يعدّ اليامين بن تومي اسما جزائريا لامعًا في سماء النقد والإبداع، وهو أكاديميّ بارز، تمكّن من فرض حضوره في الساحة النقدية والأدبية من خلال أعماله، ويعتبر من الجيل الجديد الذي عاصر مرحلة التطوّرات الحرجة التي عاشها المجتمع، ثم واكبها بكتاباته، ومن هذه الكتابات رواية "زنباية" التي حاولت مقاربة واقع المجتمع بصورة شاملة وبأبعاد متعدّدة، عبر رصد امتداد هذا الواقع تاريخيّا أوّلا، ثم تفحّص بنيته الثقافية ثانيا، ثم النظر في أفق طموحات الجيل الذي واكبه ثالثا، وضمن مفاصل سردية مكثّفة الترميز، يسوق الروائي الأحداث في اتجاه الانتقال بالمرحلتين الأولى والثانية إلى المرحلة الثالثة، بما يشكّل مقدّمة تضفي المشروعية على الأحداث اللاّحقة، وقد أثار اليامين بن تومي مجموعة من التساؤلات الضمنية لخلخلة تركيبة الأحداث وإعادة بناء تصوّرات القارئ حولها.
تشكّل رواية "زنباية" رؤية وتصوّرا مواكبا لمستجدّات الساحة الاجتماعية والسياسية، وفيها يدعو الكاتب إلى تأسيس وعيٍ يأخذ فيه الأفراد بزمام المبادرة المستقلّة خدمة للوطن، لكنه رغم هذا لا يغفل عن طرح القضايا التي تعوق مسار المُضيّ بالوطن قُدمًا، ومنها قضية بنية الشخصية الجمعية، التي رصدها عبر سؤال الهوية.
يبدأ سؤال الهوية في رواية اليامين بن تومي عبر مشهد من سفح ربوة، حيث الشخصية التي تترقّب ما يمكن أن يأتي هي سيدة متقدّمة في العُمر "نضرة"، وحيث الجهة التي تولّي شطرها إليها هي "الجنوب"، بكلّ ما يحمله هذا الاتجاه من معاني الجفاف والقسوة.. ويلخّص هذه المعاناة، مشهد الرحلة المستغرقة في الزمن، والتي سيتضح لاحقا في فصول الرواية بأنها تمتدّ من الماضي إلى الحاضر، وتستغرق في المكان، من الوطن (الجزائر)، إلى غاية العراق، ثم تعود إلى الأندلس في شكل حكاية على اللسان.
تشكّل الرحلة جوهرا لمفاهيم عميقة، فهي علامة على غياب الاستقرار وكثرة التقلّب وصعوبة التأقلم، بما تتضمنه هذه المعاني من إيحاءات الاضطهاد والسطوة على العقل والجسد، ويبدو أن الكاتب سيعمل من خلال الرواية الممتدة عبر مائة وثلاث وثمانين صفحة على إعطاء هذه المفاهيم مدلولاتها وتطابقاتها في الحياة، كما سيكشف عن ذلك التصادم الذي يظلّ ملازما للعلاقة التي تحكم السياسيّ (السلطة) بالجماهيريّ (الشعبي)، لكن رغم ذلك، فإن حالة التوتّر التي تهيمن على الأحداث تبقى مرتبطة بمشكلة البنية الثقافية للمجتمع ولا تطرح مشكلة تخصّ المكان وهو الوطن (الجزائر).
يرصد النصّ صراع توجّهات إيديولوجية لها علاقة بالسياسة، فالرواية تتطرّق إلى المرحلة الاشتراكية في الجزائر كتوجّه وخيار استراتيجيّ تبنّته الدولة، وتقابله بالإسلاموية كبديل أخذ ينتعش ويزحف على العقول ليحقّق مكاسب على الأرض، وهذه المكاسب هي عبارة عن الأشياع والأتباع الذين بدأوا يتكاثرون ويشكّلون عالما/ نظاما موازيا، وصل به الأمر حدّ منافسة الدولة في وظيفتها العمومية، سواء على مستوى التغطية الدعائية الدعوية، أو على مستوى الأخذ بزمام الأمر في الميدان عن طريق التدخّل المباشر تحت غطاء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ترصد الرواية الوضع الاجتماعيّ والسياسي لمرحلتين حسّاستين؛ الأولى هي المرحلة الاشتراكية، والثانية هي مرحلة المدّ الإسلامويّ الدعويّ التي واكبت المرحلة الاشتراكية، وعلى جانبي المرحلتين، يشير الروائيّ إلى مرحلة سابقة، لكن بشكل عفويّ ومن زاوية اجتماعية محضة، حيث يرسم مشاهد عامة يتشارك الناس فعالياتها، مما يعطي للقارئ الانطباع بأن تفاصيلها تشكّل انعكاسا طبيعيا لثقافة الجزائريين، وتتجلّى مظاهر هذه المرحلة في الملامح الصوفية من خلال الإيمان الغيبي الأسطوري الذي تلخّصه مظاهر أضرحة الأولياء الصالحين والكرامات والبركة، وغيرها من الطقوس التي تشكّل الذاكرة الجماعية، وهي مرحلة لا يخصّها الروائي بأيّ نقد ضمن عملية السرد، بل يمنحها المشروعية عن طريق تغييب انتقادها، ومرحلة لاحقة أخيرة، تعتبر بمثابة ردّ فعل للمرحلة الأولى الاشتراكية التي وصف الكاتب في سياقات كثيرة بؤسها، وهذه المرحلة الأخيرة هي مرحلة الجنون الإسلامويّ الذي انتهى بتفجّر الوضع وبداية زحف الموت على الأخضر واليابس خلال تسعينيات القرن المنصرم.
لم يفصل الروائيّ وطنه عن العالم، فقد ربطه روحيا بالعراق خلال اجتياح قوات الحلفاء له، كما ربط شخصية الجزائريّ بالتراث الأندلسي في سياق استرجاع بعض الوقائع المُنكرة، لكنه بالمقابل أشار إلى خصوصية جزائرية ثقافية، ربطها بالدينيّ، وتطرّق إليها من خلال المكوّن البشري الذي حصره في الأمازيغ، العرب، الإباضية، وميزاب، واعتبر هذه الكتل الثقافية لُحمة واحدة لا تُنتج مفارقات تصادمية، رغم أن نفيه لوجود المفارقات يبقى مرتبطا بمرحلة زمنية هي ما قبل تبلور المرحلة الاشتراكية والإسلاموية، أو في بداياتها.
أثارت رواية "زنباية" قضية قد تبدو غريبة للقارئ الجزائريّ، وهي قضية الصراعات الطائفية، والمشكل لا يكمن في هذه القضية بحدّ ذاتها، بقدر ما يكمن في الحجم الذي شغلته من حيّزٍ واهتمامٍ في العمل، وما يزيد من غرابة الموضوع هو طرح القضية على أنها صراع معقّد يأخذ شكل جبهات حربٍ، مما يدفع إلى الاعتقاد بأن الروائي بالغ في تصوّر الفكرة، أو لم يُعطها حقّها من التوصيف السرديّ الذي يبرّر تبنّيها، ولو بشكل غير مطابق للواقع.
وحديث الروائي عن الطائفية صاحبه إشارات إلى نوعين من الاختلاف، الأول هو الاختلاف المذهبي وكان صريحا عندما تطرّق إليه من خلال حديثه عن ميزاب وحديثه عن السنة والإخوان والإباضية، والثاني هو الاختلاف العرقيّ، واكتفى بالإشارة إليه من خلال الحديث عن الأمازيغ والعرب، رغم أن الاختلاف العرقيّ عنده لم يطرح مشكلة تبلغ درجة الصراع والتناحر.
بصمة المفكّر في رواية "زنباية" كانت واضحة جدا، حيث تدخّل الروائي أكثر من مرّة بالتوجيه والإشارة إلى بعض مدارات الجدل المعاصر، مثل تطرّقه إلى موضوع أسئلة الجسد وحديثه عن الديمقراطية في محطّات عابرة في خضمّ السرد، إلى جانب إصداره بعض الأحكام مثل اعتباره مشكلة الإباضية والسنة معركة في التاريخ (يقصد بأنها أحداث من الماضي)، كما تظهر ثقافة الكاتب الفقهية ومعرفته بالتفاصيل العقدية وقضايا الغيبيات باختلاف الآراء حولها، حيث تطرّق إلى مسألة تلبس الجنيّ بجسم الإنسيّ، كما يظهر بأنه تعمّد التوغّل في أعماق ما يسمى في الثقافة السنية بالشركيات، من خلال ذكر الأضرحة والتبرّك بالأولياء الصالحين، ولعلّ لربطه الخيط في السرد بين هذه المظاهر الغيبية ثم تعريجه بالحديث عن السنة التي تستند إلى المنطق الغيبيّ كذلك، رغم أنها تختلف فيه عن منطق الصوفية الذي تسميه بـ"القبوري"، ثم حديثه بشكل عابر مظلّل عن معاناة ابن رشد.. لعلّ في كلّ هذا ما يعكس قناعته المعرفية وتمجيده للعقل، وربما يكون الحجم الذي خصّصه سردًا لابن رشد من حجم حضور العقل في المجتمع العربي عموما ومجتمع بلاده خصوصا، كما أن من مؤشّرات توجّه الناقد الفكري، بناؤه لنصّ الرواية على أساس تمجيد الفكرة على حساب بناء السرد، وبه يمكن تفسير إيراد بعض المقاطع السردية حول شخصيات انتهى فضاء الحكي عنها بعد إعلان موتها، ليس لغاية سوى الإلمام بالفكرة التي هو بصدد بسطها وإعطائها فائض الحقّ في التقديم.
للإشارة، اليامين بن تومي، ناقد وروائي جزائري، صدرت له مجموعة من المؤلفات النقدية والأدبية، منها رواية "الزاوية المنسية" الحائزة على جائزة علي معاشي للرواية، وهو يشغل منصب أستاذ بجامعة سطيف، وصدرت الطبعة الأولى لروايته "زنباية" عام 2018 عن دار لوسيل للنشر والتوزيع في قطر، في 183 صفحة من القطع المتوسّط.