدة "الوداع")
يختزل الشاعر المتمرس بنميلود آلامه في سياق لغوي شفاف، فقوته الرؤيوية للواقع، تجعلنا نمشي على ضوء هذه النزعة الدرامية كي نتوغل في الظاهر المرئي، حيث يشحن مجموعة من الدلالات ليعبر عن معاناةٍ تُحَوِّل النص الشعري إلى موت مرتقب، ثائرا على الحياة العبثية التي تحصد أرواح الأبرياء المشنوقين بحبال الفقر والجوع والتشرد.
يقول:
كثيرون، كثيرون
ناموا كالأطفال على أسرّة العجزة
لم نسمع أنينهم في الليل
لم يطلبوا ماء ولا دواء ولا حكاية نوم أخيرة
وفي الصباح
حين أشرقت الشمس
ورفرفت الفراشات في الحديقة من خلف زجاج المطابخ
وكان نهارا جميلا
وصباحا مستسلما لرائحة البن
لم يستيقظوا
لم يستيقظوا أبدا.. (من قصيدة "الوداع")
تتلاءم الأصوات وتنسجم داخل هذه القصيدة التي حاول من خلالها الشاعر ترجمة انفعاله النفسي، موظفا التكرار بوصفه قيمة جمالية. هكذا نجد تكرار كل من ( كثيرون، كثيرون ـ الصباح ، صباحا ـ يستيقظوا ، يستيقظوا)، فجرس هذا التكرار اللفظي، يكثف الدلالة الإيحائية، ويمنح للقارىء مساحة حرة للتفاعل مع الإيقاعات التعبيرية المُتناولة، والتفكير في المفردات التي تحمل إيحاء نفسيا مفعما بالعواطف.
فالدكتورة أماني سليمان داود ترى بأن التكرار يضفي " ضربات إيقاعية مميزة لا تحس بها الأذن فقط، بل ينفعل معها الوجدان كله مما ينفي أن يكون هذا التكرار ضعفا في طبع الشاعر أو نقصا في أدواته الفنية، فهو نمط أسلوبي له ما يسنده في إطار الدلالة." 1
هذا التكرار الذي يضع الذات الساردة في بؤرة دلالية كي تخلق نوعا من الامتداد داخل النص. إنها ترجمة للمعاني الدفينة التي تقول الذات والآخر من خلال جمل انسيابية تعزز جماليته ، لاستقطاب اهتمام المتلقي من خلال رفع مستوى الإحساس بالقصيدة.
فمن خلال رحلته الشعرية لا نلمس غير الخيبة وانكسار الأحلام، فهل هي نزعة تشاؤمية استوطنت وجدان الشاعر العربي المعاصر؟
يقول:
بكثير من الصمت
والحنو
والنظرات الطويلة إلى الأبواب
وإلى الغمام فوق محطات القطارات
وفوق المقابر في أواخر الخريف
وبالموسيقى التي بلا أغان
وبلا راقصين
علينا أن نألف الوداعات
كما نألف أسرّة نومنا.
إن الحركات الداخلية للقصيدة تستحضر هزة عاطفية، تقدم في عُجالة مؤلمة حكمة الشاعر التي استخلصها من عذاباته:
( علينا أن نألف الوداعات
كما نألف أسرّة نومنا.)
فكما قال شارل بدلير في قصيدته LA MORT DES PAUVRES / موت الفقراء:
إنه الموت الذي يعزّي واحسرتاه
وهو الذي يحملنا على الحياة .
ضوضاء الذات:
يسرق الشاعر بنميلود الدهشة وهو يدعو القارىء كي يدخل إلى مدنه الجريحة التي تقرأ أسرار العواصف، فلماذا يضرب لنا موعدا فوق سهول ومرتفعات تمشي فيها القصيدة كدموع الشموع، يجتاحه غضب شتوي مثل غجري طريد..؟
يقول:
أنا شاعر من الطبقة الغاضبة
من العمال المسرّحين من الخدمة
والجنود الذين يكرهون الجنرالات
والنجارين الذين لا يملكون ورشة ولا أدوات نجارة
واليساريين المتطرفين الذين أنهكت الزنازين السرية أجسادهم
ولم تنهك أرواحهم.
إن (الأنا) المُغَيَّبة داخل البياض، قد خلقت توازيا مع المتن الظاهر، فبين إظهارها وإضمارها يجسد النص فعل الهوية.
و الشاعر؛ هو ذلك المتعدد في الواحد الذي يتنفس آلام البسطاء والمطحونين بين فكي رحى الوطن. إذ على أنقاض الإنسانية المفتقدة يشرب قهوة تمرده تاركا قلقه الوجودي كي يُفرد أجنحته المكسورة بين ثنايا واقع يستمد منه صوره الحسية.
يقول في أحد حواراته: "الكتابة الشعرية بالأساس هي موقف صارم وواضح من العالم، ومن الوجود، ومن السلطة، مفارق وصدامي، ويقدم بديلا جماليا، ضد القبح، وضد السلطة والظلم والجهل، ويكون انتصارا للحق والمعرفة والعدالة والإنسان. كل شعر أو أدب يفتقد لذلك يعاد فيه النظر في نظري".2
لكن؛ كيف سينساب الرماد النحيل من كفيه وهو ذاهب إلى اللامكان؟
لوحة من مرارة الاغتراب
إن الشعر؛ هو ذلك الجسر الضوئي الذي يمد حبال جماله بين الشاعر والقارىء، فبين نوتاته يتدفق ظله نهرا محاولا أن يغسل أوجاع الأرض.
ولكن؛ ماذا لو فرت الحروف أسرابا مثل غزالة يائسة نحو فجر بعيد ؟
يقول:
عبر المسرب الغامض
لم يعد لي مكان هنا
ولم يعد لي مكان في أي مكان
عيناي حزينتان
كرائحة قرنفلٍ قديم
مدقوقٍ بالزلزال
ضباب يتخطّفني
باب حديدي لأطلال دارنا الميتة
الحُجرات تحت الأرض
وعلى العتبة تجلس حياتي
سيجدونني معلقا في شجرة المدخل
بحبل البرق
لأصير غصنا يابسا
شبحا من حفيف
ريشة الطائر الشتوي الحزين
الثمرة المشنوقة
التي ترعب العالم.
من قصيدة " أنا ذاهب الآن"
إن أغلب قصائد الشاعر محمد بنميلود، مراثي لأحلام موغلة في المرارة والوجع، وتعب هائم في فلوات الروح. فهل هو اغتراب نفسي في أقصى تمزقه؟
يقول:
إننا نحبك أيتها المدن المشلولة التي ولدتنا ولادة عسيرة
وطردتنا كما تفطم الوحوش صغارها في العاصفة
ونحن نغادر
في قطار المحرقة القديم
في العربات الأخيرة
أو على نعش
نلوح لك بمناديل الغرباء
الذين بلا عائلات .
يدخلنا الشاعر إلى كهف مرعب وقاتم، تتحرك فيه عبارات تُسقط في ذاته أحاسيس حزينة، مستعملا كلمات دالة على الشجن الرهيب (المدن المشلولة/ نعش/ الوحوش/ العاصفة / الغرباء/ بلا عائلات).
إنها المدينة التي تطرد أبناءها رغم حبهم لها، فتسقط أقنعتها القاتمة تباعا وهي تدوس بأقدام اللامبالاة قلب الشاعر المرهف .
يذكرنا هذا بما قاله الشاعر صلاح عبد الصبور في "مذكرات الصوفي بشر الحافي"3:
ها أنت ترى الدنيا من قمة وجدك
لا تبصر إلا الأنقاض السوداء.
هذه الأنقاض التي يسندها الشاعر محمد بنميلود بقصائده، يقول:
في المساء
عائدا بصمت الخاسر
إلى خرائب المدن
أتكىء على الجدران الأخيرة
لا لأستريح
بل لأسندها.
فهل نحن أمام تجربة متفردة تلاكم الواقع بقفازات شعرية؟
يقول:
"أُكتبْ كأنّك داخل حلبة الملاكمة/ في جولة أخيرة/ مُخفيًا مسامير في القفّازات/ كمن يصفّي بوساخة حسابًا وسخًا مع الوجود."
هكذا يكتب الشاعر محمد بنميلود بحرقة ووعي، فشعره صدى لأزمات المواطن المطحون، وكأنه يقول مع الشاعر عبد المعطي حجازي في قصيدته "ميلاد الكلمات"5:
الكلمة تنمو بالدمعة
وليزرعها كل شقي مثلي ، عرف الجوع،
وعذابات الحب الخاسر.
قدح من ماء السرد
نجد في جغرافيا الشعر المغربي المعاصر شعراء عانقوا التجارب الإنسانية من خلال خطاب يلج الفضاء الحكائي. ويشتغل الشاعر/ السارد محمد بنميلود على السرد المباشر في العديد من نصوصه بعيدا عن اللغة الكثيفة الموغلة في المجاز، منصهرا في لغة اليومي الغنية ببساطة كلماتها. متجاوزا تعبيره الذاتي نحو أفق مشبع بتفاصيل يتقاذفها الزمن الماضي والحاضر.
يقول:
كانت لنا بلاد
كان لنا ب يت
كانت لنا عائلة وإخوة صغار من الكريستال
لكن الضباب جاء وغطى العالم
وحين انقشع الضباب
لم نجد العالم
نجلس كل مرة على رصيف سكة بعيدة
بحقيبة واحدة
دون أن نكون قد أتينا من مكان
أو ذاهبين إلى مكان
منازلنا محطات القطارات البطيئة
مطارات على أطراف المدن بسقوف عالية
ومراس فسيحة للسفن في الشتاء
منازلنا محطات
وأهلنا المسافرون
نتوسد حقائبنا
وننام بعين واحدة
محاذرين أن يسرق اللصوص بريق
الكريستال.
يُحَوِّلُ الشاعر نصه لوثيقة تتواشج فيها لغة الشعر والسرد بأسلوب غنائي، يغلب عليه طابع استرجاع ما كان. فهل هو صوت الذين فقدوا أوطانهم؟
لقد أخصبت قصيدته ظلالا وألوانا قاتمة، ترجمها معجم دال على الفقد والضياع مثل: (كانت لنا بلاد، بيت، عائلة،ضباب..غطى العالم، لم نجد العالم، منازلنا محطات القطارات..) ، إذ وظف حكاية تُشَخِّصُ موضوعا إنسانيا يرمي بظلاله على ما يجري في كل البلاد العربية التي اغتصبت حريتها، ليصبح العالم رقعة شطرنج صغيرة تضيق فيها أنفاسه، حتى فقد الإحساس بالأمان. (وننام بعين واحدة). يقول
مستحضرا قول الشاعر:
يَنَامُ بإحْدَى مُقْلَتَيْهِ وَيَتَّقِى // بِأُخْرَى الْمَنَايَا فَهْوَ يَقْظَانُ نَائِمُ
فبين تناقضات العالم، تناثرت ذات الشاعر المقهورة فوق عتبة الوجود، لتتسكع قصائده خارج السِّرب، مرفرفة في أفق سردي يتنامى عن طريق لغة تنهل من معجم نفسي غني بصور فنية، تحاول هدم الواقع المعاش لبناء آخر من خلال التخييل، فتتحول القصائد إلى أغنية خريفية ترمي بظلالها على فضاء مليء بالخيبات.
يقول:
العالم كله
يتجه
إلى أقرب حافة. (من قصيدة دخان)
فبقدر ما يضيق قدحُ العالم، يتسع سمرُ الشاعر محمد بنميلود الذي يتقاسم مناجاته مع الليل، محاولا أن يلملم شتاته من خلال قصائد تلتقط الألم بعدسة سينيمائية دقيقة، فهل (الحي الخطير) الذي يحمل عنوان أولى رواياته، كان مخاضا جماليا ليعانق عالم الكتابة، وليكون صوتا شعريا كثيف الإنسانية تتحرك أمام مراياه أزمنة وأمكنة تعلن عن ميلاد صرخاته؟
يقول
ولدتني أمّي بلا إخْوة
في الحيّ الخطير
كان عليّ
أن أدافع عن نفسي
بأظافر قطّة الميناء
والآن أيضًا
ها أنت ترى
لاشيء في العالم يتغيّر
بعد مرور الحِقب
سوى انهيار الإمبراطوريات
وتفرّق الصِّحاب بين القارّات
ملاحقين الغبار.
ظلال النهاية
هذا هو الشاعر محمد بنميلود الذي يحمل حطب ذاته ليتدفأ به المارون من عوالمه، والذي جعل من الكتابة خندقا كي يحمي هشاشته . يقول:"إنني أكتب الآن تقريباً فقط كي أدافع عن نفسي وليس كي أبدع، فالدفاع عن النفس وعن الوجود لا شك يسبق الإبداع، إن لم يكن إبداعاً في حد ذاته." 6
إنها المرارة التي يعيشها جيل بأكمله، كشفت عن رؤية إبداعية تحاول ترميم الذات من خلال رحلة البؤس والموت والانحطاط الذي يمر مثل الإعصار داخل نصوصه، باحثا عن الحرية وإعطاء قيمة للإنسان.
فهل سيجد بابا للخروج لعناق حلمه المطلق؟ يقول:
أبحث عن باب للخروج
لكن عدد الداخلين المستمر الغفير
يسد كل الأبواب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
• محمد بنميلود.. كاتب مغربي. يكتب الشعر والقصة والرواية
1. جريدة القدس العربي5 - نوفمبر – 2014/ حوارمصعب النميري
2. أماني سليمان داود: "الأسلوبية والصوفية دراسة في شعر الحسين بن منصور الحلاج"، دار مجدلاوي، عمان، ص 67 ، ط2، 2002
3. ديوان أحلام الفارس القديم،صلاح عبد الصبور. ص: 83 https://www.kutubpdfbook.com/book
5. ديوان مدينة بلا قلب، صلاح عبد الصبور ص: 77 / منتديات مكتبة العرب
6. https://al-akhbar.com/Kalimat/233007